15-أكتوبر-2019

على قوى الحرية والتغيير إعادة النظر في علاقتها مع التيارات الشبابية الثورية (Getty)

انتشرت الأيام الفائتة في الأوساط السودانية من مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات لتسيير مواكب لمنطقة اعتصام القيادة العامة، وغيرها من الأماكن ذات القيمة الرمزية، للمناداة بمطالب متعددة ومتنوعة تدور كلها في فلك رفض الاتفاق، أو بنود من الاتفاق الذي تم بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، للمطالبة بتغييرات جذرية في شكل النظام الجديد وسلطات وصلاحيات مكوناته المختلفة، بالإضافة للتأكيد على ملاحقة مجرمي النظام البائد، والتعامل الجاد والمسؤول مع التحقيق في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، وتقديم مرتكبيها للعدالة.

على قوى الحرية والتغيير إعادة النظر في هذه العلاقة، بينها وبين التيارات الشبابية الثورية، وفي طريقة تعاملها مع الجماهير ككل

أثارت هذه الدعوات قلق السودانيين على فترتهم الانتقالية، المتربًّص بها من قبل أعداء داخليين وخارجيين، وأنشأت استقطابًا حادًا في المواقف بين داعمين لتسيير المواكب، يرون في الاتفاق الذي تم نوعًا من الهبوط الناعم الذي لا يمثل الثورة ولا يطوي صفحة الأمس، ومناوئين يرون أن التظاهر ضد الحكومة الانتقالية، يمنح فرصة ومنفذًا للمتربصين وفلول النظام السابق، والقوى المضادة للثورة لركوب الموجة الجديدة، وعملًا غير مسؤول يتعجل النتائج ويضعف الحكومة، والتي هي في أشد الحاجة للدعم الشعبي والالتفاف الجماهيري في هذه الفترة العصيبة والحساسة من تاريخ السودان.

ومن نافل القول أن كلا الرأيين يحملان بعضًا من الحقيقة، ويستحقان النقاش الجاد لتقريب وجهات النظر، للوصول إلى منطقة وسطى تضمن وحدة الصف الوطني وتسمح للثوار من الجانبين بالتعبير عن هواجسهم، والتي تمليها عليهم ضمائر حية وحس وطني سليم ومن روح الثورة نفسها، والتي من مصلحة السودانيين أن لا تنطفئ خصوصًا في ظروف الفترة الانتقالية، المهددة والمثقلة بتركة النظام السابق والدولة العميقة وتحديات الواقع الماثل الصعبة والشائكة.

اقرأ/ي أيضًا: تركة البشير البالية.. دولة موازية تؤرّق السوادنيين

ولكن في الأمس القريب خرجت علينا القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير في مؤتمرها الصحفي، بتصريحات وانتقادات لدعاوى المواكب والتظاهرات، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها غير موفقة، إذ تشكك تلك التصريحات في دوافع المنادين بالمواكب وتعمل على ترسيخ الانقسام بين رفاق الأمس، الأمر الذي سيؤدي لنفس النتيجة التي تحاول قوى الحرية تلافيها، بتصريحاتها غير المسؤولة وموقفها السلبي الكسول، الشيء الذي يمكن أن يفقد الحكومة الانتقالية التفاف طيف واسع من الشباب الثائر، والذي يمثل أهم الدعامات والركائز التي صعدت على اكتافها هذه القوى ذاتها، لتنصب نفسها ممثلا للثورة وللشعب السوداني.

ومن الواضح أن الجماهير الثائرة تسبق هذه القوى السياسية الحزبية بمسافات، فقد اتسم الرأي العام في نقاش المواقف من هذه الدعوات، بروح من التسامح تعمل على تعزيز الوحدة الوطنية وإسكات الاصوات المشككة والمخوِّنة، والتأكيد على حرية التعبير بل وحتى وحدة الأهداف، ولكن مع اختلافات طبيعية ويمكن حتى أن نطلق عليها صحية، تتعلق بالوسائل والأساليب للوصول لهذه الغايات، وهو أمر صبغ جميع مراحل ثورة ديسمبر المجيدة وما تلاها من منعطفات ومنعرجات، قادت في آخر الأمر للوضع الحالي، والذي يحمل كثير من جماهير الشعب السوداني الثائر بعض التحفظات عليه، ولكنهم يدعمونه لأنه يبني ويؤسس لسودان يكون فيه التغيير للأفضل ليس ممكنا فقط وإنما هو ديدنه وطريقه ومسلكه.

كان من الأفضل لقوى الحرية والتغيير بدلًا عن أن ترمي أصحاب دعوة التظاهرات من أجل العدالة، بالاتهامات الجزافية والتبرؤ من قواعدها الثورية، وحتى لا تجعل منها هي ذاتها عالة تخصم من رصيد الحكومة الانتقالية، أن تفتح آذانًا صاغية ونوافذ للضوء تؤسس لعلاقة جديدة بين الجماهير والنخب السياسية، علاقة لا تتسم بروح التعالي والانغلاق، وإنما بمنطق التداول والتواصل، ولكنها اختارت الانكفاء على أساليبها القديمة، كأن لوثة النظام السابق الشمولية والأحادية المتعصبة، التي حاربها السودانيون بلا هوادة، لم تخرج منها بعد. إذ تتعامل هذه القوى بذاكرة ومخيال عصر ما قبل الثورة، حيث ينقسم الناس بالنسبة لها لنوعين، إما معها أو ضدها، وهي وجهة نظر خاطئة وخطيرة وتمثل تهديدًا جديًا لمجمل مكاسب ثورة الشعب السوداني، المتنوع والمتعدد المشارب والتوجهات، والذي ما خرج للشوارع بالهتافات إلا للإفلات من قيد الخطاب الشمولي المتسلط، الذي لم يدع مجالًا للناس يعبروا فيه عن آرائهم بحرية ودون تخوين، ولم يسمح بتوفير قنوات لتوصيل تلك الآراء، إلا ما عزز من سيطرته وهيمنته على البلاد.

الجماهير الثائرة تسبق القوى السياسية الحزبية بمسافات، فقد اتسم الرأي العام في نقاش المواقف من هذه الدعوات، بروح من التسامح تعمل على تعزيز الوحدة الوطنية وإسكات الاصوات المشككة والمخوِّنة

على قوى الحرية والتغيير إعادة النظر في هذه العلاقة، بينها وبين التيارات الشبابية الثورية، وفي طريقة تعاملها مع الجماهير ككل، والتي لاقت انتقادات واسعة في أكثر من مرة، ويجب عليها التحلي بروح المسؤولية، وأن تؤسس لممارسة جديدة إيجابية وفاعلة، تضمن سماع الأصوات المختلفة التي تتفق معها في أهداف الثورة وإعلان الحرية والتغيير، والذي هو السبب الوحيد لالتفاف الناس حول هذه القوى. فالجماهير التي أطاحت بنظام عمر البشير الشمولي المتسلط، والذي رسخ نفسه طوال الثلاثين عامًا الماضية في جميع مفاصل الدولة السودانية، وعمل على إسكات الناس بالقوة الغاشمة والتغييب القسري وحتى القتل والاغتيالات، هذه الجماهير قادرة على الإطاحة بقوى الحرية والتغيير التي يبيِّن أداؤها المتردد وضيق صدرها بالآراء المخالفة، هشاشتها وضعفها، على عكس جماهير الشعب السوداني التي لم توفر جهدًا في سبيل البحث عن مخرج من عنق الزجاجة، و"التي أعطت وأعطت وأعطت ولم تأخذ شيئًا" بعد. كما يقول المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في سفره الخالد "السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصا أو معجزات (1-4)

جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية