تحدثت في وقت سابق عن التدافع الإقليمي والدولي المتسارع على السودان في الفترة الماضية. وتبدى هذا التدافع بصورة أكثر حدة في الشهرين الأخيرين مع اقتراب انتهاء العملية السياسية المبنية على الاتفاق الإطاري الموقع عليه بين المكون العسكري ومجموعة من القوى السياسية أبرزها مجموعة المجلس المركزي بقوى الحرية والتغيير التي كان قد أطاح بها انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 الذي نفذه المكون العسكري نفسه الذي وقعت معه أطراف الإطاري في كانون الأول/ديسمبر 2022، وتمضي معه في عملية سياسية تواجه تحديات حقيقية على هشاشتها الشديدة هذه المرة، والمتمظهرة في انقسام المدنيين وآثار فترة الحكم الانتقالي الماضية (2019 - 2021) على ثقة الشارع بقوى إعلان الحرية والتغيير التي كانت تحظى بتأييد كبير في فترة الثورة السودانية، وفقدت جزءًا مقدرًا منه نتيجة للأزمات التي واجهتها في الحكم، وعجزها عن تحقيق تطلعات شرائح واسعة من المحتجين، في ظل شراكة متعثرة مع العسكريين، لم تكن محل إجماع من السودانيين عقب مجزرة فض الاعتصامات في العاصمة والولايات في حزيران/يونيو 2019.
ما يحدث اليوم في الخرطوم يشبه تفاصيل قبيل فض الاعتصام والنكوص عما وصلت إليه مفاوضات القوى المدنية مع العسكريين وقتها
وتزداد التحديات التي تواجه العملية السياسية في مرحلتها النهائية في ظل مقاطعة مجموعات كبيرة لها، أبرزها قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) التي انخرطت بدورها في حوارها الخاص ضمن مبادرة القاهرة التي قاطعتها أطراف الإطاري بعد أن وصفتها بأنها "منبر للثورة المضادة". وتضم الكتلة الديمقراطية حركات مسلحة موقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان ومشاركة في السلطة الحالية ضمن استحقاقات الاتفاقية، وأهمها حركة جيش تحرير السودان بقيادة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم، ما يزيد من هشاشة الإطاري الذي يبدو أنه يمر بلحظة حرجة نتيجة للتطورات الأخيرة، وذلك على الرغم من الدعم الغربي الظاهري الذي يحظى به.
ويقاطع الاتفاق الإطاري ومبادرة القاهرة معًا، تحالف قوى التغيير الجذري الذي يضم مجموعة من التنظيمات السياسية والأجسام أبرزها تجمع المهنيين السودانيين (السكرتاريا المنتخبة) والحزب الشيوعي السوداني. ويدعم هذا التحالف الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب وإسقاط الانقلاب عبر تكوين جبهة عريضة لقيادة العمل المقاوم السلمي دون التفاوض أو الشراكة مع العسكريين.
وفي ظل هذا التشظي تحط طائرات قادة الدول والمبعوثين الدوليين ووزراء الخارجية وحتى رؤساء المخابرات في الخرطوم، في تدافع محموم، لم يكن السبب الرئيس خلفه فقط موقع السودان الجيوسياسي المهم والاستقطاب الحاد الذي يشهده الإقليم والمجتمع الدولي كل على حدة، إلى جانب أزمة سد النهضة - وإنما أيضًا تدافع الأطراف السودانية نحو العواصم في المنطقة والعالم، حتى ولو كانت "تل أبيب".
الموسم اليوم أيضًا مفتوح في الخرطوم، وكالعادة هي من فتحت أبوابها في البدء ووزعت الدعوات، وهو يشبه إلى حد كبير المشهد المكرر في منعطفات ما بعد الثورة قبل فض الاعتصام وقبيل انقلاب 2021. وكانت الخرطوم في كل تلك المرات محطة لطائرات الدول والمخابرات والطائرات الخاصة، ليتغير المشهد السياسي في السودان بعدها بساعات بما يتوافق مع التوازنات الجديدة ومساحة الحركة التي اقتلعها الطرف المستقوي بالوفود الدولية.
ما يحدث اليوم يشبه تفاصيل قبيل مجزرة "فض الاعتصام" والنكوص عما وصلت إليه مفاوضات القوى المدنية مع العسكريين، حين تكثفت الزيارات الخارجية وتصريحات قادة المجلس العسكري الانتقالي نتيجة للضغط الذي واجهوه للتخلي عن السلطة. وكانت أهم محطات تلك الزيارات مصر والسعودية والإمارات، وتكررت القصة نفسها قبيل إجراءات تشرين الأول/أكتوبر 2021 التي شهدت تصعيدًا مشابهًا في التصريحات ووفودًا إسرائيلية وزيارات مصرية تزامنت مع الانقلاب.
المشهد اليوم يشبه ذلك إلى حد بعيد، فبمجرد مغادرة طائرة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، تغيرت النبرة التوافقية في الخرطوم، وصرح المكون العسكري بعدها مباشرةً بأن الاتفاق الإطاري لن يمضي كما تريد قوى الحرية والتغيير، وأنه يجب فتحه وتعديله بما يضمن إشراك أكبر قدر من القوى السياسية، وهو أمر لا ترفضه مجموعة المجلس المركزي، ولا حتى الآلية الثلاثية الميسرة للعملية السياسية، ولكن وفق شروط ترى الحرية والتغيير أنها ضرورية لعدم إغراق الاتفاق بقوى صورية أو مجموعات تدعم الانقلاب وتقف ضد التحول المدني الديمقراطي في السودان أو تأتي بفلول النظام الذين ما يزالون يتمتعون بمساحة حركة واسعة من مواقعهم في شتى مفاصل الدولة والمجتمع السوداني.
وكان رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان قد صرح في تموز/يوليو 2022 بانسحاب الجيش من العملية السياسية، وهو ما طفق يؤكده في كل سانحة منذ ذلك الوقت، ولكن تحركات المجلس في كل مرة تقول عكس ذلك، خاصةً التصريحات الأخيرة عقب زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي والوفد المرافق له، وأيضًا تدشين ورشة القاهرة ضمن المبادرة المصرية.
التصريحات الأخيرة لأعضاء المجلس العسكريين المنتقدة لمجموعة الإطاري عقب التقارب الذي كان سائدًا منذ التوقيع عليه في كانون الأول/ديسمبر الماضي، توحي بتغيرات جديدة في الساحة، وتزيد من الشكوك الشعبية تجاه نجاح العملية السياسية في إنهاء الأزمة الناجمة عن الانقلاب أو تحقيق مطلب الشارع في مدنية الدولة، وهي شكوك لها ما يعززها في انقلابات نفس المجموعة في 2019 و2021، وتسارع الأحداث عند الاقتراب من التوصل لاتفاق - المطابق لما يحدث الآن.
ومن المهم في هذه العجالة الإشارة إلى التعميم الصحفي لأحد أهم الداعمين للاتفاق الإطاري، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو -بالتزامن مع زيارة كوهين- الذي قال فيه إنه لم يكن على علم بزيارة الوفد ولم يلتق به. ويمكن قراءة ذلك مع تصريحات عضو السيادي الفريق أول كباشي اللاحقة بضرورة دمج الدعم السريع في القوات المسلحة لتكوين جيش وطني "بعقيدة واحدة".
تصريحات كوهين نفسه عقب الزيارة توضح أن للعسكريين رأي آخر ونية في الاستمرار في السلطة؛ فوزير خارجية الكيان أكد في مؤتمر صحفي عقب زيارته إلى الخرطوم، أن الأيام المقبلة حبلى بمزيد من التطبيع بين السودان وإسرائيل، ينتهي بتوقيع الخرطوم على اتفاقات أبراهام في "تل أبيب".