في كانون الثاني/يناير 2018 أعلن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير رفع الدعم بشكل جزئي عن المحروقات والقمح فارتفع جراء ذلك القرار سعر قطعة الخبز من (50) قرشًا إلى واحد جنيه، وقوبلت تلك الإجراءات باحتجاجات سارعت قوى الأمن بقمعها وتوسيع رقعة الاعتقالات وحبس النشطاء والمعارضين لفترات طويلة. وما لبثت الاحتجاجات أن تجددت في خواتيم العام في كانون الأول/ديسمبر 2018 حينما تظاهر الآلاف في مدينة عطبرة التي تبعد عن العاصمة السودانية حوالي (400) كيلومتر إلى الشمال، بعد انعدام الخبز وارتفاع سعر الواحدة منه إلى ثلاثة جنيهات، لكن تلك المرة لم يفلح القمع في وقف الاحتجاجات التي تدحرجت مثل كرة الثلج وعمت كل أنحاء البلاد وتحولت شعاراتها لمناداة صريحة بإسقاط النظام، وتواصلت حتى أطاحت بالنظام وألقت برئيسه في السجن حبيسًا.
مساعي وزير المالية لإصلاح العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية تترتب عليها جراحة مؤلمة
عثرات إنقاذ الاقتصاد المنهار
وبعد تولي الحكومة الانتقالية للحكم واجهت متاعب موروثة من النظام البائد الذي أفقر البلاد وفاقم من تعقيداتها الاقتصادية وتبدو المعادلات صعبة أمام وزير ماليتها إبراهيم البدوي. الذي يسعى لإصلاح علاقات السودان مع المؤسسات المالية الدولية مما يترتب عليه جراحة مؤلمة قد تقود الحكومة للخروج من سوق القمح برفع يدها عن الدعم وخصخصة هذا القطاع تلبية لاشتراطات صندوق النقد الدولي نظير قروض مالية لإنقاذ الاقتصاد المتعثر منذ سنوات، ما ينذر بارتفاع أسعار الخبز وصعوبة التكهن بتقلبات الأسواق وتأثرها على زيادة أسعار السلع بجانب السخط الشعبي المتوقع حال أقدمت الحكومة على اتخاذ هذه الخطوة.
اقرأ/ي أيضًا: مجموعة أصدقاء السودان.. طوق نجاة أم رحلة تيه جديدة؟
وانتقل القمح منذ سنوات طويلة من خانة السلعة العادية إلى سلعة إستراتيجية هامة تؤثر في صناعة القرار السياسي والاقتصادي معًا، فمن استهلاك لا يتجاوز نصف مليون طن سنويًا ارتفع استهلاك البلاد للقمح إلى (1.5) مليون طن بقيمة (800) مليون دولار تعزوها الحكومة إلى تهريب الدقيق لدول الجوار، فالسودان يقع بين سبع دول بحدود مفتوحة كما أن الخرطوم تشكو من صعوبة مراقبة الحدود مع جيرانها.
شروط الصندوق تحرج الحكومة
وتصطدم رغبة الحكومة السودانية في تفادي رفع أسعار الوقود والقمح بالشروط القاسية لصندوق النقد الدولي الذي يمارس ضغوطًا بربط التعاون والدعم المالي بسداد المديونيات المتراكمة على السودان ورفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية لإقراض السودان. وهي الاشتراطات التي اضطرت وزير المالية السوداني إلى التصريح عنها، برفع الدعم عن السلع مقابل منحة مالية وزيادة الرواتب للقطاع العام لمواجهة الزيادات المتوقعة في الأسعار.
وتمكن السودان من السيطرة بشكل نسبي على مشكلة تمويل واردات القمح بالمساعدات التي قدمتها السعودية والإمارات في نيسان/أبريل الماضي بقيمة ثلاث مليارات دولار، ذهب أغلبها لشراء الوقود والقمح. وبحسب تصريحات وزير المالية فإن هذه المساعدات ستمكن السودان من تأمين واردات القمح والوقود حتى حزيران/يونيو القادم الأمر الذي جعل الحكومة السودانية تخطط للبحث عن تمويل استيراد القمح والوقود بعد تلك الفترة.
اقرأ/ي أيضًا: فرنسا ماكرون ونادي باريس.. رهان "حمدوك" لإعفاء الديون
ولجأت الحكومة الانتقالية فور تشكيلها في تموز/أغسطس الماضي إلى صندوق النقد الدولي الذي يواجه هو الآخر حائطًا منيعًا بسبب بقاء السودان في قائمة الإرهاب التي تضعه فيها الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1993 بتهمة استضافة قادة إرهابيين ومجموعات متطرفة وتهديد المصالح الأمريكية والسلم العالمي.
نصائح الأصدقاء المزعجة!
وحمل مؤتمر أصدقاء السودان الاقتصادي الذي عقد في واشنطن الشهر الماضي نصائح واضحة للحكومة الانتقالية برفع الدعم عن الوقود والقمح استجابة لشروط المؤسسات المالية الدولية، ومنذ ذلك الوقت أصبح وزير المالية الذي شارك في المؤتمر بحسب مراقبين اقتصاديين يختبر ردود الأفعال بإطلاق تصريحات بضرورة رفع الدعم الحكومي وهي تصريحات غير مقبولة للسودانيين الذين أطاحوا بالبشير لأسباب تتعلق بشح الخبز والوقود وبيعهما في السوق السوداء بأسعار مضاعفة.
لكن بالمقابل يحتاج السودان إلى المؤامة مع الاقتصاد العالمي بالخروج من الدعم السلع الأساسية (القمح، الوقود والطاقة والأدوية) مقابل دعم الشرائح الاجتماعية الفقيرة لحمايتها من تأثير الهزة الاقتصادية التي يمكن أن تحدثها عملية وقف الدعم الحكومي، في ذات الوقت يقرض صندوق الدولي الحكومة بحوالي ثمانية مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات لبناء احتياط نقدي للبنك المركزي، وتحقيق تنمية صناعية وزراعية تدعم الاقتصاد المنهك، وبالتالي تضمن المؤسسات الدولية عدم توجيه القروض لدعم السلع، لأنها تسعى إلى استرداد قروضها من عائدات التنمية الاقتصادية.
انهيار المشاريع الزراعية القومية
وتواجه خطة الإنعاش الزراعي في البلاد بمشاكل كبيرة نسبة لانهيار المشاريع الزراعية القومية إبان عهد البشير، وسن قوانين عطلت وافقرت المزارعين كما أن آلاف الهكتارات الزراعية أصبحت محل نزاع بين الاستثمارات الأجنبية والسكان المحليين في بعض المناطق الطرفية، وعلاوة على ذلك لا يمكن إنشاء بنيات تحتية للزراعة دون الحصول على تمويل دولي.
اقرأ/ي أيضًا: حروب الأرض في السودان.. مناجم الذهب عنصر جديد في خريطة الصراعات الممتدة
ويرفض السودانيون تصريحات وزير المالية برفع أسعار القمح والوقود، ويطالبون بإجراءات اقتصادية لا تقترب من السلع التي تدعمها الحكومة، وبمجرد الإشارة إلى رفع الدعم يعيد المواطنون تذكير الحكومة الانتقالية أن الاحتجاجات الشعبية أطاحت بالبشير لأنه قرر السير في معالجة الاقتصاد على حساب ملايين الفقراء بنزع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية رغم إمكانية تفادي ذلك بحلول أخرى.
المحلل السياسي الحاج وراق العائد للبلاد بعد سنوات من المنفى الاختياري كان من أبرز المحذرين من الاقدام على هذه الخطوة، حيث حذر وزير المالية من رفع الدعم عن السلع الأساسية وأبرزها القمح والوقود، مشيرًا إلى أن هذه السلع تؤدي إلى اضطرابات سياسية واقتصادية.
مواطن: زيادة أسعار الخبز والوقود أمر غير مقبول لأن الثورة جاءت لإيقاف هذه الزيادات والحديث عن الدعم الاجتماعي غير منطقي أيضًا لأن التضخم يبتلع كل شيء
ويقول المواطن عماد حسن (44) عامًا "زيادة أسعار الخبز والوقود أمر غير مقبول لأن الثورة جاءت لإيقاف هذه الزيادات والحديث عن الدعم الاجتماعي غير منطقي أيضًا لأن التضخم يبتلع كل شيء".
وكان رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك قد صرح في أيلول/سبتمبر الماضي عقب لقاء له مع بعثة صندوق النقد في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بإمكانية حصول بلاده على قروض من الصندوق لكن حتى الآن لا تزال هذه العملية بعيدة التنفيذ. وقال ممثل الصندوق في إفريقيا في مؤتمر عقدته منظمة بريطانية بأن السودان ينبغي أن يسدد ديون قديمة للصندوق تتجاوز (14) مليار دولار.
وينصح محللون اقتصاديون الحكومة السودانية بالسيطرة على إنتاج الذهب وتخفيض استيراد سلع غير مطابقة للمواصفات وتنمية تحويلات المغتربين في البنك المركزي التي توفر مليارات الدولارات لتمويل استيراد السلع الأساسية، عوضًا عن انتظار إجراءات قد تطول داخل أروقة المؤسسات المالية الدولية بجانب فواتيرها الباهظة التي تؤثر على الطبقات الاجتماعية المسحوقة.
اقرأ/ي أيضًا