17-نوفمبر-2019

ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش (Getty)

سنوات وهذه الأوراق تختمر، وغلالات التسويف تخنقها، ثم بعد أن أغرقنا دمع اليأس والشعور بالذل والهوان بسبب النظام البائد، انتفض المارد، وهبّ الصغار في الشوارع يطالبون بحقهم في الحياة، وينتزعون مستقبلهم من بين أنياب الطغاة. هبّ المارد كما تصوره الأفلام ذات الإنتاج العالي، من كل الشوارع، من كل المدن، فكأن حصى الأسفلت وغبار السنوات المتراكم من جنود الله في هذا الغضب، والنيل شريان هذا المارد والغابة والصحراء رئتاه.

أفتح هذه الكتابة في اللغة والحب والسياسة، بحرية سلام وعدالة؛ وهل الحرية إلا اللغة حين تتقافز حروفها فرحًا بالميلاد

فعدنا للكتابة، وللحياة بكرامة، سودانيون نتحدى العالم بالصبر.

 فليعش سوداننا عَلمًا بين الأمم

أفتتح هذه الكتابة في اللغة والحب والسياسة، بحرية سلام وعدالة؛ وهل الحرية إلا اللغة حين تتقافز حروفها فرحًا بالميلاد، أو حين تنزوي مطرقة صامتة من شدة الحزن؟! في كلا الحالين، اللغة هي انعتاق الكلام من سجن النفس. وإنّا لنأملُ أن تكون هذه المساحة، متحررة بالأمل والأمان من غلالات اليأس والخوف، نكسِّر فيها سويّة تلك الأسوار المظلمة التي بناها الظلم حول عقولنا وصدورنا، على مدى ثلاثة عقود.

اقرأ/ي أيضًا: رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟

الصمت عن الحق، نصر للباطل، ذلك الصمت عدونا الأول؛ فهو صنو الجهل وابن الخوف، باللغة نعبّر عن ذواتنا، وعن مجتمعاتنا، وبها نجسِّر للمدنية التي نريد، مدنية نتفق فيها على أن نمنح بعضنا حريّة التعبير، فنحاول فهم اختلافاتنا، فإن لم يكن نتعلَّم ونعلِّم بعضنا تقبُّلها، وأحيانا تجاوزها. هذه فرصة لكل الأطياف أن تقدِّم طرحها الفكري في أمن وأمان لكن دون تعصب، ودون احتقار أو إساءة للآخر، فليس هذا أوان الشد والجذب، بل هو أوان الاتزان والوقار والفكر الجاد. هذا الشعب المبهِر بصبره وكياسته يستحق أن تُعامله التيارات السياسية والفكرية بأعلى درجات الاحترام والاحترافية، وأول مظاهر ذلك ضبط اللغة والعناية به، ولعل في تجربة خطابات تجمع المهنيين ما يبيّن توق الشعب السوداني إلى خطاب يُراقِص مستواه الثقافي وشوقه إلى الاحترام اللغوي.

الحريّة هي عمود ميزان كفتيه السلام والعدالة، الوعي بهذا المثلث، هو جسرنا للسودان الذي نريد. لكن ما هي الحرية التي لها "ننده"؟ هل لها حدود؟ هل هي الديمقراطية أم الاقتصاد الحر أم حقوق الأقليات ...الخ؟

"للمفهوم الليبرالي للحرية أساس ميتافيزيقي، يتم بموجبه تصور الحرية على أنها تكمن في غياب العوائق من أمام الفعل (بالتالي) تحدد الفعل على أساس من الرغبة والمشيئة، ويفصل عدد من المفكرين بين المناقشات المتعلقة بالمفهوم الميتافيزيقي أو الأنطولوجي للحرية وبين مفهوم الحرية في السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية" كما يقول رجا بهلول.

دعوني أتجرأ وأبدأ تفكيك هذه الفقرة من ورقة رجا بهلول التي عنوانها (الحرية ومعوقات الفعل)، خارج إطار الفلسفة، لننظر إليها كقنبلة علينا أن نفككها بحذر حتى لا تنسفنا أجمعين؛ ذلك أن الحرية التي تعلو باسقة من جذر (حرر) تجمع بين أصليها اللذين ذكرهما ابن فارس في مقاييس اللغة، أولهما: ما خالف العبودية، وبرئ من العيب والنقص، والثاني: خلاف البرد، ولعل الحريّة تمردت على ابن فارس وأعرضت حتى لم يجد بدًّا من تعريفها بالأضداد. الحريّة المبرأة من العيب والنقص، حرة حارقة لا يكاد يحتملها كف، إلا كما قال الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم- "كالقابض على الجمر".

اقرأ/ أيضًا: الحقّ في الفوضى

إنّ تصور الحرية على أنها تكمن في غياب العوائق أمام الفعل، ليتحدد على أساس من الرغبة والمشيئة يقتضي النظر إلى الفاعل فردًا، وإلى مجموعة الفاعلين جماعة، وإلى العلاقة بينهما معًا. إن الحرية التي نحاول الوصول إليها هي حرية تراعي حقوق الآخرين، تزيل من أمام الفرد جميع المعوقات التي تعترض حرية اختياره وتصرفه، شرط أن لا يتقاطع ذلك مع حرية الآخر وأن لا يعيق فعله. معنى ذلك أننا نتحدث عن حرية تكفل لك لبس ما تشاء وتحميك من أن يُعتدى عليك، بصيغة أخرى أنها حرية لا تعطيك حق الإساءة إلى غيرك اعتراضًا على مظهرهم، أو معتقداتهم أو انتماءاتهم السياسية، وتمنحك مع ذلك حرية اللجوء إلى القضاء حال تعرضك لخدش حياء، وحق ملاحقة بعض الكيانات السياسية لتورطها في قضايا فساد (إهدار المال العام/ استغلال السلطة والنفوذ، سفك الدماء...)، يجب أن لا نغفل الجزء الثاني بأي حال من الأحوال، الجزء الذي نطلب فيه من الآخرين ممارسة حريتهم دون المساس بحرياتنا.

من الطرافة بمكان ما يذكره أكثر المؤصلين لمصطلح الحرية في الإسلام، إذ ينفون وجودها في المصطلحات الإسلامية، إلا بمعنى "ما خالف العبودية

من الطرافة بمكان ما يذكره أكثر المؤصلين لمصطلح الحرية في الإسلام، إذ ينفون وجودها في المصطلحات الإسلامية، إلا بمعنى "ما خالف العبودية"، استنادا إلى آيات العتق والقصاص، وإلى نحو قول عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". في تعريف المصطلح هو لفظ يدل على مفهوم محدد في مجال محدد، مثلا: الشِّرك في العقيدة مصطلح يفهم منه إشراك غير الواحد القهار معه في اعتقاد ألوهيته، لكنه في باب البيوع من الاشتراك في الأصل المادي، فالجذر واحد، والمعنى النووي (الاشتراك) لكن المجال/ الحقل المعرفي جعل المفهوم يختلف. في "الحرية" الأمر مختلف قليلًا، إذ الأصل في الإسلام الإباحة ما لم يرد نصّ يُحرَّم أو ينهى أو يُثبِت كراهة الفعل، ومدار ذلك مقاصد الشريعة من حفظ للدين والنفس والعقل والنسل والمال؛ دفعًا لإيقاع الضرر على الذات أو الآخر، وهو ذات مفهوم "الحرية"، فكأن المسلمون في مجتمع المدينة عاشوا التأسيس المفهومي، قبل ظهور المصطلح، الذي هو بالمِثْل حديث الورود في الأدبيات الغربية، ويشير إلى ذلك المفكر المغربي محمد المصباحي بوضوح في قوله: "من البيّن أن مفهوم الحريّة مفهوم حديث، يعبِّر عن حساسية وأفق فكري ما كان ليوجد في الفكر الفلسفي للحقبتين اليونانيّة والعربية الإسلاميّة. فما كان يُعتبر حرية في الأزمنة السابقة عن الحداثة، وهو الوعي بالضرورة العقليّة والسببيّة الطبيعية والجبر الديني صار ينظر إليه اليوم من قبيل العبودية؛ وما كان يُعتبَر عبوديّة إزاء الأهواء والشهوات والنزوات الفكرية والجسدية، أضحى حريّة بالمعنى الحديث للكلمة" (ابن رشد، الدار البيضاء 2006، ص 41).

بالعودة إلى مجتمع المدينة، وقول الفاروق: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟"، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ أهل الحديث ردوا رواياته، ولو أنها صحّت لكان السياق يدل على مفهوم الحريّة التي نتحدث عنها الآن، والاستدلال على أنها بهذا اللفظ مخالفة للعبودية حال كون العبودية تعوق من الفعل المباح.

ها هي الحريّة تتمرد بطبيعتها على الضبط والتقعيد والتعقيد، وتأبى إلا أن تشرّق بنا وتغرّب بين اللغة والسياسة والدين، إلى أن نعود للحديث عنها بين اللغة والسياسة والحب، بين الحريّة والسلام والعدالة.

 

اقرأ/ي أيضًا

"مدنياااااااااو".. مقدمة لمرجعية أكاديمية

الفن والأخلاق