16-أكتوبر-2023
طفلة تستطلع كتب لمكتبة الأستاذ دهب

طفلة تستطلع كتب لمكتبة الأستاذ دهب

ذهب الرجل إلى معسكر أبو شوك للنازحين في مدينة الفاشر ليستطلع أمرًا، بعد أن نوي على تنفيذ حدث كبير. المعسكر بعد أن كان يقبع عند التخوم القصية للمدينة قربته السنوات من قلبها، وصار مع الوقت وكأنه جزء منها أو أحد أحيائها المفصلية وليس معسكرًا مؤقتًا لاستيعاب الفارين من حرب دارفور، على أمل عودتهم القريبة إلى قراهم و"حلالهم" الأصلية. أكثر من (20) عامًا مضت على قاطني المعسكر المؤقتين ولم يحدث شيء أو يتغير شيء، سوى الزحف صوب المدينة أو اقتراب المدينة الحثيث من المعسكر، وميلاد المئات من الأطفال المنبتين عن مواطنهم، نشأوا هنا، ودرسوا هنا، بعضهم جرفته الحياة وأغرقته كوابيس السودان، وآخرون مضوا بثبات في سبيل الكفاح السوداني العظيم.

ذهب الأستاذ دهب إلى معسكر أبوشوك للنازحين في مدينة الفاشر يستطلع أمرًا بعد أن خطط لشيء عظيم

ذهب الأستاذ دهب إلى معسكر أبوشوك للنازحين في مدينة الفاشر يستطلع أمرًا بعد أن خطط لشيء عظيم وكان ذلك قبيل اندلاع الحرب الكبرى بأيام فقط.

فكرة نيرة

قبل زيارة معسكر أبو شوك بنحو سبع سنوات، وفي أحد أحياء مدينة الفاشر، المدينة التاريخية وعاصمة ولاية شمال دارفور؛ وفي ذات يومٍ عادي تفتقت فكرة غير عادية بذهن الشاب مالك دهب، الذي كان وقتها يشتغل بالتجارة والزراعة ويمارس اهتمامته المعرفية الخاصة المتعلقة بالقراءة والمثاقفة والتشارك مع آخرين في محاولات طرد أشباح الخراب التي باتت تحاصر السودان بأكمله وليس دارفور فقط. "اليد قصيرة وما باليد حيلة"، ربما هكذا فكر دهب وأصدقاؤه وهم يحسون بعجزهم عن إحداث التغيير المطلوب في مواجهة عصابات الظلام والإجرام المتحالفة، التي تسيطر على البلاد وتحكم قبضتها الجهنمية. بيد أن الشاب دهب، متجاوزًا الحاضر المحبط، بلور فكرته وليدة العصف الذهني واعتلاها محلقًا صوب المستقبل، ومستقبل هذه البلاد؛ وأي بلاد، تبنيه سواعد وعقول شبابها وأطفالها الصائرين قادة المستقبل القريب جدًا.

المعرفة حق

يقول دهب لـ"الترا سودان" إنه حين أفضى بفكرته إلى المقربين منه، كان الأطفال والطلاب في مدن وقرى دارفور يتعلقون بنشاط جديد ومغرٍ يبعدهم تمامًا عن مقاعد الدراسة وحقول الزراعة ومراعى الماشية! إنها طريق مختصرة لجني المال وانقاص سنوات الحياة بصورة سحرية: إما أن تتحول خلال عام أو عامين إلى رجل يمتلك السيارات والأطيان والزوجة، أو تنتهي حياتك وتترك الأطيان والسيارات لأهلك وللزوجة إن أسعفك الوقت وتزوجت! ذلك طريق الجندية والكلاش ومدافع الهاون، طريق الارتزاق والالتحاق بنيران الحروب الدائرة في المنطقة العربية هنا وهناك. لماذا إهدار السنوات إذن؟ فلنذهب ونقاتل ونكنس الدولار أو يكنسنا الموت!

 يقول الأستاذ دهب: "ترسخت الفكرة في ذهني وآمنت بها، وبدأت فعليًا في تنفيذها كمشروع في العام 2016 واخترت لها مسمى (مشروع مكتبات مالك دهب الخيرية للأطفال)، وذلك بمجهود شخصي نابع من إيماني بأن القراءة هي المنقذ الوحيد للأجيال القادمة. تبلورت رؤيتي لإنشاء وإحياء المكتبات العامة للأطفال والشباب في كل مدن وقرى السودان الكبير، مع التركيز على ولاية شمال دارفور".

الأستاذ دهب وسط التلاميذ
الأستاذ دهب وسط بعض التلاميذ والمعلمين

"المعرفة حق"، ذلك كان هو الشعار الذي رفعه دهب وهو يحمل فكرته مترحلًا بها من مكان آخر إلى داخل مدينة الفاشر أولًا، ثم بعد ذلك في كل بقاع وبوادي ولاية شمال دارفور قبل أن يفرد شراعه ويظلل كل أركان البلاد.

"المعرفة حق" يقول دهب لـ"الترا سودان" ويضيف "أخذت على عاتقي أن أسهم، ولو بالقليل، في جعل هذا الحق مشتركًا ومتاحًا للجميع، لسد الفجوة التي يخلقها نقص المعرفة في أي شخصية".

بدأ دهب وبمجهود فردي في تجميع أدواته وآلياته الحربية، التي سيحتاجها في المعركة الكبرى التي قرر خوضها، وإن كان منفردًا: الكتاب في مواجهة الكلاش.

رحلة طويلة وشاقة تلك التي بدأت بتجميع الكتب العلمية والثقافية لتكون النواة الأولى لمشروعه الكبير، وأن تشكل تلك الدرقة والسلم الذي "يجعلنا نرتقي اجتماعيًا وثقافيًا وأخلاقيًا، ويساعدنا في التركيز على الحد من مشاكلنا المتكررة مع دورات الحروب والديكتاتوريات والعنف التي لا تنتج سوى شخصيات تتميز بقلة الحيلة وقبول الاعتماد على الواقع على سوئه".

راية الاستنارة

في الوقت الذي كانت فيه الجيوش العسكرية تجوب وديان وجبال وسهوب إقليم دارفور، كان الأستاذ دهب يحتقب مشروعه الكبير بـ "كتبه، وأدواته المكتبية، وأغانيه، وأمانيه وأحلامه"؛ مثل جنرال نقيض لجنرالات الحروب الدموية، يفرد راية الاستنارة والوعي في مقابل رايات الموت والتجهيل.

طفلة وعلم السودان ولافتة مكتبة الأستاذ دهب
طفلة في مكتبة فراشات الإبداع بمدينة الفاشر

بعد سبع سنوات -أو يزيد قليلًا- من الكفاح ضد قوى التجهيل الرسمية وغير الرسمية التي تحاول تطويق البلاد وإقعادها، تمكن "المناضل" دهب من إنشاء (55) مكتبة للأطفال موزعة على محليات ولاية شمال دارفور المختلفة. أما خارج الولاية فأنشأ مكتبة ثقافية للأطفال بمدينة كادوقلي بولاية جنوب كردفان، ومكتبة للأطفال المصابين بالسكري بمدينة الدويم بولاية النيل الأبيض. علاوة على مكتبتين في مدينتي الدمازين والرصيرص بمنطقة النيل الأزرق، وأخرى في مدينة الدلنج بولاية غرب كردفان، إضافة إلى مكتبة بمدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، ومكتبة بمنطقة مايو جنوب الخرطوم، بينما بلغ عدد الكتب التي تم توزيعها خلال هذه السنوات أكثر من (220) ألف كتاب ثقافي وتربوي وتعليمي.

شغف الصغار

يقول دهب "المتضرر الأكبر من الحرب هم شريحة الأطفال، لذا لا بد من إيقاف الحرب بأي شكل من الأشكال والتفكير في كيفية معالجة آثار الحرب وتداعياتها والقيام بالعلاج النفسي والاجتماعي والثقافي لأطفالنا حتى يخرجوا من حالة الرعب التي أصابتهم جراء الحرب.. وهذا الأمر يحتاج إلى وقت أطول".

لم يتوقف المربي دهب عند حدود المكتبات التي شادها للصغار في شمال دارفور ومناطق السودان المختلفة، فبعد أن لمس أثر القراءة على تكوين الأطفال وحجم التلهف الذي باتوا يبدونه وهم يتخاطفون الكتيبات ويتسابقون في سرد وتلخيص محتواها فيما بينهم؛ بعد أن لمس بنفسه هذا الشغف اللذيذ خطرت له الفكرة الملهمة: لمَ لا يؤلف هؤلاء الصغار حكاياتهم وقصصهم ويروونها بأنفسهم ثم تطبع في كتيبات توزع في ذات المكتبات؟

يقول المعلم دهب في حديثه لـ"الترا سودان": "كانت الفكرة أن يستلهم هؤلاء الأطفال حكايا ومشاهد بيئاتهم المحلية ويحولونها بعد ذلك إلى قصص مسرودة تطبع في كتاب. أن يتحدثوا عن علاقتهم بالأرض والزرع والأمطار والحيوانات الداجنة التي يرعونها في الفضاءات الخضراء التي تحيط بهم. أن يتحدث -من رأى منهم وعايش- عن أثر الحرب والحريق الذي ضرب دارفور وتجربة الفرار والنزوح، أن يتشكل -على مهل- وعي رافض للخراب، يقدس قيم الأمن والسلام والمحبة.. أن نوظف التراث والأحاجي والقصص الشعبية في عمليات التنشئة الاجتماعية، أن تتوفر لنا مكتبة مدرسية نابعة من البيئة المحلية".

أطفال ولوحات في مكتبة
نشاطات الأطفال بمكتبة من مكتبات الأستاذ دهب

بدأ مشروع استكتاب الأطفال في عدد كبير من مكتبات دهب لتعليم الأطفال، بمشاركة وتعاون واسعين من قصاصين ومعلمي لغة وسراد محليين، أقيمت عشرات الورش التعليمية للصغار، إلى أن تمكنوا من قص حكاياتهم وصياغتها في مسودات تحولت إلى كتب مطبوعة مصحوبة بالرسومات التي شكلها أيضًا أطفال.

يقول دهب: "لتعميم فكرة استكتاب الأطفال بشمال دارفور نسقنا مع مؤسسة بادر لثقافة الطفل التي يرعاها الأستاذ الفاتح زبد البحر. نفذنا عددًا من إصدارات قصص الأطفال علاوة على تنفيذ ورش للكتابة الإبداعية للأطفال بالولاية، واستطعنا طباعة خمسة كتب بأقلام الأطفال".

رقمية أبو شوك

في زيارته تلك إلى معسكر أبو شوك للنازحين، قبيل الحرب بأيام، كان الأستاذ دهب مزودًا بسلاح جديد ومشروع جديد وهو "المكتبة الرقمية"، التي اختار – بعد تفكير وتمحيص – أن يكون مقرها مخيم النازحين،  الواقع شمال مدينة الفاشر.

يقول دهب: "جلست مع شباب المخيم المهتمين بالشأن الثقافي والتعليمي، ثم جلست مع المدير الإداري للمخيم وتم منحي مساحة داخل المخيم لأشيد فيها المكتبة، خططت لكل هذا ولم أكن أملك فعليًا الأموال اللازمة لتنفيذ المشروع. وبدأت أفكر في كيفية التواصل مع بعض الجهات حتى أتمكن من إيجاد "كرفانات - حاويات"  لتكون المقر بعد صيانتها وتجهيزها".

انطفأت المكتبات ونهبت الأدوات وضاعت الكتيبات الصغيرة للأطفال

ذلك كان المشروع الأخير قبل أن يضطر دهب إلى الخروج من مدينة الفاشر ومن ولايات دارفور، ومن السودان بأجمعه بسبب الحرب التي اندلعت بجنون، منطلقة هذه المرة من القلب متمددة باتجاه الأطراف. انطفأت المكتبات ونهبت الأدوات وضاعت الكتيبات الصغيرة للأطفال.. ذلك مشروع لم يكتمل، وذلكم هو المقاتل دهب، وتلك كانت حربه ضد الجهل والكراهية والفناء.. وهناك حلم لا بد أن يتجسد يومًا وينتصر.

بانر الترا سودان