لا يختلف السودان كثيرًا عن محيطه الجغرافي في انتشار حالات الإخفاء القسري والاعتقالات للمعارضين السياسيين والنشطاء. كما أن حملات الاعتقالات والمطاردة تتكثف أيام الاحتجاجات ودعوات التظاهر أكثر من غيرها، فيما لا تزال السجون تكتظ بمئات الشباب الذي خرجوا في التظاهرات الأخيرة، أُطلق سراح بعضهم، والبقية تقبع داخل الزنازين، على أمل أن تغشاهم نسمات الحرية.
تحوّلت حالات الإخفاء القسري في السودان، إلى ما يشبه الألغاز والطلاسم، حيث فشلت الصحافة والتحريات الرسمية المزعومة، في فض غموضها
أما حالات الإخفاء القسري، وعلى قلتها، فقد تحولت إلى ألغاز وطلاسم، فشلت الصحافة والتحريات الرسمية المزعومة في فض غموضها.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة الخبز في السودان.. مقاومة بالحيلة لمناورات السلطة
لغز بلا حل
ولعل أشهر حالات الإخفاء القسري التي شهدتها بداية الألفية الجديدة، أي قبل نحو عقدين من الزمان، هي الفترة التي اختفى فيها الكادر الإسلامي الشاب محمد الخاتم، والشاعر أبو ذر الغفاري ذو الميول اليسارية، والبروفيسور عمر هارون أستاذ علم النفس في جامعة الخرطوم. أمّا مُؤخرًا، فقد أُخفي قسريًا، الشاب محمد محمود أبوكشوة، الذي اتضح لاحقًا أنه معتقل لدى جهاز الأمن، بعد بلاغات ومناشدات من أسرته للكشف عن مكانه ومصيره.
ففي ليلة شديدة البرودة من ليالي العام 2005، غادر محمد الخاتم منزله بالخرطوم على نحو طبيعي، دون أن يثير قلق أسرته، أو يترك خيطًا يقودهم إلى تتبع آثاره. كان محمد الخاتم وقتها أحد أشهر الكوادر الطلابية في صفوف الحزب الحاكم، وقد شهدت تلك الفترة صراعات سياسية عنيفة داخل الجامعات، وداخل قطاع الطلاب بحزب المؤتمر الوطني نفسه.
مرت الأيام والشهور وظل سؤال "أين اختفى محمد الخاتم؟" بلا إجابة. ولم تفلح حتى الجهود الرسمية في الوصول إلى معلومة تقود إلى مكانه، ما شكل لغزًا محيرًا إلى اليوم. ليلحق محمد الخاتم بالشاعر السوداني أبو ذر الغفاري، صاحب الأغنية الشهيرة "في عيونك ضجة الشوق والهواجس" والذي خطفته سيارة من داخل منزله بضاحية "الحاج يوسف" شرق الخرطوم في بداية تسعينات القرن المُنصرم.
لا أحد يعلم أين اختفى محمد الخاتم ولا من خطف أبو ذر الغفاري. حتى الشرطة، تقول إنها فشلت في العثور عليهما، وكذلك الحال مع الأستاذ الجامعي عمر هارون الذي يدخل عامه السادس منذ اختفى في 2012.
وبالضرورة شكلت تلك الحالات مثالًا ناصعًا لمصائر مجهولة، تخص سودانيين من اليمين واليسار، تقترب إلى حد ما من مفهوم الإخفاء القسري والذي يعني اصطلاحًا "اختطاف أو حرمان من الحرية تنفذه سلطات الدولة على شخص، ويتبعه رفض تلك السُلطات الكشف عن مكان وجود الشخص أو مصيره"، رغم أنه يصعب في هذه الحالات توجيه اتهامٍ مباشرٍ للسُلطة الحاكمة بالضلوع في تلك الإخفاءات، وفي الوقت نفسه يصعب تبرئة ساحتها، عوضًا أن المسؤولية العدلية والقانونية تطالها بمختلف الأحوال!
دكتاتوريات الإخفاء والاعتقال القسري
فكرة الإخفاء القسري والاعتقال، في الدول الرازحة تحت حكم الأنظمة الدكتاتورية، سواءً في أفريقيا أو آسيا أو أوروبا الشرقية سابقًا، يقول عنها الكاتب والناشط القانوني حاتم إلياس، إنها "إحدى هواجس المواطنين والمدافعين عن حقوق الإنسان ودولة القانون".
وأوضح حاتم إلياس في حديث لـ"ألترا صوت"، أنّ الإخفاء القسري يتم خارج الأطر الشرعية والقانونية التي تقنن عملية القبض والزج في السجون. "المبدأ الحقوقي والقانوني الأصيل، يُؤكد أنّ الإنسان بريء بالضرورة ما لم تثبت إدانته في جريمة تعرضه للعقاب"، يقول إلياس مُؤكدًا: "بذلك تكون البراءة الأصلية هي القرينة القانونية الطبيعية لكل إنسان".
أشد أنواع الإخفاء القسري الذي كان في التسعينات حيث كان الشباب يُختطفون من الشوارع للتجنيد الإجباري في الحرب بجنوب السودان
وفي هذا السياق أشار إلياس إلى قضية الشاعر أبو ذر الغفاري باعتبارها "إخفاءً قسريًا"، وكذا لحالة الطبيب الشيوعي علي فضل، الذي قتل جراء التعذيب ضمن ضحايا ما يعرف بـ"بيوت الأشباح" (أماكن سرية للتعذيب والقتل تحت إدارة السلطات السودانية)، وزعمت الحكومة أنه مات بسبب الملاريا.
اقرأ/ي أيضًا: الحركة الطلابية في السودان.. هروب من السياسة إلى العمل الأهلي
ويُؤكد حاتم إلياس أنه حتى في بعض الفترات الأكثر "ديمقراطية" من غيرها، التي مرت بها السودان، لم تخل من الإخفاءات القسرية والاعتقالات، وإن كانت بمستوى أقل.
وتعد أعنف حوادث الإخفاء القسري والاعتقالات، تلك التي شهدها عهدا الرئيسين الراحل جعفر نميري والحالي عمر البشير. "في عهد نميري كان زوار الليل سمة بارزة. والاعتقالات كانت تتم على الشبهات"، يقول حاتم إلياس، مُستدلًا بقصيدة شهيرة للشاعر الراحل محجوب شريف، في وصف تلك الأوضاع: "زولاً تكوسوا وتشتهي لا يقولوا ليك ما في لا في السجن لا مختفي"، وعبارة "تشتهي" بمعنى "تشتاق له" في الدارجة السودانية.
وأشد أنواع الإخفاء القسري تلك التي شهدتها فترة حملات التجنيد الإجباري في التسعينات، حين كان الشباب يُلقى القبض عليهم من الشوارع وأماكن عملهم، ويُرحّلوا قسريًا للحرب في جنوب السودان. وكثير منهم لم تتعرف أسرهم على مصيرهم.
محمد أبو كشوة.. نموذج لجريمة متجددة
ولعل آخر نماذج الإخفاء القسري، ما تعرض له الشاب محمد محمود أبو كشوة، الذي أبلغت أسرته في منتصف شباط/فبراير الجاري، عن تعرضه للإخفاء القسري على يد قوة مسلحة بزي مدني، اختطفته من مكتبه بضاحية الرياض وسط الخرطوم، واقتادته لجهة مجهولة.
وبعد بحث مضن وعدة بلاغات، عرفت الأسرة أن ابنها معتقل لدى أجهزة الأمن، رغم نفي الأخيرة بادئ الأمر. وهذه الحالة يفسرها القيادي الشاب بالمؤتمر الشعبي راشد دياب، بتعدد الجهات الأمنية وتداخل اختصاصاتها واهتماماتها ومجال عملها، مشيرًا في حديثه لـ"ألترا صوت"، إلى أنه لا يمكن الوصول بسهولة للجهة التي نفذت الاعتقال، خاصة إذا كان اسم الشخص المتعرض للإخفاء القسري، غير مرتبط بنشاط سياسي أو حزبي معروف.
وحسب راشد دياب، فغالبًا ما تكون هذه الحالات، مرتبطة لدى الأجهزة الأمنية باتهامات حساسة مثل "التخابر مع جهات أجنبية" أو "تخريب الاقتصاد الوطني". وبصرف النظر عن صحة هذه الاتهامات أو جديّتها، لكن في هذه الحالات لا يُمكن لأسرة المُختطف الوصول لمكانه وحدها، لذا فإنها تلجأ لمنظمات حقوق الإنسان، بعد تقديم البلاغات للجهات المعنية.
تعرض الشاب محمد محمود أبو كشوة للإخفاء القسري مدة نحو أسبوع، قبل التوصل لاحتجازه لدى السلطات الأمنية السودانية رغم نفيها بادئ الأمر
ويشدد راشد دياب على أن الحقوق الأساسية للمواطن السوداني أيًّا كان توجهه السياسي، فلا بد أن تكون مكفولة وفقًا للدستور وحقه الأساسي في الطلاقة وحرية المسعى، قائلًا إن "من واجبات السلطات المعنية أن تتوخى الحيطة والحذر اللازمين في توجيه التهم للمواطنين، وعدم استخدام القوة المفرطة عند القبض عليهم"، مع الأخذ في الاعتبار تقديمهم بعد ذلك لمحاكمات عادلة بأعجل ما تيسر ووفقًا للقانون.
اقرأ/ي أيضًا:
"الرجل البمبان" في السودان.. تصاعد وتيرة الاحتجاجات والقمع والاعتقالات