"ذهبت إلى شارع القصر حتى أتمكن من مقابلة البرهان مرتين. رأيت سيارات البرهان على مشارف بوابات القصر الرئاسي وعندما اقتربت منه، رفع الجنود السلاح في وجهي؛ فأخبرتهم بأنني أريد مقابلة البرهان وردوا عليّ بأنهم لن يسمحوا لي بمقابلته مطلقًا".
كانت تلك مقدمة فيديو لوالدة الطفل المفقود محمد عبدالمنعم الذي راج خبر اختفائه على مواقع التواصل الاجتماعي.
محامي لـ"الترا سودان": حالات الاختفاء القسري وفق آخر رصد أكثر من (23) حالة ومدة اختفاء الطفل محمد عبدالمنعم هي الأطول
اختفى محمد في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي بوسط الخرطوم. وشوهد آخر مرة مصابًا بحالة اختناق بالغاز المسيل للدموع، وأسعفته طبيبة، وأدلت بإفادتها في أعقاب اختفائه بعد أن تعرفت عليه من خلال صوره المنتشرة على الإنترنت تحت لافتة فقيد موكب الثلاثين من تشرين الثاني/ نوفمبر.
يُعرّف الاختفاء القسري طبقًا للمادة الثانية من الاتفاقية الدولية بأنه "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده مما يحرمه من حماية القانون".
ووافق السودان في شباط/ فبراير من العام الماضي على اتفاقيتي "مناهضة التعذيب" و"الاختفاء القسري" من قبل حكومة عبدالله حمدوك، ولم تكتمل إجراءات الانضمام إلى جانب البروتوكولات الملحقة المعنية بتشكيل آلية حماية.
تقول زينب عز الدين عكاشة والدة الطفل المفقود محمد عبدالمنعم في تصريح لـ"الترا سودان" إن أول تظاهرة شارك فيها محمد كانت 17 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي. وتضيف: "عندما عاد إلى المنزل بدأ في الحديث مع والده عن مشاركته في التظاهرات المناهضة للانقلاب الذي قاده الفريق أول عبدالفتاح البرهان". وتتابع زينب: "حكى لوالده عن تمكنه من إرجاع ثلاث عبوات غاز مسيل للدموع بعيدًا عن المتظاهرين حتى لا يتضرروا منها، وكان سعيدًا بمشاركته في المظاهرة".
وبحسب زينب، نصح زوجها (والد محمد) ابنهما وطالبه بعدم المشاركة في التظاهرات لأن القوات الأمنية تتعامل ببطش وعنف مفرط مع المتظاهرين، ونبهه إلى أن الأطفال يجب ألا يشاركوا في التظاهرات تجنبًا للعنف.
والدة الطفل محمد: كان من المفترض أن يجلس لامتحانات الشهادة الثانوية وينتظر مع أقرانه "بقلق" النتيجة لأنه يطمح إلى أن يكون طبيبًا
وأفادت والدة المفقود محمد عبدالمنعم أن مدير وحدة حماية الأسرة والطفل تنصلت عن مسؤوليتها عندما علمت بأنه اختفى بعد مشاركته في تظاهرة. وأوضحت لهم أن الأمر ليس من اختصاص وحدة حماية الأسرة والطفل، وأنه تقصير من أسرة السماح لطفل بالمشاركة في الاحتجاجات ضد السلطة الحاكمة - طبقًا لزينب.
وتضيف زينب والدة محمد عبدالمنعم المفقود منذ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر العام الماضي أن ابنها كان من المفترض أن يجلس لامتحانات الشهادة السودانية وينتظر مع أقرانه "بقلق" النتيجة لأنه يطمح إلى أن يكون طبيبًا.
ويفيد مشعل الزين محامي يتابع حالة اختفاء محمد عبدالمنعم بأن حالات الاختفاء القسري وفق آخر رصد بلغت أكثر من (23) حالة، موضحًا أن حالة محمد تمثل أطولها مدةً منذ الانقلاب والطفل الوحيد. وقال الزين في تصريحٍ لـ"الترا سودان" إنهم يبذلون جهدًا عند كل موكب للتأكد من وجود المتظاهرين في الأقسام الشرطية لإبلاغ الجهات العدلية والنيابة بوجودهم والبدء في إجراءات إطلاق سراحهم. ويشرح الزين: "بموجب القانون السوداني يتحمل وكلاء النيابة والقضاة مسؤولية الإشراف على المعتقلات ومواقع الاحتجاز بما في ذلك السجون ومراكز الشرطة وإبلاغ الأهالي عن وجود أبنائهم فيها للبحث عن فرص الدفاع عنهم".
وأضاف مشعل الزين المحامي أن حالات الاختفاء القسري أسلوب "ممنهج ومقصود" من الجهات الأمنية التي تسعى بعد الاعتقال إلى إخفاء الأشخاص عن طريق توزيعهم على جميع الأقسام والمكاتب الأمنية بنية الإخفاء القسري، موضحًا: "إلا أننا نتمكن -من خلال تحركاتنا- من معرفة المحتجزين وأماكن احتجازهم".
ويرى ناشطون حقوقيون أن التحدي الأبرز في السودان يتمثل في نقص البيانات المتعلقة بحالات الاختفاء القسري، إذ لا يحتفظ السودان بسجلات رسمية للأشخاص المختفين قسريًا. وحسب ناشطين، إلى وقت قريب لم تحتفظ حتى منظمات المجتمع المدني ببيانات مفصلة عن جرائم الاختفاء القسري.
وأشار تقرير لـ(هيومن رايتس ووتش) صدر في أبريل الماضي إلى وجود حالات اختفاء قسري في السودان. وذكر التقرير أن الأوامر في الخرطوم باحتجاز شخص ما، أو تمديد احتجازه، أو إطلاق سراحه تُدار فيما يبدو من خلال اللجنة الأمنية المشتركة للولاية التي تضم ممثلين من جميع القوى الأمنية ويرأسها والي ولاية الخرطوم.
وقالت (هيومن رايتس ووتش) إن غياب الرقابة الكافية من قبل النيابة العامة والقضاء، كما يقتضي القانون، يزيد من خطر الاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري. ووجدت المنظمة الحقوقية أنه بالإضافة إلى فقدان الحرية، فإن تأثير الاعتقالات التعسفية على حياة المحتجزين وأقاربهم "كان عميقًا".
وحسب المحامية نون كشكوش عضوة محامي الطوارئ، فقضية الاختفاء القسري في السودان ارتبطت بالنظام السابق ضد معارضيه سياسيًا، وشهد المجتمع أكبر حالات اختفاء قسري بعد الإطاحة بنظام الإنقاذ، في قضية مفقودي مجزرة فض الاعتصام القيادة العامة التي كونت لها لجنة تحقيق عملت على كشف المقابر الجماعية والمشارح.
وتقول كشكوش إن أحد التحديات في الوقت الراهن أن النيابة العامة "لا تعمل بصورة مستقلة وتخضع للسلطة التنفيذية". وتوضح: "لذلك فإن عملها مقيد ولا يساعد في الكشف عن المعتقلات السرية ولا زيارة السجون والحراسات وأماكن الاحتجاز غير المعلنة". وتضيف كشكوش أن "مليشيات الدعم السريع لديها معتقلات لا تخضع لإشراف النيابة العامة".
وأوضحت نون كشكوش أن السودان ليس لديه قانون للاختفاء القسري حتى الآن، لافتةً إلى ضرورة المناداة بإصدار قانون لمكافحة الاختفاء القسري، ومبينةً أنه منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي تم رصد (10) حالات اختفاء "في ظروف غامضة" أثناء أو بعد انتهاء المواكب.
وقالت سارة حمدان عضوة اللجنة الإعلامية لمبادرة "مفقود" لـ"الترا سودان" إن الأطفال المفقودين -حسب رصد المبادرة- هم محمد عبدالمنعم منذ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي ومزمل كامل منذ 5 آب/ أغسطس الماضي، لافتةً إلى أن أسرًا كثيرةً لم تقم بالتبليغ عن مفقوديها.
ومن جانبه، تساءل الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة العميد عبدالله بشير البدري إذا كانت حالات الإخفاء القسري قد دونت في يوميات التحري أم لا، مبينًا أنه في بعض الحالات يعمد بعض الأشخاص إلى تضخيم الحوادث وفتح بلاغات بحالات إخفاء "لم تحدث في الواقع". وأوضح في تصريحات لـ"الترا سودان" أن هناك بلاغات سياسية (لف ودوران) بقصد تحريك الشارع العام، لافتًا إلى أنهم في الشرطة يحاولون حماية الممتلكات من الإتلاف بسبب تأثير الجو السياسي الحالي، متهمًا السياسيين بـ"استغلال الوضع لأجندتهم الخاصة".
العميد عبدالله: هناك بلاغات سياسية (لف ودوران) بقصد تحريك الشارع العام
وأفاد العميد عبدالله بشير البدري في حديثه لـ(الترا سودان) بأن بعض الجنود فقدوا أجزاء من أعضائهم بسبب التظاهرات. وقال إن بعض المواطنين يواجهون الشرطة بالحجارة، مضيفًا أنهم على الرغم من ذلك "يتعاملون بحكمة ويحمون المواطن من نفسه أولًا ومن السياسيين" – على حد تعبيره. وذكر أن معظم حالات القتل التي يروج بعض الناس أنها تمت في تظاهرات "ليست صحيحة"، لافتًا إلى أن حالة الوفاة تكون طبيعية لو كان مريضًا، واصفًا الأمر بـ"الصيد في المياه العكرة".
وختم البدري إفادته لـ"الترا سودان" قائلًا إن ما يتم من إحراق وإتلاف لأقسام الشرطة ومركباتها "ليست طريقة مناسبة للتعبير عن رفض الحكم العسكري أو غيره".