11-يوليو-2020

30 حزيران/يونيو 2020 (Voice of America)

"طق الهشاب دمع هشابة ليه تبكي

ردت علينا القول حرقوا التبلدية

دارفور يا طيبة يا أرضًا اشتاقت 

جلماي وطورية عجنوا الحقوق بالدم 

خبزوكي منسية"

مقطع من بيان تنسيقية لجان مقاومة أحياء الخرطوم شرق لدعم اعتصام نيرتتي.


كلِ من فكر في أن ثورة كانون الأول/ديسمبر أخذت تنحرف عن مسارها الجذري الآخذ رويدًا رويدًا في التشكل إلى مجالٍ قاعدي ــ تشاركي، كان يفكر في الثورة من خلال بنيتها  السياسية الفوقية، ليصبح بهذا الضرب من التفكير الفوقي مسجونًا هو وعقله وموقفه السياسي النخبوي بين جنبات هذه البنية المفارقة لبنى الواقع الثوري الجديد الآخذة بدروها في التبلور والتشكل رويدًا رويدًا من مرحلة إلى أخرى من مراحل الثورة، ومن طور إلى آخر من أطوار  فعلها الجذري. 

برهنت مواكب 30 حزيران/يونيو 2020، على عمق واستمرارية المد الثوري للقوى الشبابية والشعبية

فها هي مواكب 30 حزيران/يونيو 2020، قبل أيامٍ معدودةٍ، تبرهن على عمق واستمرارية المد الثوري للقوى الشبابية والشعبية. فطوال مراحل الثورة وأطوارها، أخذت قوى الثورة الشبابية والشعبية تتشكل وتشكل في آنٍ واحد واقعها الجذري الجديد والذي لا يزال في طوره الجنيني، حيث أخذت تتراكم الممارسات الثورية اليومية للجان المقاومة شيئًا فشيئًا، ممهِدة هذه التراكمات بدورها إلى ولادة حالةٍ دائمةٍ من التثوير الاجتماعي للفعل الثوري ولمضامينه وأهدافه وأجندته السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة القيادة والنخب.. ملاحظات في ذكرى الاستقلال

ويمكن القول، وبعد مرور عامين على الثورة، أن المضامين الاجتماعية للفعل الثوري أخذت تتسع دوائرها وتشغل مساحات في الواقع اليومي أكبر من نظيرتها السياسية. وإذا كانت هذه الأخيرة هي التي أخذت تغذي الفعل الثوري وتمتن موقف الناس السياسي في مرحلة الاحتجاجات الأولى التي قادت إلى إسقاط النظام الإسلاموي القمعي الدموي، وهو ما عبرت عنه شعارات الحراك الشبابي والشعبي في تلك المرحلة السياسية الحاسمة من الثورة آنذاك، فإن حراك 30 حزيران/يونيو في العام الماضي قاد الثورة في اتجاهاتٍ جديدةٍ، أخذ من خلالها الفعل الثوري يتجذر اجتماعيًا  في تربة الحياة اليومية وفي تفاصيلها وممارساتها العادية. وما قاد إلى هذا التحول، من الطور الاحتجاجي ــ السياسي إلى الطور الجذري ــ الاجتماعي الآخذ الآن في التشكل رويدًا رويدًا إلى مجال قاعدي ــ تشاركي، أي إلى أكثر من كونه موقف سياسي مرحلي متمحور حول هدفٍ واحدٍ هو إسقاط النظام، هو أن "البيت" أو "المنزل" تحول بعد صدمة مجزرة القيادة العامة إلى أداة تجميع وتبئير وإحياء وإشعاع للفعل الثوري مجددًا.

اقرأ/ي أيضًا: تسعة أعوام على الاستقلال.. الأسى يطغى على الفرح

إن صدمة مجزرة القيادة جعلت الجميع يحتمون ببيوتهم آنذاك، في الوقت الذي كانت فيه دبابات العسكر ومدرعات المليشيات تمشِط الشوارع وتحرس الطرقات، مرهصةً باكتمال معالم انقلابٍ وشيكٍ. لكن سرعان ما حل "البيت" محل "مواقع التواصل الاجتماعي"، بعد أن قطع العسكر الإنترنت، وذلك بعد أن أخذ أفراد كل أسرة يتقاسمون الشعور بغدر العسكر وخيانتهم، مع سيطرة حالة شبه عدمية من الحزن واليأس والإحباط والخوف من انفلات فعلهم الثوري من بين أقدامهم التي حرثت الأرض بسلميتها البيضاء يومًا بعد يوم، لكي تجني ثمار التغييِر والتحول من سلال المستقبل العامرة الوفيرة. لكن رويدًا رويدًا أخذ الناس يحولون كل "بيت" أو "منزل" إلى وحدة تعبيئة وتحشيد وتنظيم لحراك 30 حزيران/يونيو الأول، وذلك بعد (27) يومًا من ارتكاب المجزرة في الثالث من حزيران/يونيو 2019. 

فتح قلب كل أم، من فرط حزنها على موت كل ثائرٍ، شارعًا جديدًا للثورة، ممهِدًا بدوره إلى الخروج الطوفاني الهادر من البيوت إلى الشوارع الخارجية 

لقد فاقت مواكب 30 حزيران/يونيو الماضية تصورات وتوقعات أي عقل سياسي آنذاك، نظرًا لأن معظمنا توقع أن الحراك سيكون مصيره الفشل، بعد قطع الإنترنت وحرمان قوى الثورة من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي التي برهنت على فعاليتها منقطعة النظير في مرحلة الحراك الأولى، أي في تلك المرحلة التي كانت فيها المضامين السياسية للثورة أكبر نظرًا لتبلورها في هدفٍ جماعي واحد هو: إسقاط النظام الإسلاموي القمعي الأبوي.

اقرأ/ي أيضًا: ضياع حقوق المرأة في جنوب السودان رغم الإجماع عليها

آنذاك، حلت البيوت محل أدوات التواصل الاجتماعي، وحلت الأمهات محل الشوارع: لقد فتح قلب كل أم، من فرط حزنها على موت كل ثائرٍ، شارعًا جديدًا للثورة، ممهِدًا بدوره إلى الخروج الطوفاني الهادر من البيوت إلى الشوارع الخارجية في حراك 30 حزيران/يونيو الماضي. لذلك، كان من الطبيعي أن تتوسع دوائر المضامين الاجتماعية للثورة، بعد عامٍ من مواكب 30 حزيران/يونيو الملحمية الأولى، حيث تحول السلام إلى جند اجتماعي وشعبي في كل شعارات مواكب الحضر والريف التي خرجت قبل أيامٍ معدودةٍ، وهي تجوب الشوارع والساحات والطرقات. ولم يكن السلام وحده هو الذي تجذر اجتماعيًا أكثر من كونه مطلب سياسي فوقي في المراكز الحضرية والمدن الكبيرة، ولكن أيضًا تشكل موقف اجتماعي جماعي رافض للانقلابات العسكرية والشموليات الديكتاتورية. وبإصدار لجان المقاومة السودانية لميثاق الدفاع عن الديمقراطية، يكون هذا المنحى الجذري ــ الاجتماعي قد مهد إلى بزوغ اتجاهات قاعدية وتشاركية، من حيث تثوير المجتمعات المحلية اجتماعيًا بشكل دائم من خلال توسيع مواعين الفعل القاعدي والتشاركي.  

دون توظيف حالة التثوير الاجتماعي لأهداف الثورة ومطالبها وأجندتها السياسية، لن تصمد طويلًا المواقف الاجتماعية الجذرية الداعية إلى سلامٍ شعبيٍ مستدامٍ وإلى الدفاع عن الديمقراطية

ولن يبقى أمامنا بعد الآن سوى: العمل الثوري اليومي الدؤوب، بالنزول إلى أرض الناس والتفكير معهم وليس لهم، وبالانخراط في تمارين البناء القاعدي والتشاركي في الحضر والريف معًا. فدون توظيف حالة التثوير الاجتماعي لأهداف الثورة ومطالبها وأجندتها السياسية، أي من خلال طورها الاجتماعي ــ الجذري الحالي الذي تجاوز مرحلة إسقاط النظام الأولى، لن تصمد طويلًا المواقف الاجتماعية الجذرية الداعية إلى سلامٍ شعبيٍ مستدامٍ وإلى الدفاع عن الديمقراطية، وذلك في حال حدوث ارتدادات في البنية السياسية الفوقية تنتجها الصراعات الحزبية والتشاكسات حول كراسي السلطة ومراكز القوى الجديدة داخل جهاز الدولة، وهو ما قد يمهِد تدريجيًا إلى خيار فرض سياسة الأمر الواقع بانقلابٍ عسكري أو حدوث فوضى دموية شاملة في حال لم تخلق اتفاقية السلام التي ستوقع لاحقًا بين الحكومة وحركات الكفاح المسلح سلامًا مستدامًا.

اقرأ/ي أيضًا

30 يونيو: تصحيح المسار وإحباط آمال الانقلابيين

ما هي رمزية 30 يونيو؟ وما الذي تمثله بعد عام؟