خلال الصراع الدائر في السودان منذ عام، برزت معركة الفاشر كواحدة من أهم المعارك الفاصلة بين طرفي الحرب والجماعات المتحالفة مع أي منهما. الفاشر هي عاصمة ولاية شمال دارفور، وكذلك عموم إقليم دارفور، وتستضيف الحكومة الإقليمية وقوات الحركات المسلحة، بجانب عشرات الآلاف من النازحين الذين فروا من بقية مناطق الإقليم الذي اكتوى بنيران الحرب، مما جعل الفاشر محور العمليات الإنسانية في دارفور، ومحط اهتمام المراقبين المحليين والعالميين.
وأطلقت العديد من الجهات تحذيرات من التصعيد في الفاشر، ولكن قوات الدعم السريع ضربت بهذه التحذيرات عرض الحائط، وابتدرت عملياتها بحصار المدينة عقب السيطرة على مليط المتاخمة. ونشرت لجان مقاومة محلية وناشطون عن فظاعات مروعة ارتكبتها هذه القوات في القرى المحيطة بالمدينة، ما دفع عشرات الآلاف للجوء إلى المدارس والمرافق الحكومية داخل الفاشر، ليقيموا هناك في ظروف إنسانية أقل ما يقال عنها إنها "صعبة".
اقترحت حركات مسلحة تُتهم بالتحالف مع قوات الدعم السريع، هدنة قصيرة "لإجلاء المدنيين من الفاشر"، وسرعان ما لحقت بهذه الحركات الدعم السريع التي أكدت استعدادها لفتح مسارات آمنة لخروج المواطنين إلى مناطق أخرى
على الرغم من ذلك، النازحون وسكان المدينة لم يسلموا من بطش الدعم السريع، ولحقت بهم الانتهاكات إلى داخل مدينة الفاشر. وتهاجم قوات الدعم السريع من الناحية الشرقية، وحاولت السيطرة على محطة الكهرباء، كما تستخدم القصف المدفعي وغيرها من الأسلحة بعيدة المدى. وأسفرت المعارك الدائرة منذ أكثر من أسبوع في مدينة الفاشر عن مقتل وإصابة المئات، كما عطلت بعض الأسواق بشكل جزئي، وكذلك المرافق الصحية التي تضررت جراء توسع نطاق المعارك. وأمس الجمعة، أبلغ ناشطون "الترا سودان"، بأن ثمانية أطفال من النازحين من نيالا أصيبوا في قصف منسوب لقوات الدعم السريع أصاب مدارس الاتحاد والرباط، بالقرب من لفة قري في جنوب غرب المدينة. يأتي ذلك في ظل تحذيرات من قبل حاكم الإقليم من أن الدعم السريع تطلق العديد من الصواريخ في المناطق السكنية، أكثر من المناطق العسكرية، وهو ما تعززه الشهادات من داخل المدينة.
وفي خضم هذه الأحداث المؤسفة، اقترحت حركات مسلحة تُتهم بالتحالف مع قوات الدعم السريع، هدنة قصيرة "لإجلاء المدنيين من الفاشر". وسرعان ما لحقت بهذه الحركات قوات الدعم السريع، والتي اتهم ناطقها الرسمي الحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش، باستخدام المدنيين كـ"دروع بشرية"، وأكد استعداد قواتهم وجاهزيتها لفتح "مسارات آمنة لخروج المواطنين إلى مناطق أخرى".
الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع، المقدم الفاتح قرشي طالب المواطنين في بيان مصور، بالابتعاد عن "مناطق الاشتباكات والمناطق المرشحة للاستهداف بواسطة الطيران"، بحسب تعبيره. ولكن المطالبات بخروج المدنيين المحتمين بالمدينة من قوات الدعم السريع في السياق ذو الطابع الخاص للحرب في إقليم دارفور، تثير الريبة، لا سيما في ظل الفظاعات الموثقة للدعم السريع والمليشيات التي تتحالف معها في إقليم دارفور، والتي بلغت حد التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي رصدتها جهات محلية وعالمية، كانت آخرها منظمة هيومن رايتس ووتش، والتي كشفت عن أدلة على ارتكاب الدعم السريع جرائم بشعة على أساس عرقي وإثني في دارفور خلال الحرب الجارية.
خلفية الحرب في دارفور
الحرب قديمة في إقليم دارفور، وكانت الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام البشير مستخدمًا القوات التي انحدرت منها الدعم السريع الحالية، محطة في محطات الصراع الذي اشتد مطلع الألفية ثم عاود الاشتداد عقب الثورة السودانية.
قوات الدعم السريع برزت في هذه الحرب كمليشيا شبه عسكرية تستخدم أساليب وحشية في المعارك، والتي انتهجت فيها سياسة الأرض المحروقة والتنكيل بالعدو وتدمير القرى وقتل المدنيين. وتقول تقارير للأمم المتحدة ومراصد متخصصة في الصراع السوداني الحالي، إن قوات الدعم السريع استعادت هذا الإرث الدموي في حربها الحالية، وهو ما أكده حاكم الإقليم الأيام الماضية، والذي صرح بأن الدعم السريع تستخدم سياسة الأرض المحروقة في معركة الفاشر الحالية.
فر أكثر من نصف مليون سوداني إلى تشاد المجاورة من جرائم الدعم السريع في إقليم دارفور التي ما تزال تتكشف مستوياتها الكارثية شيئًا فشيئًا
وتستند قوات الدعم السريع بشكل كبير على المجموعات العربية الممتدة في جنوب وغرب السودان، فيما تستند الحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش على الإثنيات التي توصف بأنها أفريقية في إقليم دارفور الشاسع. الصراع في إقليم دارفور دائمًا ما يأخذ هذه الجوانب العرقية التي تغذيها مرارات حرب العقد الأول من الألفية، وبرز ذلك بشكل خاص في هجمات الدعم السريع على ولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة في الفترة من حزيران/يونيو 2023 وحتى أواخر تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام، حيث قتلت قوات الدعم السريع الآلاف من إثنية المساليت، واستهدفت غيرها من الجموعات ذات الخلفية الأفريقية.
لقد فر أكثر من نصف مليون سوداني إلى تشاد المجاورة من جرائم الدعم السريع في إقليم دارفور التي ما تزال تتكشف مستوياتها الكارثية شيئًا فشيئًا. وتستضيف تشاد المجاورة لإقليم دارفور غربي السودان، أكبر عدد من اللاجئين السودانيين جراء استيلاء الدعم السريع على أربع عواصم من أصل خمس في الإقليم.
تكتيك حربي قديم
دعوات الدعم السريع لإخلاء مدينة الفاشر قد يبدو أن الهدف منها تخفيف معاناة المدنيين من الحرب، ولكن هذه الدعوات غريبة في سياق توسيع الدعم السريع الحرب إلى مدينة الفاشر. يثير السياق الذي تأتي فيه هذه الدعوات الكثير من الشكوك حول نوايا الدعم السريع، لا سيما في ظل منشورات لحسابات داعمة للدعم السريع، والتي تقول إن المدنيين الذين ما يزالون داخل الفاشر هم عسكريون ومستنفرون، معتبرة إياهم أهدافًا عسكرية. يأتي ذلك بالتزامن مع الأنباء عن القصف العشوائي والاستهداف على أساس إثني وعرقي الذي تقوم به هذه القوات في شمال دارفور والقرى المتاخمة للفاشر.
خلال الحرب السودانية الجارية، اتُهم طرفا الحرب باستخدام الهدنات كتكتيك لإعادة التنظيم والتموضع والتحضير لهجمات جديدة، وكانت هذه التحركات هي السبب في فشل جميع الهدنات السابقة
وخلال الحرب السودانية الجارية، اتُهم طرفا الحرب باستخدام الهدنات كتكتيك لإعادة التنظيم والتموضع والتحضير لهجمات جديدة، وكانت هذه التحركات هي السبب في فشل جميع الهدنات السابقة، وأسفرت عن مقتل مدنيين أخذوا الهدنات على محمل الجد وخرجوا من منازلهم بحثًا عن المسارات الآمنة للمدن البعيدة عن نطاق الاشتباكات، لتحصدهم آلة القتل العسكرية وهم في الطرقات وأمام منازلهم. ويقول مراقبون إن قوات الدعم السريع استخدمت الهدن التي اتُفق عليها في منبر جدة التفاوضي العام الماضي لتجميع الموارد العسكرية وتكثيف هجماتها، الأمر الذي يعزز الشكوك حول نواياها من الدعوات الحالية لخروج المدنيين من الفاشر.
مطالبات الإخلاء: فخ للمدنيين؟
تدعي قوات الدعم السريع أنها تعمل على حماية المدنيين من العنف، ولكن مطالباتها بخروج المدنيين من الفاشر مع استمرار القصف العشوائي والاستهداف على أساس عرقي وإثني في ظل حصار المدينة - كل هذه الأمور تثير المخاوف من أن المطالبات هي مجرد ذريعة لتنفيذ هجمات عشوائية على الفاشر دون تمييز بين المدنيين والمقاتلين. وتستخدم الدعم السريع هذه التكتيكات الحربية لإخلاء المناطق التي تسيطر عليها، وهو ما حدث ويحدث في ولاية الجزيرة، والتي شهدت تهجير قرى بأكملها بعد التنكيل بمواطنيها، وكذلك بعض الأحياء في العاصمة الخرطوم، وغيرها من المناطق التي وصلها جحيم الحرب السودانية.
وفي ظل احتماء مئات الآلاف من النازحين القدامى والجدد بمدينة الفاشر التي تظل ملاذًا أقل سوءًا من المناطق التي تتواجد فيها الدعم السريع وميليشياتها، فإن المطالب بخروج المدنيين ستؤدي بلا شك إلى زيادة معاناتهم، ناهيك عن الفوضى الكبيرة التي ستسبب بها عملية بهذا الحجم الكبير، بما تحمله من تعقيدات لوجستية وإنسانية. وبالفاشر أكثر من مليون مدني بحسب إحصائيات غير دقيقة نسبة لحركة النزوح الكبيرة في الإقليم. ويعيش هؤلاء في ظروف مريرة ضاعفتها الحرب والحصار.
الهجمات العشوائية
تعد الهجمات العشوائية وقصف الأهداف المدنية جريمة حرب وفق القانون الدولي. وهو نمط مكرر في الحرب السودانية التي اندلعت في العام 2023 وسط المدن والأحياء السكنية. ولقد ثقت العديد من الجهات بما لا يمكن حصره قصفًا عشوائيًا للدعم السريع على الأحياء السكنية في العاصمة الخرطوم وغيرها من المدن. كما يقصف الطيران الحربي الأحياء السكنية في عمق مناطق سيطرة الدعم السريع، مدعيًا تدمير أهداف عسكرية. تخللت الحرب السودانية العديد من مثل هذه الجرائم التي تُتهم بها بشكل خاص قوات الدعم السريع؛ القوة شبه العسكرية التي تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة السودانية.
إن سقوط الصواريخ على المدارس والمناطق السكنية في الفاشر يعتبر دليلًا صارخًا على عدم سعي قوات الدعم السريع لحماية المدنيين في شمال دارفور، ويسبق ذلك توسيعها لدائرة الحرب، ليس في دارفور وحدها، وإنما في جميع الجبهات، وذلك على الرغم من التحذيرات الدولية وحتى العقوبات الأميركية، حيث عاقبت الخزينة الأميركية أمس الأول اثنين من قادة الدعم السريع المسؤولين مسؤولية مباشرة عن الهجمات على الفاشر.
المطالبة بإخلاء الفاشر التي بها أكثر من معسكر نزوح بعشرات الآلاف من المدنيين المعرضين ابتداءً جراء الحصار المضروب والأزمة الاقتصادية الطاحنة وظروف الحرب والنزوح، لا يعني سوى المزيد من الفظاعات بحق المدنيين
إن المطالبة بإخلاء الفاشر التي بها أكثر من معسكر نزوح بعشرات الآلاف من المدنيين المعرضين ابتداءً جراء الحصار المضروب والأزمة الاقتصادية الطاحنة وظروف الحرب والنزوح، لا يعني سوى المزيد من الفظاعات بحق المدنيين، والتي بدأت تتمظهر بالفعل في أعداد القتلى والمصابين وسط المدنيين، والتي بلغت أكثر من خمسمائة خلال الأيام الماضية، وفق ما نقلت أطباء بلا حدود، إحدى المنظمات الإنسانية القليلة التي ما تزال تعمل في مدينة الفاشر.
من كل ما سبق، من الواضح أن الدعوة لخروج المدنيين من الفاشر هي تكتيك حربي أشبه بـ"الستار الدخاني" الذي يستخدمه السحرة لإخفاء نواياهم الحقيقية. وفي حالة قوات الدعم السريع، فإن النوايا هي القصف العشوائي الذي لا يميز بين الأهداف المدنية والعسكرية، واعتبار كل المدينة هدفًا حربيًا مشروعًا للدعم السريع ومليشياتها التي يحركها فيما يحركها دافع السلب والنهب واسع الانتشار ضمن تكتيكات الدعم السريع، حيث تعد الفاشر إحدى المناطق الأخيرة التي سلمت من كل ذلك.
ختامًا، هذه الدعوات للهدنة وإخلاء المدنيين تغفل مساءلة تمدد الدعم السريع في شمال دارفور وحصار الفاشر على الرغم من جميع المحاذير والتحذيرات، وهي كذلك تذكر بتكتيك حربي واسع الاستخدام في الحرب السودانية، يخفي نوايا لارتكاب مزيد من الجرائم المروعة ضد المدنيين في إقليم دارفور، بذريعة خلوها من المدنيين.