الرابع عشر من تموز/يوليو 1789، باريس، حين سمع لويس السادس عشر من رسوله ليانكورت بسقوط الباستيل وتحرير بضعة سجناء منه، وتمرد القوات الملكية قبل وقوع هجوم شعبي، كان الحوار المشهور الذي جرى بين الملك ورسوله قصيرًا جدًا وكاشفًا جدًا: صاح الملك "إنه تمرد" فصححه ليانكورت قائلًا " كلا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة"، لتبدأ من هنا بسالات وسيول تهدر في أنحاء وأزمان مختلفة مطالبة بالمساواة الاجتماعية والاقتصادية، تسقط الملكية، تحيا الثورة ويخونها قادتها.
تشرين الأول/أكتوبر 1964
في السودان في تشرين الأول/أكتوبر 1964، انفجرت الأحداث على إثر العنف الذي جابهت به قوات الجيش ندوة طلابية تناقش قضية الجنوب، في 21 تشرين الأول/أكتوبر 1964 سقط أول شهيد برصاص العسكر. سارت المواكب والمظاهرت العفوية، وتبلور الحراك السياسي المنظم في 23 تشرين الأول/أكتوبر بالمذكرة التي رفعها أساتذة جامعة الخرطوم والتي طالبوا فيها بعودة الحكم المدني، حيث أرفقوا المذكرة باستقالة جماعية. تكونت أجسام مماثلة في أوساط المعلمين، الأطباء، المحامين، والقضاة؛ رفعوا مذكرات بنفس مطالب مذكرة الأساتذة، تلاحق الأحداث واتحاد الرؤى قاد أخيرًا إلى إعلان الإضراب العام.
بدأ الإضراب في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1964، و كانت له نتائج مذهلة
أدت طبيعة هذه الحركة إلى نقل العمال والمزارعين إلى مقدمة الجبهة المناهضة للحكم العسكري، ففي 25 تشرين الأول/كتوبر اجتمع ممثلو العمال والمزارعين مع النقابات والهيئات الأخرى، وشكلوا "جبهة الهيئات"، وبدأ الإضراب في 26 تشرين الأول/أكتوبر، و كانت له نتائج مذهلة. في مساء اليوم الأول من الإضراب قاد الضباط الأحرار جنودهم وأحاطوا القصر الجمهوري في حركة ضغط على المجلس الأعلى للقوات المسلحة لاقناعه بضعف موقفه. وفي صبيحة 27 تشرين الأول/كتوبر 1964، أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن حل نفسه وحل مجلس الوزراء، وبقي الفريق عبود بصلاحيات تشريعية وتنفيذية في انتظار تشكيل حكومة انتقالية.
اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات "21 أكتوبر".. هل ستضعف الحكومة الانتقالية؟
في الأيام الأخيرة من تشرين الأول/اكتوبر 1964، جرت مفاوضات بين جبهة الهيئات وجبهة الأحزاب لتحديد شكل الحكومة الانتقالية، وقد انعكس الدور القيادي الذي لعبته جبهة الهيئات في اسقاط الحكم العسكري على شكل الحكومة الذي أعلن في 31 تشرين الأول/أكتوبر، وضمت سبعة وزراء من جبهة الهيئات من بينهم السكرتير العام لاتحاد نقابات السودان وسكرتير اتحاد المزارعين، كما ضمت اثنين من الجنوبيين ووزيرًا واحدًا من كل الأحزاب، وبما أن وزراء جبهة الهيئات كانوا يميلون للتحالف مع الوزير الشيوعي، فقد كانت اتجاهات مجلس الوزارة في عمومها راديكالية. وفي الأشهر التي أعقبت تكوينها اتجهت نحو التغيير الراديكالي فيما يتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية، حيث تم تكوين لجنة للنظر في حل الإدارة الأهلية تدريجيًا وشكلت محكمة في النظر في قضايا الثراء الحرام والفساد وتخريب الاقتصاد، واتخذ قرارًا بمنح المرأة حق التصويت في الانتخابات القادمة. كما شكلت لجنة لتقديم مقترحات حول الإصلاح الزراعي.
أثارت الكثير من القرارات قلق المؤسسة التقليدية فقد كان هناك شك قوي في أن القصد من محكمة الثراء الحرام هو تطهير الخدمة المدنية من العناصر اليمينية وليس فقط العناصر الفاسدة، غير أن ما أثار القلق أكثر هو اقتراح جبهة الهيئات بتخصيص (50) % من مقاعد الجمعية التأسيسية المقبلة للعمال والمزارعين.
و قد أصبح جليًا أن جبهة الهيئات تبحث عن دور سياسي بعيد المدى حيث شرعت في تكوين فروع في مختلف أنحاء البلاد، وبات من المحتمل أن تخوض الجبهة الانتخابات القادمة. وركزت جبهة الأحزاب حملتها على الدعوة لانتخابات مبكرة، و شرعت في تعبئة جماهيرها لسحب البساط من تحت جبهة الهيئات. وفي 18 شباط/فبراير 1965 قدم سرالختم استقالته، وبعد ستة أيام شكل حكومة جديدة لتنتهي بذلك التجربة الراديكالية.
ثورة آذار/مارس 1985
بعد الإعلان عن الإجراءات الاقتصادية التي أعقبت اتفاق جعفر نميري مع البنك الدولي والتي تعني المزيد من الزيادات والتضخم، بدأت المظاهرات العفوية في 26 آذار/مارس 1985، والتي تنادي بسقوط النظام. تصاعدت الأحداث بسقوط الشهداء والأعداد الكبيرة للمعتقلين السياسيين، وأعلنت نقابة الأطباء الإضراب السياسي والعصيان المدني والذي نجح بشكل غير مسبوق. وفي 6 نيسان/أبريل من نفس العام، أعلن وزير الدفاع سوار الدهب في إذاعة أم درمان: "إن قوات الشعب المسلحة حقنًا للدماء وحفاظًا على استقلال الوطن ووحدة أراضيه، قد قررت بالإجماع أن تقف إلى جانب الشعب". هذا البيان المبهم تلقته الجماهير بشعار سياسي مضاد مطالب بالتسليم الكامل للسلطة للمدنيين ومحاربة سدنة "مايو".
اقرأ/ي أيضًا: وفد سوداني إلى "إسرائيل" الشهر المقبل.. ومحامون: الزيارة غير قانونية
ومع تصاعد المد الجماهيري، ازداد التصدع بين مكونات التجمع الوطني، فتم رفع الإضراب يوم 9 نيسان/أبريل 1985، بدون تحقيق أي مطالب جماهيرية وبدون اتفاق على شكل إدارة الفترة الانتقالية، في وقت أعلن فيه المجلس العسكري، حكومة انتقالية من (15) عضوًا عسكريًا حتى إجراء انتخابات عامة.
كان المدنيون موظفين من الدرجة الثانية في الحكومة التي أسماها الزعيم جون قرنق بـ"مايو تو"
زاد سخط الجماهير على العسكر ومحاولة انفرداهم بالسلطة، مما أدى لتكوين حكومة انتقالية لمدة سنة واحدة بسلطات تشريعية ودستورية للمجلس العسكري، وتنفيذية للمدنيين "تكنوقراط"، الأمر الذي جعل المدنيين موظفين في النسخة الثانية من حكومة مايو، أو كما أطلق عليها دكتور جون قرنق دي مبيور "مايو تو".
ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018
تفاقمت الأزمة الاقتصادية لحكومة الجبهة الإسلامية بعد انفصال جنوب السودان وتراجع عائدات البترول، فكانت المظاهرات الشعبية المتفاوتة في 2011 و2013، ردًا على سياسات التقشف التي زادت التضخم والأسعار بدون زيادات في الدخل. ومنذ منتصف كانون الأول/ديسمبر 2018، فاقمت أزمة الخبز والمحروقات رافقها ارتفاع غير مسبوق لسعر الصرف للعملات الأجنبية في السوق الموازي، لتنطلق شرارة الثورة في مدن مختلفة، ليتصاعد الحراك الشعبي في 25 كانون الأول/ديسمبر 2018، بدعوات أطلقها تجمع المهنيين السودانيين.
واجهت حكومة الجبهة الحراك الجماهيري بالعنف، القتل، والاعتقالات. وفي 1 كانون الثاني/يناير 2019، أعلن تجمع المهنيين عن وثيقة الحرية والتغيير، الداعية لإسقاط حكومة البشير وإقامة حكم مدني بفترة انتقالية تستمر أربع سنوات تقوم بمهمة بتفكيك الدولة العميقة، استمرت موجة الاحتجاجات على مدار أربعة أشهر حتى تمت الدعوة لمليونية 6 نيسان/أبريل 2019، التي تحولت إلى اعتصام استمر (56) يومًا أمام مباني القيادة العامة للجيش.
سقط البشير في 11 نيسان/بريل 2019 بانقلاب وزير دفاعه بشراكة مع جهاز الأمن وقوات الدعم السريع. رفض المعتصمون أمام القيادة الانقلاب ومحاولة سرقة العسكريين للثورة، وفي 12 نيسان/أبريل 2019، تنازل ابن عوف عن القيادة وسلمها لأحد كبار ضباط الجيش، والذي بدأ المفاوضات مع قوى الحرية والتغيير للاتفاق حول الفترة الانتقالية، وسرعان ما بدأت مكونات اعلان الحرية والتغيير بالتراجع عن مواقفها المبدئية، وتحول التفاوض من تسليم وتسلم للسلطة لتقاسم السلطة مع المجلس العسكري.
تطاول فترة المفاوضات أدى لتزعزع ثقة الجماهير في قياداتها السياسية. تراجع القيادة عن الخط الثورى أدى الي محاولات خلق قيادة جديدة تعبر تعبيرًا حقيقيًا عن إرادة الثورة، مما قاد لاشتباك ومحاولات سيطرة من القيادة السياسية مع الخط الثوري الوليد، بما عرف بـ"حدود الاعتصام".
أثناء انشغال القيادة بالاشتباك مع الجماهير ومحاولاتها البائسة لاسترداد الثقة، تفرغ المجلس العسكري للتخطيط والتدبير لمجزرة القيادة العامة في 29 حزيران/يونيو 2019 والتي سقط على إثرها أكثر من (100) شهيد، وعدد كبير من المفقودين، الجرحى وحالات الاغتصاب، وعلى إثرها فض الاعتصام وتنصلت القيادة العسكرية عن كل اتفاقياتها مع المكون المدني.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| العدالة الانتقالية مع عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم
تم تحجيم حلم المجلس بالسيطرة الكاملة على السلطة بضغوط داخلية و خارجية ليعود إلى طاولة التفاوض ويتم الاتفاق على فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، يتقاسم فيها المكونان مجلس السيادة تحت قيادة عسكرية وبسلطات تشريعية ودستورية، ويشكل المكون المدني السلطة التنفيذية، وتشكيل برلمان بسلطات تشريعية يعبر عن قوى الثورة. تأخر تشكيل البرلمان وأيلولة سلطاته لمجلس السيادة والسلطة التنفيذية، ليدق بهذا آخر مسمار في نعش الثورة.
هل نشهد يومًا ما ثورة سودانية تحقق مطالبها؟!
تؤدي الشعوب واجبها كاملًا، تخرج وتقدم الأرواح في سبيل تغيرات جذرية تحقق لها الحرية والعدالة، ودائمًا ما تخذلها القيادات السياسية العاجزة عن تمثيل هذه الجماهير، في هذه المعادلة تثور الجماهير، تحاول الحكومات قمعها، تصمد ونشهد البسالات. تبدأ الثورة و أحلام التغيير ويحطمها سياسيون يجلسون مرة بعد مرة مع قيادات الصف الثاني في الحكومة المخلوعة، وتشكل حكومات بلا إرادة سياسية وبسند شعبي ضعيف، فتهزمها السياسات الإصلاحية الفاشلة، المواقف المتذبذبة، والأزمات الأقتصادية، فهل نشهد يومًا ما ثورة سودانية تحقق مطالبها؟!
المراجع
محمد علي جادين: تقييم التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان. الخرطوم، دار المصورات للنشر، ط2 2019.
تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان. ترجمة الفاتح التجاني، محمد علي جادين، الخرطوم، دار المصورات للنشر، ط2 2019.
اقرأ/ي أيضًا
المؤشر العربي والتباين ما بين الحكومة والرأي العام بخصوص التطبيع في السودان