لأكثر من ستة عقود عَبَرت منذ استقلال السودان في العام 1956، ونحن نتحدث عن فقراء الريف والمسحوقين والكادحين، أو بصيغة أخرى أقل طبقية، وإن كانت ذات مسحة ما بعد كولنيالية غامضة، صرنا نطلق عليهم المُهمَّشين والمقصيِّين والمنبوذين، لنصل إلى الصيغة الهيكلية ذات الطابع البيرقرواطي، من خلال تصنيفنا لهم كصغار مزارعين ومنتجين ونازحين وضحايا نزاعات وحروب، بعد أن أصبح الخطاب الأكاديمي النيوليبرالي السائد المتحالف نخبويًا ومصلحيًا مع المنظمات الغير الحكومية الوطنية والأممية والإقليمية العابرة يختزلهم على هذا النحو.
لا تزال النخبة الأكاديمية، المختصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، تجتر معارف وأدبيات أكاديمية ظلَّت أطرها المنهجية والمفاهيمية والبحثية عالقة في تجربة الحداثة الغربية
أكثر من نصف قرن ويزيد، ونخبة عاطلة كاملة من أنصاف الأكاديميين والمثقفين والمستنيرين والسياسيِّين الحزبوييِّن والناشطين المعولمين، بعد أن سادت أدلوجة المجتمع المدني وخرافته المُنبَّتة عن واقع الناس وعن حيوات وعوالم وتحولات المجتعات المحلية التي تعيش الآن أطوار انتقال مشوهة جعلتها بين بين، لا هي مجتمعات ريفية أو ما دون ذلك ولا هي بدأت تسلك مسار التحضُّر الرقمي والشبكي الزائف والمنقوص. أقول أكثر من نصف قرن وما ينيف بعقد وأكثر، وهذه الطبقة المخصيِّة تمارس التفكير في قضايا الناس من مكاتبها الوثيرة، آمنة حالمة طي مؤخراتها المرتاحة السعيدة في رواقات الجامعات والمنظمات ودور الأحزاب وأوكار المثقفين، ذات التفكير الذي لن يذهب أبعد من قَدَحهَم الذهني العنين، وهو قدح نخبوي غبَّش وعي الناس وأبَّد عمليات العنف الممارس من قبل جهاز الدولة ومن ثم الإفقار والاقصاء والتهميش، حتى أصبحوا عاجزين عن تمثيل أنفسهم ذاتيًا بكامل مكابدات وعيهم الخارج من رحم واقعهم وسياقاتهم، دون أن يكونوا قادرين على التحرُّر معرفيًا وسياسيًا من التفكير في ذواتهم ومشكلاتهم من دوائر النخبة وممارساتها الفكرية والسياسية السقيمة.
اقرأ/ي أيضًا: فرصة حمدوك التاريخية لقيادة تحول ديمقراطي راسخ
إذ لا تزال النخبة الأكاديمية، المختصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، تجتر معارف وأدبيات أكاديمية ظلَّت أطرها المنهجية والمفاهيمية والبحثية الميدانية خاضعة لمنظومات شاملة من الإنتاج المعرفي ومن الخطابات التي ظلَّت تفكر إقليميًا وكونيًا في الظواهر والمشكلات من داخل سياقات تجربة الحداثات الغربية وما بعدها. لقد حوَّلنا الوله بالبراديم الغربي إلى حورايين وأتباع لجان جاك روسو ولوك وهوبز وأميل دروكايم وآدم إسميث وماركس وفرويد وفيبر ونيتشه وهايدغر وألتوسير وفوكو ودريدا وشتراوس ولاكان وسلافوي جيجيك وديفيد هارفي وآلان باديو، وغيرهم من أغانيم الفكر القاري المُعوّلم، لتحلَّ علينا في نهاية المطاف لعنات الاقتصاد النيوكلاسيكي والتنمية الاقتصادية المكبوحة العمياء التي تقودها ساحرة مشعوذة تطلق علي نفسها مسمى "السوق الحُّرة" المتخفية بأقنعة "النيوليبرالية" وبرامج الإصلاح والتكيف الهيكلي ذات الرواج الأرثوذكسي المحموم من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي سرعان ما التهمت كل نماذج التنمية الدولية وأطرها البديلة كالأهداف الإنمائية للألفية (MDGs) وتوأمها السيامي الكسيح ممثلًا في أهداف التنمية المستدامة (SDGs 2015-2030)، ونماذج وأطر وهمية أخرى تحت مسميات مختلفة وهي لا تؤسس إلا للنهب الرأسمالي المتوحش وللهيمنة النخبوية المُمنهجة، كأطر "الاقتصاد الأخضر" و"الاقتصاد الاجتماعي-التشاركي" و"ريادة الأعمال" و"التمويل الأصغر" ... إلخ.
ألم يحن الوقت بعد؟
ألسنا في أمس ما يكون لتجارب حية وملموسة من الإنتاج المعرفي الجذري الشامل من داخل سياقات وخصوصيات مجتمعاتنا المحلية، ونحن غارقين في هذا الخضم الثوري الذي سينتج فكرًا ثوريًا حُرًا بدوره؟
اقرأ/ي أيضًا: حول تفاهة الشر وجذور العنف
فبدلًا من الإمعان في إدمان استخدام نماذج بحيثة وأطر منهجية ومفاهيمية جاهزة ومعزولة عن خصائص وشروط مجتمعاتنا المحلية، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والإيكولوجية، والتي همها الأول والأخير الخلوص بمؤشرات ونسب ومعدلات كمية عن انتشار وأوضاع الفقر والبطالة والنزوح والأمية وختان الإناث وزواج القُّصَّر، وغيرها من الظواهر والمشكلات، أليس من الأجدى دراستها داخل سياقات وبني المجتمعات المحلية من خلال تجارب الناس وتصوراتهم وتكويناتهم الإثنية والعشائرية والقبلية والطبقية والأيكولوجية، وارتباط كل ذلك بالعنف البنيوي الكامن في جهاز الدولة في كل أطواره الما قبل كولنيالية وما بعد الكولنيالية؟
فليس الفقير هو من يكون دخله اليومي أو الشهري أقل من حد الفقر الكمي المصكوك والمعمم من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولكن هو من يتشكلَّ دخل حاضنة الفقر الثقافية والرمزية التي تجعل الحرمان حالة نفسية وذهنية داخلية قد لا تزول حتى بعد خروج الفقير من دائرة الفقر؟ ففي منطقة آلبان جديد، بشمال كردفان، تُعبِّر ظاهرة الفقر عن نفسها بنيويًا في سياق ثقافي؛ إذ نجد أن تعدد الزوجات يلعب دورًا كبيرًا في مفاقمة الفقر والأوضاع المعيشية. إن تجربة الفقر عندما تتعمق في الواقع وتتأبد في النفوس تتلبسها الأقنعة والحالات والتجليات التي تتنوع بحسب تنوع السياق البنيوي الشامل للمجتمع المحلي. وبالمثل، فإن مرضًا مثل الآنيميا المنجلية يتحول إلى ظاهرة تتشكَّل وتنمو في سياق إثني وليس سياق مرضي وراثي فحسب، وذلك عندما تنتشر وسط مجموعة إثنية معينة في ذات المنطقة، ذات المجموعة التي يتحكم الانغلاق الإثني أو الزواج الداخلي أو التزاوج التداخلي-البيني في دينامية انتشار هذا المرض وسطها، وذلك بعد أن تأثن دون أن يتخلَّى عن كونه مرضًا وراثيًا. ففي المجتمع المحلي تنبجس الظاهرة أو المشكلة كالمنشار الحاد والمزدوج والذي يأكل من كل الأطراف، أحيانًا بشكل خطي عامودي أو رأسي، وأحيانًا بشكل دائري لولبي أو أفقي، مما يجعل المرض ظاهرة متعددة الأبعاد تنتمي لأكثر من حقل معرفي ومجال بحثي، أي تكون ظاهرة برؤوس متعددة: إثنية وثقافية ومرضية ونفسية واقتصادية... إلخ. وبالمثل يكون الفقر بمثابة هيدرا متعددة الرؤوس، كل ما قطعت رأس الدخل المادي، نبت رأس تعدد الزوجات، وكلما قطعت هذا الرأس الأخير نبت رأس الحرمان النفسي الخفي والدفين.
أليس من الأجدى أن ندرس طقوس السِبِر في مناطق جنوب كردفان، من خلال مضامينه الإثنية والأيكولوجية وعلاقاتها الُمعَّقدة بتجربة الحرب والنزوح
أليس من الأجدى أن ندرس طقوس السِبِر في مناطق جنوب كردفان، من خلال مضامينه الإثنية والأيكولوجية وعلاقاتها الُمعَّقدة بتجربة الحرب والنزوح، فحقل معرفي كامل، كأيكولولوجيا الأسبار أو أنثروبولوجيا الأسبار، بإمكانه أن يغير أجندة واستراتيجيات التفاوض بين الحركة الشعبية وحكومة الفترة الانتقالية العالقة بين حدي العلمانية وتقرير المصير؟
وليس بعيدًا عن السِبِر، فهناك طقس الكجور التعويذي التعذيمي الذي يحوي بداخله حقل معرفي كامل من الاقتصاد السياسي الرمزي الذي بإمكانه أن يُشِّرح أوجه وأبعاد العلاقة بين الحرمان الروحي والنفسي والاقتصادي من الحياة والدولة، من جهة، وعلاقته بالعنف والنزاعات والحروب والاقتلاع والنزوح؟
اقرأ/ي أيضًا: البشير ومايو.. خلفيات تأسيس جهاز الأمن السوداني
لدينا الآن ترسانة كاملة ومتأججة وعلى أهبة الانفجار اسمها الجندر؛ لكن ماذا عن الدولة كغول ما بعد كولنيالي عظيم ابتلع في جوفه كل أنماط الهيمنة الإثنية والعشائرية والقبلية، منتجًا بنية الذكورية الأشمل من ذكورية المجتمع المحلي، إن من أعظم الملامح الجذرية لثورة كانون الأول/ديسمبر أن نساء السودان ورجاله، في الأرياف والحضر والبوادي والضهاري، خرجوا لإسقاط غول الذكورية الذي تُمثِّل رأسه الدولة وبطنه المجتمع وأطرافه الرعاشيِّة المعرفة الأكاديمية والممارسات الحزبية النخبوية المخصيِّة والعنينة. لذلك، فإن ذكورية المجتمع المحلي ليس ذكورية الفرد الواحد وإنما ذكورية الجماعة الخارجة من أرحام الإثنية والقبيلة والعشيرة التي حولها جهاز الدولة النخبوي العنيف إلى مسوخ وأشباح في شكل رجل وامرأة. ففي كثير من الحالات تكون المرأة أكثر ذكورية من الرجل. إن خطاب الجندر الأكاديمي السائد وسط الناشطين والفاعلين في منظمات المجتمع اختزل كل تجربة الهيمنة والخضوع الذكوريين بين عدويين أبدييين هما رجل ومرأة، حيث ظل هذا الخطاب عاجزًا عن تشريح ختان الإناث كظاهرة سوسيو-ثقافية وليس عادة اجتماعية ضارة؛ ففي منطقة الحمادي، بشمال كردفان، لم يكن أمام مجموعة البرنو إلا أن تكتسب ظاهرة ختان الإناث عندهم وتتمثلها ثقافيًا بذات الكيفية التي تمثَّلت بها لغة المجموعة المهيمنة على الموارد وعلى السلطة الرمزية والسياسية للمجتمع ككل. إن ظاهرة ختان إناث، وفق هذه الحالة السياقية المخصوصة، هي بمثابة ميكانيزم للتكيف والإندماج الإثني في ثقافة وعادات وتقاليد المجموعة القبلية المهينمة. ومن المعروف أن البرنو من المجموعات التي لا تمارس ثقافيًا ختان الإناث.
ما من خيار استشرافي ومستقبلي بعد الآن، سوى الانخراط في عمليات إنتاج معرفي شاملة من داخل سياقات مجتمعاتنا المحلية
ما من خيار استشرافي ومستقبلي بعد الآن، سوى الانخراط في عمليات إنتاج معرفي شاملة من داخل سياقات مجتمعاتنا المحلية. فدون ذلك، لن تجد دولتنا المدنية الديمقراطية المنشودة أو المولودة سفاحًا من نموذج الدولة القديم أي موطئ قدم ثابت لكي تمد "شُباحاتها" ودعاماتها إلى ما رواء القبلية والعشائرية اللذان أفرزهما العنف النخبوي والحضري الممنهج الذي مارسه جهاز الدولة بأيدي فئات نخبوية صغيرة لم يكن همها الأول والأخير سوى النهب والتبديد الهدار للموارد والثروات القومية. لقد أحدثت ثورة كانون الأول/ديسمبر تحوَّلًا جذريًا، فنقلتنا من مرحلة التفكير للناس إلى التفكير مع الناس، أي الانخراط في عملية واسعة نقدية ومشتركة من التفكير القاعدي في واقع المجتمعات وسياقاتها ككل، دون اختزالها إلى طبقات أو فئات قاعدية أو مجموعات لا مُّمثلة حقوقيًا وهيكليًا في برامج الأحزاب واستراتيجيات الدولة ومشروعاتها الوطنية.
اقرأ/ي أيضًا