هذه ليست غلطة مطبعية، فهناك حقًا "دينقراطية" تحكم اليوم بعض الدول، وتعشعش في أذهان جماعات تسعى إلى تطبيقها في دول أخرى. وإن كانت الديمقراطية تُعرف بحكم الشعب للشعب بالشعب، فإن الدينقراطية، بوصفها تهجينًا غير متقن بين الدين والديمقراطية، يمكن أن تُعرف بـ"حكم الله للشعب عن طريق من يقولون إنه اختارهم لهذه المهمة".
تنتشر ظاهرة الدينقراطية بين جماعات الإسلام السياسي الساعية إلى نموذج "عصري" للحكم الديني
من إيران إلى السودان، ومن مصر "الإخوانية" إلى غامبيا، تنتشر الدينقراطية بدرجات متفاوتة في بلداننا. كما تنتشر بين جماعات الإسلام السياسي الساعية إلى نموذج "عصري" للحكم الديني، وأيضًا بين أحزاب تلحق بأسمائها صفة "الديمقراطي" وهي تطرح برامج "إسلامية".
اقرأ/ي أيضًا: العنصرية في السودان.. قبائل بهويات تائهة
والدينقراطية، بالنسبة إلى تلك الجماعات، تخرج كونها حالة فقط، لتصبح مفهومًا "Concept"، يتصلّد كلما اقتنعت باستحالة تطبيق نموذج القرن السابع الميلادي، فتتحول إلى تبني هجين خيالي توسلًا لتطبيق منتجات عصر الأنوار لكن بأساس ديني يُفترض فيه "الأصالة".
ولأنها بذرة في الوعي الجمعي لشعوب ممزقة بين ما تريده وتراه في الخارج، وبين نوستالجيا إلى إرث حقق لها سيادة مفترضة في وقت ما؛ لذا وجدت الدعوة الدينقراطية، وتجد، مزيدًا من الأنصار كلما طُرحت.
وتمثل جماعة الإخوان المسلمين وبناتها من الجماعات، حالة دينقراطية نموذجية، ظهرت بأوضح ما يكون بعد سقوط مبارك وحتى سقوط مرسي، في استخدامها لأدوات العصر وبعض مفاهيمه، لبناء واقع خارج هذا العصر وإحياء مفاهيم مغايرة، هذا طبعًا إن افترضنا صدق شعاراتها.
أيضًا، تمثل الدولة السودانية الماثلة، حالة دينقراطية فريدة، فهي تكونت بانقلاب على "الديمقراطية" في العام 1989، ورفعت في بداياتها شعارات العداء للغرب والحرب عليه، وسعت بإيمان كامل في بواكيرها إلى تطبيق "شرع الله" وتحويل السودان إلى دولة إسلامية، فألغت الأحزاب، والانتخابات، وحلّت النقابات والتجمعات، وضيقت على الغناء "غير الإسلامي!" والفنون، وبثت دعاية دينية كثيفة حد أن تلمسها بيدك.
لكن حركة التاريخ جرفت كل هذه الأوهام، ليصبح لزامًا على دولة الإخوان السودانيين اكتساب شرعية بالطرق الديمقراطية التي لا يؤمنون بها إلا كوسيلة للوصول. هنا اكتشفوا بطريقة ما، معادلة "الدينقراطية" كمخرج. فصارت هناك انتخابات اسمية، وأحزاب مصنوعة في مطابخ الدولة وتعارض وفق خطط الدولة، وصار هناك رئيس منتخب فائز دومًا طوال 27 عامًا بشفافية دينقراطية تامة.
من صفات الدينقراطية أن واجب الحكام هو "إدخال الناس الجنة"، وليس خدمتهم وتنظيم شؤونهم
قد يكون السودانيون اقتبسوا الفكرة من الدينقراطية الفارسية الأقدم بحكم العلاقة الوثيقة بين البلدين حتى وقت قريب. مع عدم إهمال أن بذور الفكرة جاءت من الجماعة الأم مع ما جاء من أفكار، وأنضجها صدام الواقع الذي واجهته الحركة الإسلامية السودانية وهي تخوض في الحاضر بمجاديف القرون القديمة، حتى أتى أوان قطافها فكانت "جمهورية السودان" التي يُحكم فيها كل شيء "ديمقراطيًا وفق الدين"، أي دينقراطيًا.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. هي هجرة أخرى
تطمح الدينقراطيات، العربية بالذات، إلى تطبيق نموذج تركيا الأردوغاني المتوهَّم، وليس الواقعي. فالذهن الدينقراطي، يُسقط عمدًا، تفاصيل في النموذج التركي تشوِّه الصورة المبتغاة والمدعو إليها، أعني تفاصيل مثل العلاقة مع أوروبا، وحلف الناتو، والأهم العلاقة بالكيان الصهيوني.
ومن صفات الدينقراطية، أن واجب الحكام هو "إدخال الناس الجنة"، و"تزكيتهم" بحملهم على "حكم الله"، وليس خدمتهم وتنظيم شؤونهم، مثلما كانت تقول دعاياتهم أيام الانتخابات، أو بعد انقلاباتهم و"ثوراتهم" في بواكيرها.
في الدينقراطية، الخطأ دائما ليس من الحاكم، بل من المحكومين الذين لم يستوعبوا التطبيق الصحيح، وأيّ مصاعب ترد مباشرة إلى الابتلاء من الله وليس إلى سياساته، فهو -الرئيس المنتخب- فوق النقد، مثله مثل أي زعيم أو قائد أو ملك. فهو يلبس عباءة "الخليفة" وينتظر من الرعية السمع والطاعة، دينقراطيًا.
كذلك، في الدينقراطية، تتذكر الحكومة بؤس الشعب، فقط حين الحاجة إليه لفك الخناق عنها، مثلما انتبهت حكومة السودان فجأة، في الشهور الماضية، إلى أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها منذ التسعينيات، مؤذية للشعب المسكين! ومن ثم بنت خطابها الرسمي، غير الذكي، على أنها المدافع عن الشعب ورفاهيته.
كما نرى، فإن الدينقراطية ليست شيئًا جديدًا، فأكثرنا خبرها بطريقة أو بأخرى، ورآها رأي العين وهي تسعى بين الناس.
إذن، ما الحل للنجاة من الدينقراطيات التي فرّخت بعد الربيع العربي المغدور، وتنتشر الآن أعراضها على كامل الجسد المثخن، لشعوب لا تزال تنتظر معجزات الله لتحيا؟
اقرأ/ي أيضًا: