البروتوكولات الرسمية للزيارات الرسمية بين الدول، في العادة ما تحمل بعض الرسائل السياسية التي يتم تمريرها بهدوء، وفي العادة لا تترك هذه الرسائل أي ضغينة، بل تعتبر نوعًا من الأشكال المتبعة سياسيًا لتمرير بعض الرسائل والإشارات ذات الطابع السياسي في القضايا الخلافية أو التعاونية بين بلدين، فعندما قامت إيران بالتقدم لفرنسا بطلب بتغيير بروتوكول تقديم الخمور ضمن برنامج زيارة رئيس إيران حسن روحاني لدولة فرنسا في العام 2016، رفضت فرنسا ذلك الطلب، قائلةً أن ذلك يعد تنازلًا عن هوية الدولة الفرنسية العلمانية؛ وبالطبع كانت إيران تريد أن تقول أنها حتى في حال أنها زائرة فهي لن تتناسى أنها دولة إسلامية.
حملت بروتوكولات الاستقبال الرسمية للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في الخرطوم اليوم، بعض الرسائل السياسية
حملت بروتوكولات الاستقبال الرسمية للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في الخرطوم اليوم، بعض الرسائل السياسية، التي مررتها الخرطوم بذكاء، مستقلة أن الأعراف الديبلوماسية نادرًا ما تطالب فيها الجهة الزائرة المستضيف بتغيير البروتوكولات والإجراءات المقترحة من الدولة المستضيفة، فطلب تغيير بروتوكولات الاستقبال التي تطلع عليها مسبقًا الجهة الزائرة بغرض العلم والتنسيق في الغالب، يضمر طلب تعديلها رسالة مفادها أن الجهة الزائرة تستصحب إملاءات أو شروطًا، وفي حال كانت العلاقات جيدة بين البلدين كحال القاهرة والخرطوم الآن، يلمح ذلك بأن العلاقة الجيدة ليست أمرًا نهائيًا، وهو ما يبدو أن القاهرة لا تريد توريط نفسها فيه.
اقرأ/ي ايضًا: مسؤول: التعاون العسكري مع واشنطن وروسيا يقتصر على بناء محطة تزويد السفن
وعلى غير ما جرت العادة، تم استقبال الرئيس المصري المشير عبدالفتاح السيسي، اليوم في مطار الخرطوم، استقبالًا أوليًا مبدئيًا، بواسطة عضو مجلس السيادة الانتقالي الفريق إبراهيم جابر، ويبدو أن تلك هي أولى الرسائل التي تسلمتها القاهرة، مسبقًا، بضرورة إطلاعها على برنامج الزيارة الذي يتضمن التفاصيل الرئيسية، كعدد وفد الاستقبال ومكانه وزمانه، لكن يبدو أن القاهرة آثرت أن تمضي قدمًا في الزيارة، خصوصًا أن الأعراف الديبلوماسية تقول أن زيارات رئيس دولة إلى دولة أخرى، تعقد في العادة مرة واحدة في فترة حكم الرئيس الزائر.
التحايل الذي أبدته الخرطوم في مراوغة ضرورة استقبال الرئيس المصري عبر أعلى تمثيل للدولة، رئيس المجلس السيادي الانتقالي الفريق أول عبدالفتاح البرهان، تم عبر نقل مراسم الاستقبال الرسمي للقصر الجمهوري، وهو ما لم يحدث لأي رئيس زائر للبلاد، فقد جرت العادة أن يتم الاستقبال لحظة وصول الرئيس الزائر في مطار الخرطوم الدولي.
لم تكن الخطوة هي الوحيدة التي عمدت بها الخرطوم تقديم رسائل سياسية للقاهرة، فقد بينت الصور التي نشرها مجلس السيادة السوداني على صفحاته الرسمية في مواقع التواصل الاجتماعي، غياب العلم المصري عن اللقاءات التي جمعت الرئيس المصري مع كبار المسؤولين السودانيين.
ورغم أنه بات من المعلن قيام تحالف استراتيجي بين السودان ومصر في مقابل إثيوبيا صاحبة الخلافات مع السودان ومصر، والتي يبدو أنه قد انقطع أي تعاونٍ أو تقارب بينها -أي إثيوبيا- والسودان؛ إلا أن السودان ربما أراد أيضًا بهذه الخطوات أن يقول لمصر أن قضية "مثلث حلايب"، والتي تعد أحد الملفات التي لم يعلن بعد الوصول فيها لحل نهائي يرتضيه الطرفان، ما تزال موضع خلاف. ويبدو أن السودان أراد أن يشير بخطواته هذه أنه لا تنازل عن مثلث حلايب، خصوصًا أنه يبدو للمراقبين أن الزيارات الأخيرة بين الدولتين أدت إلى قيام صفقات استراتيجية، تتضمن التعاون العسكري المشترك والاتفاق على رفض بدء تشغيل وملء سد النهضة الإثيوبي، والذي تنوي إثيوبيا الشروع فيه منفردة الصيف القادم. ورغم هذا التحالف الاستراتيجي؛ إلا أن مصير "مثلث حلايب" يبدو من الأمور التي سيطول تناولها في أضابير السياسة في البلدين.
اقرأ/ي ايضًا: "هيومن رايتس ووتش": على الحكومة الانتقالية في السودان ردع قوات الدعم السريع
وتُذكرنا أحداث اليوم، الحادثة التي خلقت جدلًا واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي السودانية قبل قرابة العامين، في بداية تولي المجلس العسكري الانتقالي لزمام الأمور في البلاد، حينما قام رئيس المجلس وقتها، عبدالفتاح البرهان، بزيارة مصر، مقدمًا التحية العسكرية للمشير عبدالفتاح السيسي، ما عده البعض أنه إعلان امتثال للرئيس المصري؛ إلا أن البعض حاجج أن المقام مقام عسكري وليس مقامًا سياسيًا.
هل يدشن السودان ومصر تحالفًا جديدًا ربما يعيد تغيير خارطة المنطقة سياسيًا واقتصاديًا؟
الرسائل الدبلوماسية المضمنة ضمن البروتوكولات بين دول السودان ومصر وإثيوبيا، الدول التي تعيش حالات من الشد والجذب في عدد من القضايا المشتركة بين البلدان الثلاث، تذكرنا أيضًا بالانتقادات العديدة التي ظلّت تقدم لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والذي ظل يجلس وهو "يضع رجلًا على رجل" في جميع الزيارات واللقاءات الرسمية التي جمعته مع كبار المسؤولين من دول أخرى ورموز سيادية لها، وكان آبي أحمد يفعل ذلك بما يخالف الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية لما لوضع رجل على رجل أمام رمز دولة أخرى من محمول ذو دلالة سياسية سلبية، فهل تصادف أن يكون سلوك وضع "رجلٍ على رجل" هو نفسه سلوكه السياسي، والذي أدى به وحيدًا بينما يدشن السودان ومصر تحالفًا جديدًا ربما يعيد تغيير خارطة المنطقة سياسيًا واقتصاديًا؟ ذلك ما ستكشف عنه مقبل الأيام.
اقرأ/ي ايضًا