أصدرت نقابة المهن الموسيقية المصرية قرارًا بمنع أغاني المهرجانات معتبرة هذا الضرب من الغناء يهدد المجتمع والثقافة. أما في جنوب وادي النيل فقد حصلت الأغاني الموازية للمهرجان وهي أغاني الزنق والزار على مكانها المستحق كفن معترف به، ويستهلك بلا تحرج بواسطة النخبة الصاعدة، بعد الثورة.
استطاع الزنق أن يحجز لنفسه مكانة وسط الشباب، أولًا لأنه ضد توجهات السلطة المكروهة، ثانيًا لأن نظام البرابرة الغزاة عاجز تمامًا عن إنتاج فن يمكن اعتباره رسميًا
لم تقر فرنسا قانونًا رسميًا يرفع تجريم التجديف الديني إلا في الثمانينات، لكن المجتمع الفرنسي كان قد أقر "الحق بالتجديف" منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. تطبع الأمر اجتماعيًا أولًا، ثم جاء الإقرار الرسمي كطقس احتفالي رمزي، وتحصيل لما هو حاصل. بالمثل قبل الشعبان المصري والسوداني كلًا من المهرجان والزنق. لكن يمكن ببساطة للطبقة المسيطرة ثقافيًا أن تجرم ما أباحته إرادة الشعب ومرونة معاييره وواقعيته، يمكن في دولة تضاؤل نصيبها من الحرية مثل مصر أن تتحالف نقابة الموسيقيين مع السلطة العسكرية ضد تطور الموسيقى.
اقرأ/ي أيضًا: غناء "الراب" في السودان.. ألحان على إيقاع الثورة
في السودان حتى قبل الثورة، استطاع الزنق أن يحجز لنفسه مكانة وسط الشباب، أولًا لأنه ضد توجهات السلطة المكروهة، ثانيًا لأن نظام البرابرة الغزاة عاجز تمامًا عن إنتاج فن يمكن اعتباره رسميًا، كل ما أنتجوه كان أغاني جهادية مهووسة وعنصرية، أو إحياء وسوء توظيف لأغاني الحماسة التقليدية، وسبب مهم آخر هو أن أغاني الزنق حلوة، ومرحة وتتيح للسودانيين نافذة على الفرح، وسط الشقاء الجماعي، وأجواء الاكتئاب التي صنعها البرابرة لثلاثين عامًا من التجريف والإفقار المادي والثقافي.
في الثورة، كان من الطبيعي أن يكون الزنق، والراب والزار وكل الفنون المغضوب بعض عدة حرب الثوار، على البرابرة الغزاة. أن تقدح أغنية "الخميس عرمرم" زناد الهمم الثورية، أن تسكن نبوءات أغاني الزار، التي تؤديها الفنانة "مودة الحنينة" خواطرهم عندما يشن عليها القلق غارته الساحقة، أن تكون كلمات أغاني الراب في "سودان بدون كيزان" من شعارات الثورة ومنطلقاتها المبسطة "حسادة وسطحية..عواليق نخليها".
كان لأهل الفن والرياضة وللنساء والشباب الموصوف بـ"الضائع"، القدح المعلى في الثورة، لأنهم الأكثر استبعادًا داخل النظام، والأحوج للاطاحة به، وإقامة نظام جديد يمكن لهم العيش فيه، مثل كل العباد.
اقرأ/ي أيضًا: بعد 40 عامًا على رحيل "منى الخير".. "عيون المها" ما تزال تغازل وجدان الناس
في منتصف التسعينات حين كان "المشروع الحضاري الإسلاموي" في أوجه، كان مجرد الاستماع إلى فنان مثل "محمود عبد العزيز" يعتبر علامة حاسمة على قلة الأدب والصعلكة. والآن يأتي على الناس زمان طاسو وتباشي والعجب أستار، وزمان ستموت في العشرين، والحديث عن الأشجار، والكوميديا التي تضحك، والأغاني التي تطرب، والتمثيل الجدير باسمه. ويصعد جيل جديد من الفنانين، جيل مازن حامد، الذي هو النفي الكامل لكل ما أكدته ثلاثين عام الأسر الكيزاني البغيض، مع الشعراء والملحنين والموسيقيين والمصممين الذين يشاركونه نجموميته.
لم تقم وزارة الثقافة ولا الحكومة السودانية بأي جهد لتطوير الثقافة، فقط جاءت الحرية وحطم بروميثيوس الإبداع السوداني أغلاله. فقط أصبح بوسع الناس أن يختاروا الغناء الذي يعجبهم، لم يعد ثمة غناء رسمي وغناء خارج على القانون والأخلاق. لم تعد الدولة هي من يحدد ما الأخلاقي، كما تفعل الدولة المصرية بواسطة النقابة.
لا يعيش السودانيون الآن عصر حداثتهم ولا حتى عصر تنويرهم، لكنهم يعيشون العصر المؤسس لكل العصور الجميلة، عشية أعياد التاريخ؛ يعيشون عصر نهضتهم الإنسانية الخاص. لم يستعد السودانيون بعد حقهم في الحياة الكريمة الخالية من الحرمان، لكنهم استعادوا حقهم في الحلم والفرح، استعادو الإحساس بامتلاك المصير. ويذكرهم فن الزار والزنق بذلك في كل كل مناسبة، أصبحت الحفلات الغنائية لا تتم إلا بأغاني الثورة وشعاراتها وطموحاتها وإصرارها على النصر.
لا بد أن السلطة الثقافية قبل تألق خليل أفندي فرح، كانت ترى الغناء بالعود تجديفًا على فن "الطمبارة" الأصيل، الراقي..إلخ، لكن وضع الحرية الثقافية في زمن الخليل أتاح له أن يصعد بجديده، ويصعد معه جيل ذهبي كامل لم يتكرر بذات الطريقة قط في تاريخ السودان، إلا بعد عودة أجواء الفرح والحرية بعد ثورة كانون الأول/ديسمبر. في زمن البرابرة البائد كان يظهر فنان وحيد كل بضع سنين، صوت وحيد معزول. وردة واحد لا تصنع الربيع، الربيع الذي يتخلق الآن بأصوات وكلمات وألحان متزامنة ومتجاورة. بالنشأة المستأنفة لعصر خليل أفندي فرح الإنسي الحر، والذي كان أيضًا عهدًا ثوريًا تأسيسيًا، جرت خيانته والردة عليه لاحقًا.
هل يتاج للشعب المصري أن يعبر عن رأيه في أغاني المهرجان أو غيرها أو حتى في القرارات التي تمس وجوده بحرية؟ من أين تأتي نقابة المهن الموسيقية بهذا اليقين، يقين أنها تمثل أخلاق الشعب ورغبته؟ هذه هي مشكلة النظم القمعية. أنها تخلق مجتمعًا متخلفًا ثم تبرر وجودها بوجود التخلف، وبحماية التخلف. ليغطي النظام الاستبدادي على افتقاره للشرعية الديمقراطية يحتاج دائمًا أن يزايد على المحكومين بقيمهم. تقنع السلطة السياسية أو الثقافية مجتمعًا ما بأنه مجتمع قبلي أو طائفي أو متعصب ضد المرأة أو الأجانب وعليه أن يظل كذلك. هذا ضروري جدًا في أي نظام قمعي، وإلا كيف سيخرج الدكتاتور ليقول في خطبته الرنانة أن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان تتعارض مع قيمنا؟ قيمنا التي يحنطها ويكسبها طابع الخلود الجوهري.
تحرص السلطة الثقافية على حسم هذا التمرد، لا بد من استدامة التخلف. وفرض الحياة الجاهزة، والتصورات الجاهزة والذوق الجاهز، وابادة كل نزوع ذاتي في مهده
عبر إنتاج واستهلاك الفنون المغضوب عليها، تقول شعوب المنطقة إنها قادرة على العيش خارج شروط الطائفة والقبيلة، قادرة على تحمل المسؤولية وعلى التسامح مع الاختلافات. لذا تحرص السلطة الثقافية على حسم هذا التمرد، لا بد من استدامة التخلف، وفرض الحياة الجاهزة، والتصورات الجاهزة والذوق الجاهز، وإبادة كل نزوع ذاتي في مهده.
اليوم يمكنك أن تسمع أغاني الزنق في الإذاعة والتلفزيون الرسمي. حكاية جميلة كتبتها الحرية، تذكرنا بحكاية أبي خليل القباني، كما رواها نزار قباني في "الوضوء بماء العشق والياسمين":
"كان يحاول أن يقدم نًصًا من شكسبير
فيسألونه عن أخبار الزير..
يحاول أن يجد صوتًا نسائيًا واحدًا يغني معه
يا مال الشام يا شامي
فيخرطشون بواريدهم العثمانية
ويطلقون النار على كل شجرة ورد تحترف الغناء"
يموت القباني وتموت سلطة التحريم التي تشهر سيفها في وجه غناء المهرجان المصري، وكسرت الثورة السودانية سيفها الذي لطالما لوحت به في وجه أغنيات الزنق؛ يواصل نزار حكايته:
"بعد مائة عام
اعتذرت دمشق لأبي خليل القباني
وشيدت مسرحًا جميلًا باسمه
وصارت أغنية "يامال الشام، يا شامي"
نشيدًا رسميًا مقررًا
على كل مدارس الإناث في سورية".
اقرأ/ي أيضًا: