11-سبتمبر-2024
Mawlid in Sudan

لم تمنع الحرب رجال الطرق الصوفية من إحياء مناسبة المولد النبوي الشريف. وشهدت مدن سنجة، وأم درمان، والخرطوم بحري، والخرطوم بداية تدشين الاحتفالات التي تُختتم أمسية السبت القادم وتُسمى "قفلة المولد".

مواطنة: احتفالات المولد تعد متنفس السودانيين للعام الثاني على التوالي مع الحرب التي حولت حياتهم إلى جحيم

درج السودانيون على الاحتفال بالمولد في الساحات العامة وفي مراكز الطرق الصوفية. واليوم، بعد مرور 17 شهرًا من القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في 11 ولاية، بما في ذلك العاصمة الخرطوم، لا يمكن الاعتقاد أن الأمور على ما يرام فيما يتعلق بالأنشطة والأعياد العامة.

بوضع الزينة والمصابيح، للعام الثاني على التوالي في ظل الحرب والجوع والمرض والأوبئة، ابتدر المواطنون في حي شمبات بالخرطوم بحري إحياء الطقوس الخاصة في الليالي مع واقع إنساني بالغ السوء. ورغم ذلك، فإن الآمال لم تفارقهم وكأنهم يتحدون واقعًا مؤلمًا بالمزيد من ضخ الأمل في شرايين الحياة.

حلويات بطعم الرصاص

لدى الطرق الصوفية والجماعات الدينية في السودان تقاليد راسخة في إحياء المولد، بالتحرك لمسافات طويلة من المركز الصوفي "المسيد" إلى ساحة المناسبة والطرق على الطبول. يحرص بعض أتباع الطريقة على ارتداء الجلباب باللون الأخضر.

في أم درمان، في ساحة الخليفة، اعتاد المواطنون على التجمع طوال أسبوعين قبل حلول اليوم الختامي للمولد النبوي، والذي يصادف 12 ربيع الأول من السنة الهجرية 1446.

تزين ساحات المولد بالسرادق التي تعمل على بيع الحلويات، وتسمى شعبيًا بـ"حلاوة مولد"

تتزين ساحات المولد بالسرادق التي تعمل على بيع الحلويات، وتسمى شعبيًا بـ"حلاوة مولد". تُصنع من الفول السوداني والسمسم والسكر والجلوكوز، تُعجن ثم تُصهر في الأفران، وتستحوذ على السوق الرئيسي في مواسم المولد. ويتسابق السودانيون في إكرام العائلات خارج البلاد بإرسال صناديق منها. وربما لا يمكن الحصول عليها هذا العام بالنسبة للغالبية الذين تفرقت بهم آثار الحرب ما بين اللجوء والنزوح، حتى وصل عددهم إلى 13 مليون نازح.

لا يشكل مولد النبي محمد في السودان مجرد تاريخ عابر بالنسبة للسودانيين الذين يميل أغلبهم إلى التصوف، على الرغم من الانتقادات وفتاوى التحريم الصادرة من الجماعات الدينية المتشددة في صراع لا ينتهي بينها وبين الطرق الصوفية.

الاحتفال في الملاجئ

محمد زاهر، 33 عامًا، يتحدث من ملجئه في مصر عن بعض الذكريات في احتفالات المولد بالسودان، بميدان السجانة بالعاصمة الخرطوم، والتي تحولت إلى منطقة تشبه ساحة الموتى بفعل استمرار الحرب 17 شهرًا، مع انعدام الحياة وتوقفها عند محطة منتصف نيسان/أبريل 2023.

لا يجد زاهر في العاصمة المصرية محفزًا للشعور بما عايشه في احتفالات المولد في بلده، رغم أن الوضع أشبه بالسودان في مصر فيما يتعلق بالمراسم والطقوس. تشارك المجتمعات في المناسبة بشكل كبير، ومع ذلك فهو لن يتردد في الذهاب إلى ساحات الاحتفال وقد يشارك الطقوس من ساحة رئيسية وسط القاهرة. ويقول إن هناك تشابهًا بين احتفالات السودانيين والمصريين بالمولد، وهذا أمر يشجعه على المشاركة.

يسرد الشاب الثلاثيني بعضًا من الذكريات التي تحولت إلى حكايات مؤلمة، كون الحرب قد بددت الحياة العامة في بلده مع انسداد الأفق والأمل في توقف القتال قريبًا.

لاجئ سوداني في مصر: كنا نخرج من المنزل في فترة المساء ونذهب إلى ميدان المولد كما درجنا على تسميته في السودان

يقول زاهر لـ"الترا سودان": "كنا نخرج من المنزل في فترة المساء ونذهب إلى ميدان المولد كما درجنا على تسميته في السودان، بعد يوم عمل شاق. نتفق مع الأصدقاء على اللقاء في المكان ثم نساهر حتى الساعات الأولى من الصباح، لأن اليوم التالي في العادة تكون عطلة رسمية في جميع أنحاء البلاد".

في موسم المولد تستعد المحال التجارية المتخصصة في صنع الحلويات قبل وقت كافٍ بالتجهيزات ووضع السرادق في الساحات، والذهاب إلى أبعد من ذلك بنشر الإعلانات واللافتات لمحال طالما اشتهرت في السودان بصناعة الحلويات.

الخرطوم تتحدى الحرب

في حي الديم بالخرطوم بحري، جوار السوق الشعبي، تمكنت الطريقة البرهانية من إحياء مناسبة المولد هذا العام رغم تحديات الحرب ووقوع المنطقة تحت سيطرة الدعم السريع. لكن المواطنين بالمسيرات تحدوا الوضع العسكري بالتحرك لمسافات مع الطرق على الطبول.

تحرص الطريقة البرهانية بالخرطوم على إقامة احتفالاتها بالمولد النبوي في مساحات واسعة تمتد إلى مئات الكيلومترات داخل مقرها، وتستضيف أعدادًا هائلة من المحتفلين، بما في ذلك القادمين من خارج العاصمة. ولا تمنع الحرب أتباع هذه الطريقة من الوصول إلى ساحة الاحتفال والمكوث لأيام وإحياء الليالي بالمدح والثناء على النبي محمد.

لم تعلن الحكومة القائمة في بورتسودان حتى الآن عن عطلة المولد، بينما في الغالب يتم إعلان العطلة يوم الأحد القادم وفق إجراءات روتينية لمجلس الوزراء المكلف. فيما تعيش الولايات الواقعة تحت سيطرة الجيش والآمنة نسبيًا هذه الأجواء بشيء من الأمل في طي صفحة الحرب، كما تقول اعتماد، ربة المنزل التي تقيم بمدينة كسلا شرق البلاد.

مواطنة: بعض الأحياء قررت إحياء مناسبة المولد هذا العام بإقامة وليمة في الشوارع وتوزيعها على النازحين والمارة

تقول اعتماد لـ"الترا سودان": "إن بعض الأحياء قررت إحياء مناسبة المولد هذا العام بإقامة وليمة في الشوارع وتوزيعها على النازحين والمارة حتى يشعر الناس بقيمة التكافل في هذا اليوم".

في "زفة المولد"، اعتادت اعتماد على اصطحاب أطفالها لمشاهدة رجال الطرق الصوفية أثناء السير إلى ساحة الاحتفال في الخرطوم، قبل أن تنزح إلى هذه المدينة. اليوم، تشعر بالحسرة على وقوع منطقة سكنها في العاصمة تحت حرب عنيفة.

اهتمام شعبي

ستنضم مدن عطبرة، ودنقلا، ووادي حلفا، وبربر، وبورتسودان إلى احتفالات المولد النبوي التي انطلقت نهاية الأسبوع الماضي. ولا ينسى الناس في مثل هذه المناسبات تبادل أطباق الطعام والذهاب إلى الساحات العامة وتناول وجبة الحساء واللحوم.

يحرص السودانيون على احتفالات المولد كونها تمنحهم "الراحة النفسية" من هموم مثقلة وحياة قاسية - وفق اعتماد - وهي مناسبة لا تقل عن مناسبات عيد الأضحى والفطر، وتعززها الطرق الصوفية التي رسخت ذلك عبر "زفة المولد" والبقاء في الساحات العامة حتى الساعات الأولى من الصباح لفترة 12 يومًا.

تقول اعتماد لـ"الترا سودان": "إنها لاحظت اهتمام السودانيين بالمولد هذا العام بشكل كبير، وتعزو ذلك إلى شعورهم بالإحباط من الحرب وآثارها، وأن الاحتفالات بالنسبة لهم متنفس من الواقع المرير".

وتضيف: "في السودان درجنا على أن بعض الطرق الصوفية تبقي على سرادقها لشهور طويلة في ساحات المولد. لديهم الطقوس التي اعتادوا عليها، ويجيء الناس من الأرياف والفيافي، ويحسن الناس إكرامهم، ولا يحبون الانصراف قبل أن يشعروا بالرضا من خدمتهم".