بعد دخول الشهر السادس على القتال بين الجيش والدعم السريع في السودان، يخشى المواطنون من أن يكون بلدهم على مفترق طرق بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتطور النزاع المسلح إلى درجة التلويح بتكوين حكومتين إحداها في البحر الأحمر تحت سيادة الجيش، وأخرى في الخرطوم تحت سيطرة الجنرال محمد حمدان دقلو.
قبل ما يزيد عن الشهرين كانت الآمال معلقة على توقف القتال على خلفية المحادثات بين الجيش والدعم السريع في منبر جدة بالمملكة العربية السعودية، واليوم يقف السودان على حافة حرب أهلية، وفق تحذيرات للأمم المتحدة التي بدت أكثر تشاؤمًا في تقريرها عن الوضع في البلاد، والذي قدمته إلى مجلس الأمن الأربعاء الماضي.
يستمر القتال الضاري في العاصمة الخرطوم ونيالا وزالنجي والجنينة والأبيض وكادوقلي وبعض المناطق في شمال كردفان، مسفرًا عن نزوح أكثر من خمسة ملايين شخص بمعدل مليون شخص شهريًا
يستمر القتال الضاري في العاصمة الخرطوم ونيالا وزالنجي والجنينة والأبيض وكادوقلي وبعض المناطق في شمال كردفان، مسفرًا عن نزوح أكثر من خمسة ملايين شخص بمعدل مليون شخص شهريًا، ولجوء مليون شخص عبر الحدود إلى دول الجوار.
وخلال خمسة أشهر من العمليات العسكرية رافقتها "هدن هشة" خرجت (80)% من المرافق الصحية عن الخدمة، وأصبح الحصول على مستشفى في الخرطوم على سبيل المثال، من "المستحيلات"، إلى جانب انعدام الممرات الإنسانية وسط تأكيدات من المنظمات الدولية أن الطرفين لم يلتزما بتنفيذ اتفاق جدة لحماية المدنيين والأعيان المدنية والصحية رغم توقيعهما عليه في 11 أيار/مايو الماضي في منبر جدة.
حتى تلك الولايات التي فر إليها نحو خمسة ملايين شخص لم تتمكن من امتصاص الحاجة الماسة إنسانيًا وخدميًا، مع توقف صرف الرواتب للعاملين في القطاع العام، وتسريح بعض العمال في القطاع الخاص جراء توقف الحياة الاقتصادية في العاصمة الخرطوم، والتي أفرزت أكبر عدد من النازحين.
تطور القتال أيضًا لرغبة كلا الطرفين في زيادة رقعة مساحات سيطرتهما، خاصة في العاصمة الخرطوم، وربما لترجيح الكفة في المفاوضات التي ترعاها السعودية والولايات المتحدة، والتي تم تجميدها في تموز/يوليو الماضي ولا يعلم أوان عودتها مرة أخرى.
عسكريًا تمكن الجيش خلال هذه الفترة من امتصاص هجمات الدعم السريع وتوافد عشرات الآلاف من مقاتليه إلى العاصمة عبر الحدود -كما تقول بعثة السودان في الأمم المتحدة في آخر تقرير لها- وفي ذات الوقت لم يتمكن الجيش من استعادة الأجزاء الكاملة للقصر ووسط الخرطوم وبعض المناطق الحيوية، بينما تسعى قوات الدعم السريع لتضييق الخناق على مقار الجيش المنتشرة في العاصمة وتُحيط بها الأحياء السكنية في بعض المناطق، ووجدت نفسها في قلب المعارك العسكرية، وتقريبًا أصبحت خالية من المواطنين.
منذ ثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام البشير، لعبت لجان المقاومة والقوى المدنية المؤيدة للحكم الديمقراطي دورًا بارزًا في تصدر المشهد السياسي، واليوم عقب دخول الشهر السادس من النزاع المسلح، تجد هذه القوى نفسها هي الأخرى في مفترق طرق، ما بين مؤيد للجيش في استعادة الدولة ومؤسساتها الشرعية، وما بين الوقوف على الحياد وسط اتهامات لبعضها بالوقوف مع الدعم السريع، وانعكس هذا الانقسام البائن على استحالة بناء جبهة مدنية مناهضة للحرب، وقد يستمر التعثر طويلًا نظرًا للوضع في السودان في الوقت الراهن.
في نفس الوقت وكجزء من التأثير على الصراع والمشهد السياسي، يستميت أنصار نظام البشير لإيجاد موطئ قدم في أي معادلة جديدة للحكم في السودان، حتى وإن اضطروا إلى تقديم بعض التنازلات للجيش، وذلك بالنسبة لهم أفضل من عودة فترة ما بعد 11 نيسان/أبريل 2019.
وانطلقت الحملات المكثفة في تخوين كل من لا يساند الجيش، بينما يخشى سياسيون مدنيون ونشطاء من أن يؤدي الانقسام إلى تفتيت السودان إلى دويلات، حيث بدأت إرهاصاتها بالتهديدات الصادرة عن الجنرال محمد حمدان دقلو بتكوين حكومة في العاصمة إذا مضى البرهان في تكوين حكومة البحر الأحمر.
دولتان تخوضان صراعًا مسلحًا قابلتان لتحويل النزاع المسلح إلى حرب أهلية شاملة وفق مخاوف الأمم المتحدة، وذلك إذا ما ترك الجنرالان دون ضغوط دولية هائلة وجدية لحملهما إلى طاولة التفاوض في منبر جدة الذي قد يكون أساسًا لوقف إطلاق النار المستدام.
ورويدًا رويدًا مع الأزمة الإنسانية والخوف من المجهول وتمدد رقعة الحرب، ترتفع المطالب الشعبية من وقف القتال سواء بالحسم العسكري أو الحل السلمي عبر التفاوض، بينما يرمي "الراديكاليون" المؤيدون للقتال والحل العسكري بثقلهم في الأزمة، مطالبين بعدم اليأس من القتال، ويساعدهم على ذلك ضعف المدنيين المناهضين للحرب في بلورة المطالب وتكوين جبهة موسعة بسبب الخلافات السياسية.
من الناحية الإنسانية الأزمة لم تعد قادرة على تحمل المزيد من "فترات الحرب" فالجوع الذي كان تحذيرًا أمميًا أصبح واقعًا، كما أن العائلات التي نزحت إلى الولايات لم تعد قادرة على سداد إيجار المنازل الذي تجاوز مليون جنيه سوداني، كما أن انعدام اليقين لديهم بشأن نهاية هذه المأساة يتزايد يومًا بعد يوم.
لا يمكن التكهن بنهاية حرب المدن التي اشتعلت في العاصمة الخرطوم وبعض المدن
ولا يمكن التكهن بنهاية حرب المدن التي اشتعلت في العاصمة الخرطوم وبعض المدن، وذلك على العكس من الحروب التي استعرت في السودان من قبل، لعوامل فنية وعسكرية قد تحول دون إنهائها في فترة وجيزة.
لم يبذل المجتمع الدولي المطلوب منه لإنهاء القتال، وتتكالب الأزمات على السودانيين بشكل غير مسبوق وسط مؤشرات الانقسام وتفكك السودان، الأمر الذي قد يصبح واقعًا يومًا ما، فالحسابات تتبدل مع تمدد الحرب بالتنازل عن الوحدة لصالح "استقرار متوهم"، كما إن قواعد اللعبة العسكرية قد تتغير في أي لحظة، في بلد متعدد الأزمات ويواجه تعقيدات تحطم جميع الحلول الممكنة.