21-أكتوبر-2019

عبدالغني كرم الله

كانت لنا أفانين في الصوم، مثل الصوم الصمدي وغيره. أحياناً كنا نصوم أسبوعاً كاملاً، (صوم عن إفطار فقط طبعاً) من أجل دخول الفيلم الهندي العظيم، وتناول الباسطة، وكوب الحليب "المقنن" وشراء الروايات البوليسية، ومجلة ميكي، (وأي فيلم هندي كان عظيماً). ألا تتزوج أجمل البنات وأغناهم، فتى فقير، كناس، أو نجار؟ (وماذا نريد في طفولتنا أكثر من ذلك؟) فكنا نجوع من أجل "جنة السينما"، ونقف في الصفوف الطويلة، والشمس الحارقة منذ العصر، فعشاقها كثر، وبوليس "السواري" يلف بأحصنته ويضرب بسوطه كل من ينحشر عفواً بين صفوف نمل السينما الأسمر، الوله، حتى نجلس على كراسي الحديد القاسية، قبالة شاشة السينما، البيضاء، الضخمة.

الحكاية تغيرنا، لسنا نحن في بدئها، مثلما ونحن نقرأ الخاتمة

اقرأ/ي أيضًا: شاشة طفولتي.. الصوم لدخول جنّة السينما!

كل ذلك معروض على شاشة من قماش دمور سحري، نصدقها كعادة الطفولة، أتريد الطفولة الفقيرة أكثر من ذلك؟ أليست الأديان نفسها، تتحايل بالحور العين كي تحث الجميع على التقوى والإحسان؟ وبالسعادة والخضرة مثل جبال الهند؟ كل ذلك كنا نجده في الفيلم الهندي، صورة طبق الأصل، حور عين، وخضرة، وبطولة (لا يموت البطل ولو هوى من جبل إفيرست)، وزواج ميمون بين طبقات المجتمع، وكأن ماركس لم يخلق ويفكر، في أزمة الطبقات "لعنها الله"، التي تفرق الناس أيدي سبأ، وتهزم الحس الإنساني النبيل، والمساواة المباركة. ما أحلى أيام الطفولة، كنا نصدق الأفلام، قبل أن تجرفنا أكاذيب الشباب، ونعرف بأن "الرومانسية" مرحلة، ولكن هناك رومانسية أعمق، حين نرى ظلم وجور الواقع، والتوق لتغييره، بكل السبل، ومنها الفن السابع، النبيل، والمؤثر كالشعر، والموسيقى في النفس البشرية.

نتعجب من القبلات، لم تغمض النساء أعينهن في الفيلم؟ خوفا أن يراها مشاهد قريبها؟ خال أو عم؟ أم تلكم طبيعة وغريزة، لم نسأل فتاة عن سر العماء المصنوع لحيظات القبلة، ولم نر قبلة في القرية من قبل، بل يستحيل رؤيتها ولو في غرف النوم. أهناك غرف نوم في القرية؟ لا أدري كيف يخلو الزوج بزوجته، ينامان في قلب الحوش مع كل الأسرة الممتدة، فيسرح طرفي، لم يغمضن أعينهن؟ أنظر لفتاة بعيدة في السينما، تغمض عينيها هي الأخرى، أهو طقس؟ أم خجل؟ أم أنها عاشت الدور، كبركات السينما، حين تنصب منك بطلاً، تشعر بما يشعر به، وتبكي حين يتألم، ويظل التأثير ساعات بل أيامًا وأيام. لم تكن الشاشة سوى عين، اتسعت بها حياتنا، وتجاربنا، ومخيلتنا، ولم تعرف سبباً للإغماض، حتى حسبت النوم، وهي تغمض بضع سويعات، قبلة جميلة من ملاك الغياب، في مملكة الحلم الساحرة.

نخرج من السينما، ابن أختي وأنا، في ظلمة تضيئها قلوبنا الحالمة، نمشي كأبطال الفيلم، عدوى البطولة انتقلت لعقولنا وقلوبنا، نحدق في عمارة طويلة، فنرى غرفة مضيئة، لا شك هناك فتاة جميلة، منكوشة الشعر الجميل على المخدة، تقرأ رواية رومانسية، وتحلم مثلنا، ومثل بطل الفيلم، سيقودها لا محالة القدر، أن تصطدمني بكتفها، وهي مسرعة في طريقها لعربتها الفارهة، وتتناثر كتبها، فتعاتبني، باستفزاز، مشحوذ ببكاء، وما تلبث أن تخفض لي جناح الذل من الرحمة، ويشهد بعد أسبوع ابن أختي تتويجنا معا كأحلى "قيس وليلى" (هنا مربط الفرس في الفيلم الهندي)، هنا الحلم والواقع أخوان توءم.

عبدالغني كرم الله

حين نصل دارنا، ليلاً، وقد سرنا، ثلاثة كيلومترات، أو أكثر، نجد العصير بانتظارنا، أعددنه بنات أختي، ليس حباً فينا فقط، بل حباً في (حكايتنا الفيلم لهن)، وكانت ذاكرتي طيبة، تؤوي الفلم وعوالمه (ومرات أزيد وأنقص كيفما أشاء، في شاشة ذاكرتي وخيالي)، وكنت أتدلع، عليهن، وهن (أي بنات أخي)، "يحنسنني"، بكل الإغراءات، غسل ملابسي، أو صنع الشاي لي في منتصف الليل، كي أحكي، فأدركت سر الحكاية، وتوق النفس لها، إنها تماماً مثل قصة "شهريار" الذي نسي قتل شهرزاد، وهام بها حباً، لمجرد أنها "ملكة" الحكي، وأميرته الفذة.

الحكاية تغيرنا، لسنا نحن في بدئها، مثلما ونحن نقرأ الخاتمة، وهي تملأ الشاشة الكبيرة، فنخرج وبين قلوبنا قصة عشناها، وبكينا فيها، وطرنا وحلقنا بعيداً بعيداً، أفلا يستحق حكيها كوب عصير؟ في منتصف الليل؟

ما أعجب سلطانك أيتها السينما. أنا الآن بطل، في عيونهن، بطل الحكي، وكنت أزيد، وأنقص وأضيف، حراً، كشأن السينما، فهي بنت الوهم الجميل المؤثر

وأنا أحكي في الفيلم، في حماس صادق، طفولي، أراقب بنات أخي، يشاهدن فيلمًا في مخيلتهن، شاشة عذبة، تحيل (ضوء حزمة ذاكرتي)، لفيلم حقيقي في شاشة قلوبهن، تمثلهن لكل كلمة تقال، فأشعر بأن (الصورة)، ليست في الشاشة، بل في الحروف التي ننطقها، والسرد الذي ننسج خيوطه، بل الحياة صورة، في ذهن كل امرئ، يتمثلها بشكل فردي، حسب وعيه، ومعاناته، وعشقه، "الطرائق بعدد الخلائق" كما يقول شيوخ التصوف الإنساني، لإدراكهم معنى الذات، في مقام الفردية، التي هي أُس حياتنا، وغايتها الأخيرة، أن أكون نفسي، لا شي غيري، مهما كان.

يا لروعة عيونهن والتماعاتها، بنات أخي، وأنا أحكي لهن الفيلم، ما أعجب سلطانك أيتها السينما، أنا الآن بطل، في عيونهن، بطل الحكي، وكنت أزيد، وأنقص وأضيف، حراً، كشأن السينما، فهي بنت الوهم الجميل، المؤثر، لكن حذارى أن تتقدم للأمام، حتى تلمس الشاشة بيديك، لتجدها مجرد حائط، ليس إلا، أهناك وهم وخيال ألذ و"أطعم" من ذلك؟

 

اقرأ/ي أيضًا: 

السينما في شاشة طفولتي.. متعة على حائط الجامع!

السينما.. وجه من وجوه المقاومة