مرة أخرى تشهد قائمة عقوبات الخزانة الأمريكية نزوعًا إلى تأكيد ما ظلت تروّج له –حسب مراقبين– "بروباغندا" الدعم السريع بشأن الصراع الدائر منذ الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي بوصفه حربًا على "فلول الكيزان"، فبعد أن شملت العقوبات الأمريكية الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية السودانية علي أحمد كرتي، ها هي الولايات المتحدة تعلن قائمة جديدة من ثلاث شخصيات رئيسة في المشهد الأمني والسلطوي في الحقبة التالية لمفاصلة الإسلاميين، وهم: الفريق أول أمن صلاح عبدالله محمد (قوش) مدير جهاز الأمن والمخابرات ذائع الصيت، ومن خَلَفه من بعد الفريق محمد عطا المولى الذي انتقل من إدارة المخابرات إلى اعتلاء التمثيل الدبلوماسي في واشنطن حتى اندلاع ثورة ديسمبر، ثم الفريق طه عثمان الحسين مدير مكاتب الرئيس المخلوع عمر البشير وأحد أهم العناصر تأثيرًا ونفوذًا في آخر سني حكمه.
ربما أرادت العقوبات الأمريكية أن تحدث فجوة إدراكية بين المؤسسة العسكرية ومحاضن الإسلاميين بتعميق التنافر والقضاء على أي احتمال لعودتهم
المفارقة الكبرى في أن قائمة العقوبات الأمريكية جمعت عناصر التناقض والتعارض الحاد في صعيد مغاير، وبعد زوال حكم "الإنقاذ"، وفي أعقاب حرب قائمة في طور مختلف، لتفتح الباب على مصراعيه أمام السؤال ليس عن جدوى العقوبات الأمريكية التي لم تغير في قناعة الفاعلين في المشهد الحالي في السودان وإنما عن مغزى ملاحقة رجال الظل ودهاقنة المخابرات في أعقاب زوال دولتهم وانتهاء تأثيرهم الذي أفرغ أكاديمي إسلامي مرموق مقالات معمقة في قدرتهم على ممارسة السلطة تحت عنوان (إخواننا الصغار وطموحاتهم الكبيرة)، والتي يراد لنا أن نفهم أنها لم تزل ممتدة في مرحلة ما بعد الثورة.
اختيار أقطاب رحى السلطة والأمن في حكم "الإنقاذ" يتجاوز محابس التنظيم الإسلامي إلى الارتباطات الإقليمية والرهانات التي يمثلها هؤلاء بوصفهم ذواتًا أمنية وازنة لديها معرفة دقيقة واطلاع واسع، وقبل هذا وذاك نفوذ إقليمي محمول على سلطة المعلومة التي بات أزيز نعومتها أمضى من السلاح. إذ لا تخفى –على أنظار التحليل والتتبع– العلاقات التي تجمع الفريق صلاح "قوش" بنخبة الحكم في مصر لا سيما مؤسساتها الأمنية وأجهزة مخابراتها واستخباراتها، وعلى ذات المنوال تتراءى علاقة وثيقة للفريق محمد عطا المولى عباس بأجهزة المخابرات التركية التي أفاد منها في التخلص من الفريق طه عثمان الحسين الذي يتميز بصلة أكثر خصوصية بدواوين الحكم في الإمارات والسعودية نظرًا إلى أدواره في إدراج السودان ضمن حلف "عاصفة الحزم" وإحداث أكبر اختراق في بنية السياسة الخارجية بقطع علاقة السودان بإيران.
ويرى الباحث في العلاقات الأمريكية السودانية معاوية عوض الله أن الفلسفة التي صممت عليها العقوبات الأمريكية هي استخدام أدوات التأثير المالي والاقتصادي لتحقيق هدف إيقاف الحرب، وحمل المتورطين على إيقافها. "معلوم أن أمريكا بحكم سيطرتها الواسعة على منظومة الاقتصاد العالمي توسعت كثيرًا في العقود الأخيرة في استخدام سلاح العقوبات أداةً سياسية للتأثير على الأطراف ودفعها في اتجاهات ما تتطلع إليه النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة" حسب ما يقول معاوية. ويتابع قائلًا إن مدى تأثير العقوبات الأمريكية يتفاوت من بلد إلى آخر بحسب قدرته على الصمود والتحايل على العقوبات. والشاهد من الممارسة –طبقًا لمعاوية– أن تأثير العقوبات الأمريكية أكبر من تأثير عقوبات مجلس الأمن نفسه، ولدى كل الدول والمؤسسات على مستوى العالم استعداد كبير للاستجابة للعقوبات الأمريكية ووضعها موضع التنفيذ خوفًا من الغرامات التي تفرضها الولايات المتحدة والصادرة عن "الأوفاك" الأمريكية. ويعتقد معاوية أن للعقوبات أثر كبير على البلدان والكيانات، وأنها مصممة فعلًا للتأثير على هذه الكيانات وحملها على التخلي عن بعض الممارسات، والقبول بشروط محددة ترغب فيها أمريكا، لافتًا إلى أن للعقوبات "أثر بطيء، لكنه حتمي".
ويلتقط الكاتب والمحلل السياسي عباس محمد صالح مفارقة مرتبطة بـ"فرضيات غربية" ترى أن آلية العقوبات في حد ذاتها كفيلة بتغيير حسابات الفاعلين والتأثير على توجهاتهم، بيد أن تأثير استخدام هذه الآلية لممارسة النفوذ على بعض الأطراف "يظل محدودًا" –برأي عباس– ولا يغير بالنتيجة المواقف والسياسات في بعض السياقات، مشيرًا إلى أن تجربة العقوبات الأمريكية على نظام "الإنقاذ" دليل على ذلك.
ويقول عباس إن أي صراع معقد ينطوي على مستويات متفاوتة من التأثير والدور، منوهًا بأهمية استهداف "المستويات الأكثر فاعلية وتأثيرًا مع ضرورة اتسامها بالتناسب".
فرض عقوبات أمريكية على الثلاثي (صلاح قوش ومحمد العطا وطه عثمان الحسين) في هذه المرحلة –حسب عباس– هو "نتاج طبيعي لافتراضات خاطئة بشأن تشخيص طبيعة الصراع"، مضيفًا أنها تتعمد تكريس "سرديات مضللة" تنطلق من أن عناصر النظام السابق هم العنصر الوحيد المؤثر في تفاعلات الصراع الذي انتقل بعد اندلاع الحرب في نيسان/أبريل الماضي إلى "مرحلة جديدة تهدد وحدة كيان البلاد وسلامتها" – وفق عباس.
كما تأتي هذه الخطوة تحت وقع سردية أن الإسلاميين مسيطرون على الجيش، وهم في تضاد مع المكونات المدنية والدعم السريع بوصفهم طرفًا في الحرب والصراع السياسي، ما يعني أن العقوبات الغربية يمكن أن تكون وسيلة ناجعة لإضعاف الإسلاميين وإضعاف القوات المسلحة أيضًا في مباحثات جدة – بتحليل عباس.
وعمومًا يرى عباس أن نمط العقوبات المتبع من قبل الإدارة الأمريكية يُظهر "تحيزًا واضحًا بهدف مخاطبة الرأي العام الداخلي وجماعات الضغط أو الحد من الانتقادات التي توجه إليها أحيانًا ووصفها بالبطء في سياق إنجاز المواقف المفترضة". كما تحمل العقوبات في طياتها "ذات الوصفة التبسيطية للصراع، بأنه بين قوى مدنية وعسكرية أو بين أنصار الحكم المدني والرافضين له"، وهو توصيف "مضلل وغير دقيق بالمرة" على قول عباس. ويعتقد عباس أن تبني الولايات المتحدة عقوبات ضد أفراد أو كيانات من منطلق تقوية مكونات منافسة لها سياسيًا من شأنه زيادة حدة الاستقطاب السياسي، ثم أن رهن عملية الانتقال إلى الديمقراطية والحكم المدني بفئة سياسية "غير ديمقراطية" في حد ذاتها وجعلها مقياسًا لتلك العملية هو إعاقة للديمقراطية في الواقع لا سيما في ظل تجاهل الإرادة الشعبية ومصادرتها لمصلحة مشروعات "سياسية نخبوية ضيقة" – طبقًا لعباس.
وبدا بيان الحركة الإسلامية المندد بعقوبات الخزانة الأمريكية الثانية أو ما أسماه البيان "تماديًا من الإدارة الأمريكية في غيها" ومحاولتها من خلال "ميزانها المختل" خلط الأوراق وتأجيج الفتن. وبدا البيان مربكًا لأنه تناول العقوبات الموجهة ضد السيدين محمد عطا المولى وصلاح عبدالله (قوش) واستثنى الفريق طه عثمان الحسين الذي كان منتميًا إلى الحركة، مما أثار تساؤلًا بشأن انتساب عطا وقوش إلى الحركة الإسلامية السودانية وانتفاء انتساب طه الحسين إليها، وما يمكن أن يمثله الانتساب إلى حوزة الإسلاميين في إقليم مجانف لوجودهم في أعقاب ثورة أرادت أن تنهي مسيرة حكمهم المتطاول، وبشأن دلالات ما ترسله مثل هذه العقوبات من تعزيز سردية الحرب بحسبانها "حرب فلول الإسلاميين" ضد الحكم المدني. إذ ترد معلومات متطابقة عن أدوار تنسيقية عالية يمارسها الفريق طه عثمان الحسين في دعم منظومة الدعم السريع بوصفه الشخصية المفتاحية في رهن السياسة الخارجية السودانية للمحور الإقليمي ما بعد حرب اليمن بحسب مراقبين مطلعين، وما أحدثه من تواشج عميق وهيكلي بينه وقادة الدعم السريع ومستشار قائدها يوسف عزت تحديدًا في غمرة انشغال القادة العسكريين للدعم السريع بالمعارك الدائرة واتساع نطاقها الجغرافي في كردفان ودارفور.
وربما أرادت العقوبات الأمريكية أن تحدث فجوة إدراكية بين المؤسسة العسكرية ومحاضن الإسلاميين بتعميق التنافر والقضاء على أي عودة محتملة لهم على ما يمكن أن تؤسسه الحرب القائمة أو هي بالفعل محاولة لفصل العناصر الداعمة وما تمثله من رهانات إقليمية ضالعة في معارك السودان والتي تتمظهر في أقطاب رحى السلطة والأمن في "الإنقاذ"، وقد خرجوا عن حوزة الإسلاميين إلى فضاء التأثير الإقليمي بأدواته الناعمة والصلبة.
وأيًا تكن القراءة في عتمة غياب المعلومات ونقصها، فهي ربما تحمل في جوفها كفكفة لغلواء الحرب بتعزيز سرديتها، وهي مقاربة ماكرة تستثمر في النفور من عودة الإسلاميين والقبول بأي صيغة تبعد أشباحهم وإن كان البديل هو الإبقاء على واقع الهشاشة والتشوه الأمني البنيوي وتعدد الجيوش الذي خرجت من تناقضاته الحرب المشتعلة.