في خطوة عدت متأخرة، أعلنت قوى وازنة من حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا للسلام خروجها عن الحياد وانخراطها في المعارك الحربية الدائرة بين الجيش والدعم السريع، انطلاقًا من تغليبها وحدة السودان، وتنديدها البالغ بما عدته "انتهاكات صارخة" ظلت تمارسها "مليشيات الدعم السريع" ضد المواطن السوداني الذي لاقى "شتى أنواع العذاب من اغتصاب وقتل ونهب وحرق وتمثيل بالضحايا واحتلال المنازل واختطاف النساء وتدمير البنية التحتية" – وفقًا لبيان الحركات. وأشار البيان الصادر عن الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا – مسار دارفور في أعقاب مؤتمر صحفي عاصف بمدينة بورتسودان – أشار إلى الجهود الوقائية التي بذلتها الحركات لمنع اندلاع الحرب، ثم اضطرارهم –في مرحلة لاحقة– إلى التزام الحياد بسبب وساطتهم بين "أطراف الخلاف". وكوّن دستوريو القوى المسلحة قوة مشتركة لحماية القوافل الإنسانية والتجارية لولايات كردفان وإقليم دارفور. وإزاء انتقال الحرب إلى كردفان ودارفور وما لاح معها من نذر التقسيم والتجزئة ودخول "مليشيات أجنبية ومرتزقة" وما أسماه البيان "طريقة ممارسة الحرب في إلغاء كل مكونات السودان"، فضلًا عما ألمح إليه رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم بتهديد مدينة الفاشر، كل ذلك وغيره، دفع قوى الكفاح المسلح إلى إعلان موقفها من الصراع الدائر حاليًا في فضاء الإقليم الغربي.
رجح مختص بتحليل بنية المؤسسات والسياسات أن تأخذ الحرب "منحًى مختلفًا" بسبب ما أسماه "تماثل العقيدة العسكرية الهجومية لدى الحركات المسلحة والدعم السريع"
ما برز من خطاب سياسي صاحب إعلان الموقف أكد فداحة الانتهاكات وعمق الأزمة الممتدة لعقدين من الزمان، بعد عهود نسبية من الاستقرار، وتحول مواطن دارفور مرة أخرى ما بين لاجئ أو نازح مع ازدحام المعسكرات ضمن شروط إنسانية قاهرة. وقدّر رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي بأن عدد اللاجئين والنازحين يقارب نحو ثلاثة ملايين إلى خمسة ملايين نازح ولاجئ، وأن المنهج نفسه في استهداف ناشطي المجتمع المدني وقادة المجتمعات المحلية تطابقَ في مناطق كتم وطويلة وزالنجي، إلى جانب ما حدث في الجنينة من تقتيل على الهوية بلغت ذروتها مع اغتيال والي غرب دارفور خميس أبكر في حزيران/يونيو الماضي والعبث بجثته وتقطيعها والتمثيل بها في مشهد غير مسبوق. الإدانة المعلنة بأثر رجعي رافقتها لغة اعتذارية عن بواعث الحياد في حرب ضرورة وجودية يجتازها إقليم دارفور في ظرف معقد وبالغ الحرج، لتأتي الإجابات مرتجلة تارة بما فصل فيه القائد مناوي من أهمية منح السلام فرصة وتغليب الأفعال على الأقوال بدليل تقديم نحو (50) شهيدًا في حماية القوافل الإنسانية والأسواق والبنوك، أو ما ذكره قائد العدل والمساواة جبريل إبراهيم عن أن قواتهم آثرت أن تلتقط أنفاسها في أعقاب عودتها من حرب ضارية، قبل أن تنخرط في جولات أخرى تمليها عليها نمط "استهداف المليشيا للمواطن" مدعومةً من عناصر "وافدة من خارج الحدود"، في سياق مخطط خارجي يهدف إلى تقسيم البلاد على النسق الليبي، بعد فشل الإخضاع الكامل للمركز وإدارة السودان من العاصمة الخرطوم.
ويذهب المختص بتحليل بنية المؤسسات والسياسات محمد الواثق أبو زيد إلى أن "موقف الحركات الملتبس من تمرد الدعم السريع يخفي وراءه اصطفافًا حقيقيًا إلى جانب الجيش منذ أول يوم". بيد أنها لم تشأ التعبير عنه علانية –بحسب الواثق– بسبب ما فرضه توسطها من حياد ضروري لنزع فتيل النزاع قبل اشتعاله في الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي، فضلًا عن محاذير اتساع رقعة الحرب وتعمق آثارها – وفقه. ويرى محمد الواثق أن التوقيت الحالي يأتي في سياق "تقدم الجيش واستعادة زمام المبادرة في معارك الخرطوم" وما يمكن أن يوفره من دعم لوجستي لعناصر الحركات في دفاعها المشروع عن مواطن دارفور والحفاظ على أصوله وممتلكاته وحماية حقه في الحياة والكرامة الإنسانية – حسب الواثق. وفي ظل موقف قبيلة "الزغاوة" (الحاضنة الاجتماعية لحركتي مناوي وجبريل) وهواجسها من مشروع "عربان الشتات"، يقرأ هذا –بحسب الواثق– مع ما راج مؤخرًا عن استطلاع القوى الأجنبية لقادة الحركات بشأن إمكانية فصل دارفور حسب ما أوضح مناوي في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه موقفه وما يمثله من تهديد وجودي لمكوّن "الزغاوة" على امتداده في الجغرافيا الاجتماعية المتجاوزة لحدود السودان، فضلًا عما بدأ يبرز بصورة متصاعدة من إدانات دولية لانتهاكات الدعم السريع وما صدر من عقوبات مالية واقتصادية أمريكية ضد القائد الثاني للدعم السريع عبدالرحيم دقلو وشركة "الجنيد" إلى جانب قائد الدعم السريع في غرب دارفور – وفقًا لتحليل الواثق.
ويشير الواثق إلى سلسلة المعارك التي خاضتها الدعم السريع في أعقاب تدشينها قوةً ضاربةً في العام 2013، وما تعرضت له الحركات المسلحة من هزائم في شمال دارفور، مما ضيق حيز تحركها في جنوب دارفور، في أعقاب سقوط القذافي في ليبيا، وهو ما يرجح أن العداء القديم لم تنهِه كل "محاولات التطبيب العجولة" والتي برزت مع اتفاق جوبا للسلام وما تبعه من تقارب ظاهري على الأقل بين قوى عنف دارفور، لكن أعاده "السياق الظرفي القاهر" إلى السطح من جديد – بحسب الواثق.
ورجح الواثق أن تأخذ الحرب "منحًى مختلفًا" لجهة ما أسماه "تماثل العقيدة العسكرية لدى الحركات والدعم السريع ونزوعهما الهجومي" بخلاف الجيش بطبيعة عقيدته العسكرية الدفاعية، وهو المنشأ أول عهده تحت مسمى "قوة دفاع السودان". ويرجح الواثق أيضًا أن الأداء العملياتي الهجومي للمليشيا والمليشيات المضادة في ظل الدعم الذي سيوفره الجيش من شأنه أن يحمل المعارك إلى واقع "أكثر حدة واحتدامًا" – حسب تعبيره.
في حين يمضي الكاتب والمحلل السياسي عباس محمد صالح إلى أن اتفاقية جوبا للسلام أوجدت "هيكلًا أمنيًا هجينًا في غاية الهشاشة" قال إنه أسهم في "غل يد القوات المسلحة عن القيام بواجباتها ومسؤوليتها الدستورية". ويرى صالح أن الهيكل "غير متسق مع واقع دارفور المعقد ومع قدرة هيكل القوات المشتركة المكونة من المجموعات الموقعة على الاتفاق"، مشيرًا إلى أنها "لا تستطيع بمفردها النهوض بالمسؤوليات الأمنية في بيئة دارفور المضطربة". ويعتقد صالح أن مجموعات مسار دارفور ضمن اتفاقية جوبا للسلام راهنت بعد اندلاع الصراع بين الجيش والدعم السريع على "إضعاف الطرفين كنتيجة حتمية لهذا الصراع" لتغدو الطرف الكاسب في أي ترتيبات أمنية: تبقي على قواتها في حال كسبت الدعم السريع الصراع أو تحصل على حصة الأسد في إدماج عناصرها إذا كسبت القوات المسلحة المعركة – وفق تحليله.
ومع مرور سبعة أشهر على تفجر الأزمة في الخرطوم واستمرار سيطرة الدعم السريع على مدن دارفور تباعًا، يقول صالح إن أقوى حركات مسار دارفور وأكبرها – وجدت نفسها في مأزق لا يمكن معه استمرارها في موقف "الحياد"، وأن معارك السيطرة على الفاشر ستشكل "نقطة نهاية مشروع الحركات التي ستخسر حصصها في الحكومة المركزية". وبدل انتظار اضطرار القوات المسلحة إلى الانسحاب من كامل إقليم دارفور يتوجب على هاتين الحركتين الآن القتال إلى جانبها لإحباط مشروع الدعم السريع لتأسيس سلطة أمر واقع في دارفور حيث سيقع حينها على مجموعات مسار جوبا مواجهة هذا المشروع بمفردها – يضيف صالح.
يبدو أن التطورات على الأرض في دارفور وفشل الدعم السريع –بحسب صالح– في الاستيلاء على السلطة في الخرطوم قد حشرت حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان في "زوايا حرجة"، فحيادها المزعوم حيال الصراع بين القوات المسلحة والدعم السريع انتهى –وفق صالح– إلى إيجاد بدائل لهاتين الحركتين –وهي مجموعة سليمان صندل، ومجموعتا الهادي إدريس والطاهر حجر– التي جذبها الدعم السريع إلى مشروعه، وهي "حليفة له بدعوى الحياد" – طبقًا لصالح.
ويقرر صالح بأن استمرار حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان في التمسك بموقف الحياد والمواصلة فيه في ظل حرصها على "مغانم السلطة" مع تراجع شعبيتيها في إقليم دارفور يعني أنها "ستخسر القوات المسلحة ولن تكسب الدعم السريع". ويضيف: "إن انخراط حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان في المعارك في هذه المرحلة سوف يؤدي إلى نتائج عديدة"، موضحًا أن أولها: تصعيد الصراع المسلح في دارفور وما سيترتب على ذلك من أوضاع أمنية وإنسانية وسياسية معقدة، وثانيًا: تسريع هزيمة قوات الدعم السريع في الخرطوم مع استنزاف قواتها التي ستكون أمام "ضغوط أمنية كبيرة". وثالثًا: عرقلة تقدم قوات الدعم السريع في محور كردفان وتعطيل محاولتها المستميتة للسيطرة على المدن الكبرى هناك – بحسب تحليل صالح.
ويخلص صالح إلى أن التنافس على "الاقتصاد السياسي" للصراع في دارفور عامل مهم أيضًا في تفسير دوافع قرار حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة في الاصطفاف إلى جانب القوات المسلحة وتوقيت هذا الاصطفاف، إذ أن إكمال قوات الدعم السريع سيطرتها على دارفور سيحرم هاتين الحركتين من موارد ومنافع كانت تحصل عليها من موقع أنها "فاعل رئيس" في الإقليم سواء مكاسب السلطة المركزية أو التجارة الحدودية أو النشاط الخارجي المتأتي من المنظمات والدول للإقليم – وفق صالح.
يخلص صالح إلى أن التنافس على "الاقتصاد السياسي" للصراع في دارفور عامل مهم في تفسير دوافع قرار حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة
ومع تعمق الصراع واشتداد أواره خرجت مفاعيله من ميادين القتال إلى مجالات السياسة، فلم يعد الحياد ممكنًا ووميض رماد الأحداث يزحف على هوامش المناورات السياسية، وهكذا هي حروب التأسيس بالضرورة تفجّر سياق التناقضات إلى أقصى مدى لينهض القادم من أنقاض القديم.