استطاعت حكومة جنوب السودان، بقيادة الرئيس سلفا كير ونائبيه تعبان دينق قاي وجيمس واني إيغا، تلافي المواجهة، التي كان يتوقعها الجميع، بين الحكومة والمجتمع الدولي، باصدارها قرارًا يقضي بالغاء نظام الـ32 ولاية المعمول به والعودة للعمل بنظام الـعشر ولايات القديم، الموروث من السودان، مستبقة بذلك اعلان تكوين الحكومة الانتقالية المتوقع في 22 شباط/فبراير الجاري، بعد أن منحتها وساطة الإيقاد مهلة أخيرة لنقرر بشأن مسألة عدد الولايات، التي ظلت عقبة كأداء أمام عملية السلام في دولة جنوب السودان.
إذا لم تتخلى الحكومة عن إرث الحرب الأهلية وشخصنة الصراع، فإن قرار الولايات لن يعدو أن يكون هدنة مؤقتة واستدراج للمعارضة تمهيدا لتلقينها درسًا آخرًا في الداخل
صحيح أن الحكومة أرادت بالخطوة تخفيف الضغوط التي ظلت تلاحقها خلال الخمسة أعوام الماضية. التي فرضت عليها بعد القرار الأحادي الذي أصدره الرئيس كير بزيادة عدد الولايات، رغم هذا وجد قرار العودة للعشر ولايات قبولًا وترحيبًا منقطع النظير من الشارع الجنوبي، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وهو تأييد يمكن أن يقارن شبيه بالالتفاف حول مطلب الانفصال في التصويت للاستفتاء في العام 2011 بما هو أقصى حالات توحد الرأى العام الجنوبي ازاء قضية واحدة.
اقرأ/ي أيضًا: 8 سنوات على استقلال جنوب السودان.. فشل تجربة بناء الدولة في مهدها
أتاح قرار العودة إلى العمل بنظام الولايات القديمة للحكومة فرصة ذهبية لتحقيق السلام وإعادة الاستقرار، دون أن تبدو المسالة كما لو أنها انتصار لأي طرف من الأطراف. لكن لم تتخل الحكومة عن ثقافة الحرب الأهلية وشخصنة الصراع، فإن قرار الولايات لن يعدو أن يكون هدنة مؤقتة واستدراج منظم للمعارضة تمهيدا لتلقينها درسًا آخرًا في الداخل.
المطلوب الآن من مختلف الأطراف هو اتقنان فن التنازل، خاصة بعد أن أدركت الحكومة أيضًا أن قرار تقسيم البلاد إلى 32 ولاية، دون ترسيم واضح لحدودها، قد فتح المجال للمجتمعات المحلية والقبائل أن تشكل مراكز قوى إضافية للضغط والتأثير على مراكز صنع القرار المتعددة بالبلاد، كما أن صعود هذه القوى التقليدية قد حجمت المؤسسات السياسية والمدنية عن القيام بدورها، والحاجة للسلام تقتضي التعاون بين جميع المكونات السياسية في الحكومة والمعارضة، وبين مختلف المكونات الاجتماعية والإثنية، التي تعتبر جزءً من تاريخ الكفاح الطويل الذي خاضه جنوب السودان، في مواجهة العنف والاضطهاد الذي مارسته الأنظمة السودانية التي تعاقبت على الحكم منذ استقلال البلاد في العام 1956.
مما يؤسف له أن الحكومة اتخذت هذا القرار في توقيت متأخر. لكنه قرار يحمد لها على كل حال، وكان الأجدى لها أن تستجيب لمطالب الإقليم والمجتمع الدولي التي ظلت تناشدها العودة للولايات العشر، التي نصت عليها اتفاقية السلام، الموقعة بينها وأطراف المعارضة في آب/أغسطس 2015، وقد ترتب على تمسك الحكومة ودفاعها عن قرار زيادة الولايات فرض عقوبات أميريكية على قيادات حكومية نافذة ومؤثرة، كان آخرهم النائب الأول للرئيس تعبان دينق قاي.
اقرأ/ي أيضًا: اتفاق السلام.. هل ينجو جنوب السودان من الفوضى؟
جاء القرار كخطوة من الحكومة لتجنب المزيد من العقوبات التي قد تستهدف القيادة العليا للدولة هذه المرة، الشئ الذي يؤكد أن الحكومة لم تتخذ القرار بمحض إرادتها. كما أن هناك العديد من البنود الأخرى العالقة من عملية السلام، مثل الترتيبات الأمنية وإعداد وثيقة الدستور الانتقالي، التي قد تتطلب ممارسة المزيد من الضغط الدولي على الحكومة حتي توفي بمستحقات عملية السلام المتبقية.
من الممكن أن يؤدي إصرار الحكومة على ال 32 ولاية لانفجار الأوضاع، وانهيار اتفاقية السلام
أبدت المعارضة المسلحة بقيادة رياك مشار والحركة الوطنية الديمقراطية التي يتزعمها الدكتور لام أكول بعض التحفظات على القرار، في الجانب الخاص بإنشاء إدارتين جديدتين في رويينق وبيبور إلي جانب أبيي، وهي مسالة تتطلب الحل السريع لأنها قد تعرقل مسالة اعلان الحكومة الانتقالية، فالحكومة أرادت بعض المعالجات التي تحفظ ماء وجهها أمام المجتمعات المحلية في تلك المناطق، وعلى المعارضة يجب أن تتفهم ذلك، وتسعى للوصول معها إلى تسويات مقبولة في تلك الملفات.
الحكومة في اعتقادي، لا تهمها المعارضة بقدر ما يهمها المجتمع الدولي، وبالأخص الولايات المتحدة الأميريكية، وذا تحرص على البقاء في موقع مريح يتيح لها التحرك بارتياح بين الضغط الدولي، وضغط الجماعات القبلية التي وقفت إلى جانبها ودعمتها في صراعهما الطويل مع المعارضة المسلحة.
المهم في هذا القرار الذي اتخذه الرئيس كير غض النظر عن دوافعه الخفية والمنظورة، هو أنه أنقذ البلاد من فوهة البركان ولو مؤقتًا، بعد أن وصل التشنج السياسي والاستقطاب قصاراه، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي لانفجار الأوضاع، وانهيار اتفاقية السلام، التي لا تزال تحتاج إلى جهود مشتركة للإبقاء عليها باعتبارها الفرصة الوحيدة المتبقية أمام جنوب السودان ليتحول إلى قابلة للحياة.
اقرأ/ي أيضًا:
بين التأجيل و التمديد.. هل سيصمد سلام جنوب السودان؟
"نهب جنوب السودان".. قصص الفساد والحرب الأهلية