أصدر مشروع التقييم الأساسي للأمن البشري في السودان وجنوب السودان (HSBA) التابع لمنظمة مسح الأسلحة الصغيرة (Small Arms Survey) تقريرًا جديدًا بعنوان (انتفاضة السودان: كفاح شعبي، مساومات نخب، وثورة مغدورة)، يحلل فيه الخبير بالقرن الأفريقي الدكتور جون يونغ، ثورة كانون الأول/ديسمبر 2019 في السودان ومآلاتها، ويقدم قراءة في تاريخ الانتفاضات في السودان، نظام المؤتمر الوطني الذي ثارت عليه الجماهير، وديناميكيات وأحداث الثورة السودانية، ثم الهجوم على اعتصام القيادة العامة، واتفاق تقاسم السلطة بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير اللاحق لذلك، حيث يصل إلى نتيجة مفادها أنه بما أن المسببات الأساسية للثورة لم تحل وقضاياها الرئيسية لم تخاطب بعد، فإن حالة عدم الاستقرار والهشاشة التي تشهدها البلاد ستستمر على الأرجح.
ما لم تتمكن قوى الكفاح المدنية والمسلحة من التغلب على قوة الجيش والدعم السريع، فإن انتفاضة 2019، لن تنجح في إحداث تغييرٍ حقيقيٍ في البلاد، وستعاني نفس المصير الذي عانته انتفاضات السودان السابقة
ويؤكد التقرير أنه ما لم تتمكن قوى الكفاح المدنية والمسلحة من التغلب على قوة الجيش والدعم السريع، فإن انتفاضة 2019، لن تنجح في إحداث تغييرٍ حقيقيٍ في البلاد، وستعاني نفس المصير الذي عانته انتفاضات السودان السابقة عامي 1964 و1985، عندما تلاشت الآمال بتحولٍ جذريٍ حقيقيٍ في المجتمع السوداني.
اقرأ/ي أيضًا: خفايا وأسرار "حميدتي" مكانها النيابة العامة
وأرجع التقرير خلاصته هذه إلى أنه في الحكومة الحالية القوة الحقيقية والغلبة الفعلية هي في يد العسكريين من القوات المسلحة والدعم السريع، وذلك لأن الحكومة أتت بعد مساومة وتنازلات من قبل النخب السياسية، كانت ناتجة عن ضعفها سياسيًا وعسكريًا، بالإضافة لمخاوفها من ارتكاب العسكريين الفظاعات في حق المدنيين العزل. ويضيف؛ تخلت النخب السياسية في تلك المساومة عن أهم مطالب الثورة، ألا وهو تثبيت حكومة مدنية كاملة بسلطات حقيقية في البلاد.
ويشير التقرير إلى أن المجلس العسكري كان يطمح لحكم البلاد بعد الإطاحة بالبشير، وذلك عبر تكوين حكومةٍ من تلقاء نفسه، وبدعم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان قدمتا دعمًا عينيًا وماديًا للمجلس العسكري، ومصر التي كانت أول وجهات قادته، ولكن وحشية قمع قوات الدعم السريع للاعتصام المدني أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم في 3 حزيران/يونيو 2019، أفقدت المجلس العسكري أي إمكانية للحصول على الشرعية محليًا أو دوليًا، بالإضافة للإضراب العام الذي شل البلاد، والمقاومة المستمرة من شباب الثورة، الأمر الذي جعل المجلس العسكري يصل لقناعة أنه لن يستطيع حكم البلاد لوحده، فاضطر في آخر المطاف للتوقيع على اتفاق تقاسم للسلطة مع قوى الحرية والتغيير في 17 تموز/يوليو 2019. وبسبب خوفها من المزيد من الهجمات على المدنيين، وضعفها بسبب الانقسامات الداخلية، وتحت ضغطٍ دولي، قبلت قوى الحرية والتغيير الاتفاق الذي يتضمن التخلي عن المطلب الجوهري للثورة، حكومة مدنية خالصة.
التقرير يشدد على أن قوات الدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو "حميدتي" هي التي فضت اعتصام القيادة العامة، ويعدد مجموعة من الأدلة على ذلك، أهمها سيطرتها الفعلية على القطاع الأمني في البلاد بعد الإطاحة بالبشير في 11 نيسان/أبريل 2019، بحراستها للمنشآت الرئيسية وعلاقة قائدها القوية مع الإمارات والسعودية، ويضيف بالقول: "كان سرًا مكشوفاً أن حميدتي وقوات الدعم السريع هم من سيطروا على القطاع الأمني، وليس البرهان والقوات المسلحة السودانية، حتى مع معارضة الكثيرين من الجيش لذلك".
اقرأ/ي أيضًا: من سيغسل أيادي العسكر من دماء شهداء مجزرة القيادة؟
التقرير في مطلعه قدم خلفية ضافية عن تاريخ نظام الإنقاذ البائد، والأسباب التي أدت إلى سقوطه في آخر الأمر، والتي عزاها للتدهور الاقتصادي لفترات طويلة، والتنمية غير المتوازنة التي عززت التمرد ضد الحكومة في أطراف السودان، الأمر الذي ساهم في مفاقمة الأزمة الاقتصادية بسبب تكلفة مجابهة قوى الكفاح المسلح، والصرف على قطاع الأمن الذي بدأ يتضخم بشكلٍ كبير، والفساد المستشري في مفاصل الدولة، كل ذلك بالإضافة للعقوبات الأمريكية على السودان. ويشير التقرير إلى أن الأزمة الاقتصادية ومحاولات النظام لتعزيز قيمه الشمولية والقهرية في البلاد، أدت في آخر الأمر لخروج هذه الأعداد الكبيرة من الشباب، ولا سيما النساء، إلى الشوارع، على عكس انتفاضات عامي 1964 و1985، حيث اعتمدت بشكلٍ أساسي على النقابات.
التقرير: إن مصر والسعودية والإمارات، حريصون على القضاء على الثورات الديمقراطية في العالم العربي، ولديهم الموارد للقيام بذلك
وحسب التقرير فالأزمة الاقتصادية الحادة بالإضافة لمغامرات السياسة الخارجية الخاصة بالنظام البائد، بالأخص في سنواته الأولى، والتي جعلت السودان معزولًا خارجيًا، بحيث لم يتمكن البشير من التغلب على هذه العزلة الإقليمية والدولية رغم محاولاته المتعددة وتعاونه الكامل مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة في ملف الإرهاب ذو الأهمية القصوى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة للانقسامات داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم وقتها، والتي كانت تتطور باستمرار نتيجة لتركيز البشير للسلطة في يده وإقصاء منافسيه، الأمر الذي دفع رئيس جهاز الأمن والمخابرت الوطني صلاح قوش وزعماء آخرين، إلى الوصول لنتيجة أنه لا يمكن الحفاظ على النظام إلا بإزالة الرئيس. كل تلك الانقسامات والأزمات الاقتصادية والسياسية، الداخلية والخارجية، مهدت الطريق لخلافٍ على السلطة بعد سقوط النظام، خلافٌ بين العسكريين المدعومين من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان تريان أن في الثورات تهديدًا وجوديًا لهما -حسب تعبير التقرير- معهما مصر وبقايا النظام القديم بالإضافة للتشكيلات الإسلامية الأخرى، وبين المعارضة في الجانب الآخر، والتي كانت ذات شرعية وتتمتع بدعمٍ من معظم السودانيين، وخاصة المتظاهرين في الشوارع، ولكنها كانت "ضعيفة سياسيًا وليس لديها أي قدرة عسكرية". حيث أعلن البرهان في 13 نيسان/أبريل، أن المجلس العسكري الانتقالي سيحتفظ بالسلطة لفترة انتقالية لمدة عامين، ويعين حكومة من التكنوقراط قبل تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة، وهو اقتراح رفضته قوى الحرية والتغيير. سارعت حينها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمساعدة المجلس العسكري الانقلابي بتعهداتٍ بالدعم بقيمة ثلاثة مليارات دولار -تم دفع (500) مليون دولار منها في الحال- بالإضافة إلى دعوماتٍ عينيةٍ من أغذيةٍ ووقودٍ وأدويةٍ رخيصة الثمن.
اقرأ/ي أيضًا: تصاعد مقلق للعنف ضد النساء في دارفور وبرنامج أوروبي أممي لمكافحته
ويضيف التقرير أن المتظاهرين استنكروا هذا التدخل الأجنبي، وسيروا مظاهرات أمام سفارات هذه البلدان، وطالبوا بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للسودان. وأورد التقرير اللفتة اللماحة لأحد المراقبين، حيث أشار إلى أن المشاعر السودانية التقليدية المعادية للإمبريالية، قد أعاد السودانيون توجيهها نحو هذه الدول، في حين قال معلقٌ آخر، إن مصر والسعودية والإمارات، حريصون على القضاء على الثورات الديمقراطية في العالم العربي، ولديهم الموارد للقيام بذلك.
شكّل الشباب جوهر الانتفاضة، وتجلّى تحديهم للطغمة الحاكمة في الاعتصامات. ولكن بعد فضها، فقدوا الكثير من نفوذهم على قوى الحرية والتغيير، ولم يؤخذ برأيهم في الاتفاقات اللاحقة، ولم يتم حتى تمثيلهم في الحكومة الانتقالية
شدد التقرير على الدور الحيوي للشباب السوداني في الثورة، الدور الذي سرعان ما فقدوه بعد فض الاعتصام والتسوية السياسية ما بين النخب والعسكريين، وأضاف؛ "شكّل الشباب السوداني جوهر الانتفاضة، وتجلّى تحديهم للطغمة الحاكمة في الاعتصامات التي نظموها. ولكن عندما أدى هجوم قوات الدعم السريع الوحشي على اعتصام الخرطوم في 3 حزيران/يونيو 2019 إلى إنهاء الاعتصامات، فقد الشباب الكثير من نفوذهم على قوى الحرية والتغيير، ولم يؤخذ برأيهم في الاتفاقات السياسية التي تم التوصل إليها مع الجنرالات بعدها، ولم يتم حتى تمثيلهم في الحكومة الانتقالية" ويضيف، أنه لا يمكن توقع أن يكون لهم تأثيرٌ كبيرٌ طوال الفترة الانتقالية، والتي تبلغ (39) شهرًا.
ويخلص هذا التقرير متوسط الحجم والواقع فيما يفوق الـ(70) صفحة، إلى أنه نظرًا لأن المعارضة لم تتمكن من فرض هدفها في حكومة مدنية حقيقية، وبالنظر إلى تفوق الجيش في الحكومة الانتقالية، فمن غير المرجح أن تتمكن هذه الحكومة من القضاء على التأثيرات العميقة والفاسدة للنظام البائد وحزب المؤتمر الوطني والجيش، على الدولة والمجتمع، ناهيك عن التغلب على التفاوتات العميقة والنظامية التي ضربت السودان والسودانيين منذ استقلال البلاد.
اقرأ/ي أيضًا
"ذئاب القروض" في السودان.. تقرير دولي يفضح فساد ابن البشير بالتبنّي