09-أكتوبر-2024
الغروب في جزيرة توتي بالعاصمة الخرطوم

منذ اندلاع الحرب في السودان، تفاقم الوضع الإنساني بشكل مستمر، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، حيث تعاني من انقطاع خدمات الاتصال والإنترنت، بالإضافة إلى نقص حاد في الغذاء والدواء. يتجلى هذا الوضع بشكل واضح في جزيرة توتي بالعاصمة الخرطوم، التي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع وتعاني من وضع إنساني حرج.

عضو مجموعة أبناء توتي بالخارج لـ"التراسودان": متوسط عدد الوفيات بعد حصار الدعم السريع لتوتي أكثر من 100 حالة وفاة في الشهر، وعدد الذين توفوا في المعتقلات يفوق 10 أشخاص

ويصف عضو مجموعة أبناء توتي بالخارج، فضل عدم ذكر اسمه، لـ"التراسودان"، الوضع الإنساني بأنه كارثي. وأضاف أن من يريد الخروج منها يدفع (500) ألف جنيه سوداني لقوات الدعم السريع.

وأشار عضو مجموعة ابناء توتي بالخارج إلى أن متوسط عدد الوفيات قبل شهر من اندلاع الحرب بالخرطوم كان عشرة في الشهر، بينما أصبح متوسطها في الشهر الذي تلا حصار الدعم السريع لجزيرة توتي أكثر من 100 حالة وفاة، لافتًا إلى أن عدد الذين توفوا في المعتقلات يفوق 10 أشخاص، ولا يزال هناك أكثر من 30 شخصًا داخل معتقلات الدعم السريع في توتي.

وأوضح أن توتي الآن تعاني من انقطاع التيار الكهربائي والماء والغذاء والدواء بعد سرقة المحلات التجارية والتكايا والصيدليات والوقود، وأضاف أن الناس أصبحوا محبوسين في منازلهم خوفًا على حياتهم، ويواجهون خطر الموت جوعًا وعطشًا ومرضًا. وأردف: "الجميع داخل توتي يعيش مأساة، خاصة الأطفال".

وطالب الجهات المختصة والمنظمات الدولية بالتدخل العاجل لتوفير الأمن والحماية والغذاء والدواء للمواطنين، أو إجلاء الجميع من توتي إلى منطقة آمنة، بالإضافة إلى فتح ممرات إجلاء آمنة.

حصار جزيرة توتي

أما المواطن المقيم في جزيرة توتي، مصعب شريف، فيقول إن جزيرة توتي قبل اندلاع الحرب كان الوضع فيها عاديًا جدًا مثل وضع الخرطوم تمامًا، إلا في أيام المواكب التي كانت تطالب بإسقاط النظام، حيث يتم إغلاق كبري توتي وتصبح الحركة داخل الجزيرة فقط.

وأشار شريف في حديثه لـ"الترا سودان" إلى أنه خلال اليوم الأول من اندلاع الحرب بالعاصمة اختلف الوضع حول توتي، حيث كانت المعارك كبيرة جدًا تدور حولها، خاصة في المواقع الاستراتيجية كالقصر الجمهوري ومدخل كبري السلاح الطبي وكبري الفتيحاب، الذي كان تأثيره واضحًا على جزيرة توتي.

وأوضح أن جميع المواطنين الذين لم يجدوا مكانًا آمنًا في وسط الخرطوم لجأوا في الأيام الأولى من اندلاع الصراع إلى جزيرة توتي، وبعد أن استقروا لفترة طويلة بدأت الأسر تخرج منها، وكانت آنذاك حركة المواطنين داخل توتي فقط، لأن الجزيرة بصورة عامة لم يكن فيها وجود للقوة العسكرية سواء كانت جيشًا أو شرطة أو جهاز الأمن أو حتى الدعم السريع.

وأضاف أن معركة عنيفة دارت بين الجيش والدعم السريع، سيطر فيها الدعم السريع على القصر الجمهوري، وأصبحت توتي مدخلًا ومخرجًا للمواطنين إلى بحري وأم درمان عبر القوارب، وغادرت كثير من الأسر بهذه الطريقة، نظرًا لأن مخرج ومدخل الجزيرة عبر كبري توتي كان يشهد اشتباكات.

مواطن: قوات الدعم السريع فرضت رسومًا على المواطنين من أجل الخروج من جزيرة توتي

ويشير شريف إلى أن الغذاء والدواء كان متوفرًا في ذلك الوقت، ولكن بعد سيطرة قوات الدعم السريع على منطقة المقرن دخلت إلى توتي وأقامت ارتكازاتها فيها وبسطت سيطرتها عليها. في ذلك الوقت، أكد مصعب على خروجه من توتي بعد أول هدنة.

وأضاف أنه عند خروجه كان الوضع مستقرًا ولم تكن هناك صعوبات في الخروج من توتي، وكان يُسمح بمرور المواطنين آنذاك في بداية سيطرة قوات الدعم السريع على الجزيرة، ولكن مع استبدال القوات واجه السكان بعض الصعوبات في التعامل معهم. وأضاف أن دخول السيارات المحملة بالغذاء والدواء والمواطنين أصبح أمرًا صعبًا.

وأشار إلى أن قوات الدعم السريع فرضت رسومًا على المواطنين من أجل الخروج من جزيرة توتي، تختلف حسب عدد أفراد الأسرة، ما عقد إجلاء المواطنين من الجزيرة. وأوضح أن بعض الأحياء القريبة من أم درمان باتجاه توتي طلبت قوات الدعم السريع من المواطنين إخلاءها، بينما ارتكزت في بعض الأحياء. وأضاف أن القوات تقوم بتفتيش المواطنين والاعتداء عليهم وتهديدهم.

وقال مصعب إن جزيرة توتي شهدت مقتل عدد من المواطنين، وهناك العشرات تم اعتقالهم من قبل قوات الدعم السريع بالجزيرة، ومنهم من توفوا داخل المعتقل، بالإضافة إلى أنها تعاني من نقص في الغذاء.

كارثة إنسانية

ويقول نائب رئيس المكتب التنفيذي ومسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، أحمد عباس، إن هناك انتهاكات جسيمة تمارس في حق المواطنين وممتلكاتهم والبنية التحتية، حيث حدث تدمير تام للمنشآت الصحية في جزيرة توتي بالعاصمة، واصفًا الوضع الصحي بأنه كارثي نتيجة لانتشار الحميات النزفية.

نائب رئيس المكتب التنفيذي ومسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، لـ"الترا سودان": الوضع الصحي بتوتي كارثي وهناك انتهاكات جسيمة تمارس في حق المواطنين وممتلكاتهم والبنية التحتية

وأشار عباس في حديثه لـ"الترا سودان" إلى أن التقارير الأولية تؤكد وجود أكثر من ألفي إصابة بمختلف الحميات النزفية والأمراض الناتجة عن الملاريا والتيفوئيد، بجانب انتشار واسع للأوبئة والالتهابات بما في ذلك التهابات ملتحمة العين والأمراض الأخرى في ظل التدهور التام للخدمات الصحية.

وأضاف أن المواطنين لجأوا إلى الأساليب البدائية والأولية لمعالجة الإصابات وبعض الأمراض، وتوقع زيادة كبيرة في عدد الوفيات نتيجة لتفشي الأمراض وانعدام الأدوية، بما فيها الأدوية المنقذة للحياة، بالإضافة إلى انعدام المياه الصالحة للشرب والغذاء، مما يؤثر على صحة المواطن ويفاقم الأوضاع التي يعيشها.

وطالب نائب رئيس المكتب التنفيذي ومسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان بفضح هذا الوضع عبر مناشدات عاجلة وضغط كبير على القوات المتحاربة لفك الحصار عن جزيرة توتي وتوفير ممرات آمنة لتأمين الغذاء والدواء والمياه الصالحة للشرب وترحيل المواطنين إلى أماكن الرعاية الصحية الأولية.

رد الدعم السريع

وعند طرح هذه الاتهامات على عضو المكتب الاستشاري للقائد العام لقوات الدعم السريع، إبراهيم مخير، اكتفى بقوله لـ"الترا سودان" إنه ليس لديه وقت لمتابعة ما وصفها بـ"الإشاعات"، وأضاف أن الشخص المتضرر عليه تقديم شكوى مكتوبة إلى السلطة الإدارية أو الشؤون القانونية لقوات الدعم السريع، وتابع: "سوف يتم التحقيق فيها والرد عليها".

عضو المكتب الاستشاري للقائد العام لقوات الدعم السريع: الشخص المتضرر عليه تقديم شكوى مكتوبة إلى السلطة الإدارية أو الشؤون القانونية لقوات الدعم السريع

وعقب عملية كبرى للجيش السوداني أواخر الشهر الماضي، أيلول/سبتمبر 2024، تدهورت الأوضاع الإنسانية في جزيرة توتي بشكل حاد، لا سيما وسط الأنباء عن نهب قوات الدعم السريع لجميع المحلات التجارية والمطابخ المشتركة التي يعتمد عليها السكان في الغذاء، بالإضافة إلى تدمير المنشآت الصحية.

مجموعة محامي الطوارئ أيضًا تطرقت للأوضاع في جزيرة توتي عقب عمليات القوات المسلحة السودانية، مشيرة إلى التصاعد الحاد في الانتهاكات المنسوبية لقوات الدعم السريع على خلفية تقدم الجيش في الخرطوم. بحسب المجموعة فإن قوات الدعم السريع قتلت (35) من المدنيين في أواخر أيلول/سبتمبر 2024، واعتدت بالضرب على السكان.

مناشدات للإجلاء الكامل

غرفة الطوارئ تحدثت في وقت سابق عن "فقد تام لمقومات الحياة"، وقالت إن مخزون المطابخ المشتركة التي يعتمد أغلب السكان عليها قد نُهب من قبل قوات الدعم السريع التي تتواجد بكثافة في الجزيرة وتستخدمها كمنطقة حصينة أمام تقدم الجيش وسط الخرطوم ومناطق مقرن النيلين والسوق العربي.

الغرفة أطلقت مناشدة إنسانية لإجلاء السكان بالكامل، قائلة إن قوات الدعم السريع تنشط في نهب المنازل والتنكيل بمن يصادفهم في الشوارع.

كل ذلك يحدث في ظل انتشار للوبائيات في الجزيرة الأكبر بالعاصمة الخرطوم، حيث تشهد انتشارًا لحمى الضنك النزفية مع انعدام الخدمات الصحية وإغلاق الجسر الرابط بينها ومدينة الخرطوم ما يعني توقف الإمدادات، حيث تفرض قوات الدعم السريع حصارًا مشددًا على الجزيرة، تزامن مع تحذيرات من خطورة الأوضاع الإنسانية، في ظل مناشدات بالتدخل العاجل لحماية المدنيين.

ومنذ بدء العمليات العسكرية للجيش السوداني في 26 أيلول/سبتمبر 2024، استعادت القوات المسلحة عدة مناطق استراتيجية في الخرطوم، فيما ظلت جزيرة توتي تحت سيطرة الدعم السريع منذ (18) شهرًا هي عمر الحرب في السودان، ما أدى إلى مقتل العشرات أو وفاتهم جوعًا بسبب الحصار المفروض على الجزيرة من قبل هذه القوات.

توتي درة النيل

تبلغ مساحة جزيرة توتي حوالي أربعة آلاف كيلومتر مربع، ويقول سكانها ومؤرخوها إنها أقدم منطقة مأهولة بالسكان في الخرطوم، حيث استمرت فيها الحياة فيها دون انقطاع عبر التاريخ. المدينة القديمة في قلب الجزيرة يعود تاريخها الحديث لأكثر من 500 عام، واكتسبت توتي شهرة واسعة عبر العصور باعتبارها مركزًا لنشر العلوم الدينية في وسط السودان، حيث أسس أهلها قبل مئات السنين خلاوى تحفيظ القرآن، ما دفع الباحثين عن العلم إلى التوافد إلى هذه المنطقة، الأمر الذي أدى إلى نشأة وازدهار المدينة.

يجمع سكان توتي بين أسلوب الحياة الريفية والحضرية، إذ يمتهنون الزراعة، وتعد من أبرز محاصيلهم الليمون، والبرتقال، والمانجو، والخضار. يتمتع أهل جزيرة توتي بحياة اجتماعية مترابطة وقيم تقليدية راسخة، مع استفادتهم من موقعهم الاستراتيجي في قلب العاصمة السودانية الخرطوم، الأمر الذي يتيح لهم الاستمتاع بكافة مزايا الحياة المدنية، فضلًا عن احتفاظهم بخصوصية الجزيرة.

توتي رفدت السودان برموز ثقافية واجتماعية معروفة، ويتميز سكان الجزيرة بارتفاع مستوى التعليم الذي كان سببًا في نشأة الجزيرة كمركز حضري

توتي رفدت السودان برموز ثقافية واجتماعية معروفة، ويتميز سكان الجزيرة بارتفاع مستوى التعليم الذي كان سببًا في نشأة الجزيرة كمركز حضري، وعلى مر تاريخها برزت منها العديد من الشخصيات التي تقلدت مناصب رفيعة في الدولة السودانية، بالإضافة إلى شخصيات معروفة على المستويين الإقليمي والعالمي.

تعيش في توتي مجموعات إثنية متنوعة بحكم كونها واحدة من مناطق العاصمة القومية للسودان، والتي شهدت هجرة ملايين المواطنين إليها بحثًا عن الرزق وهربًا من الحروب والتهميش في أقاليم البلاد المختلفة، إلا أن غالبية سكان جزيرة توتي ينحدرون من قبيلة المحس النوبية، وهي قبيلة سودانية قديمة تتركز في شمال ووسط البلاد.

ساهم التنوع الإثني في الجزيرة في إثراء ثقافتها، حيث تجتمع التقاليد النوبية مع التقاليد العربية والإفريقية الأخرى، فضلًا عن العادات والتعاليم الإسلامية في الجزيرة التي يغلب على أهلها النزعة الدينية بحكم تاريخها العريف في تعليم القرآن الكريم.