23-أكتوبر-2019

في المراحل التكوينية الهادرة لثورة كانون الأول/ديسمبر، وطوال مراحل الاحتجاجات من ديسمبر إلى سقوط النظام في نيسان/أبريل، انبثق تساؤل عن الطابع الجماعي للحراك الشعبي، حيث تمحور هذا التساؤل حول: هل هذا الطابع الجماعي امتداد ثوري لنموذج حركة "الحشود" و"الجماهير" التي ظلَّت سائدة طوال النصف الثاني من القرن العشرين؟ فالنموذج القديم، على وجه الخصوص نموذج ثورة تشرين الأول/كتوبر 1964، ذو الطابع الشعبي الجماهيري الذي يعوَّل على كاريزما القائد وسحر العمل الحزبي الجماهيري، استمد جذوته النابضة من قضايا التحرر الوطني وخطابات ما بعد الاستقلال، وهي قضايا وخطابات تم التأسيس لها من خلال التذرع بفكرة "التحرُّر الوطني" أو "القومية" أو "الأمة" كاختراع سياسي. مُتخيَّل أفرزته الشروط التاريخية التي أنتجت التجربة الكولونيالية، وما نتج عنها من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية عميقة، حيث حددَّت هذه التحولات الشكل الباكر للحركة الوطنية والممارسة الحزبية في السودان.

فقدت الطبقة الوسطى قوامها الاجتماعي الاقتصادي المتماسك والمستقل، الذي كان يُعِّبر عن واقع فئاتها المهنية وأدوارها السياسية والثقافية الطليعية

لقد حمل نموذج السياسية الحزبية في طياته فكرة "الحشود" و"الجماهير" التي تتحكم في تشكيلها وتحريكها ثقافة سياسية، تُعبر عن تطلعات فئات نخبوية حضرية، يخترق طيفها واسع الفئات العليا من الطبقة الوسطى وبعض فئاتها الأخرى الوسيطة والدنيا. وبفعل سياسات التمكين الإسلاموي وتحرير الاقتصاد الوطني وخصخصة القطاع العمومي والمشاريع القومية، فقدت الطبقة الوسطى قوامها الاجتماعي الاقتصادي المتماسك والمستقل، الذي كان يُعِبر عن واقع فئاتها المهنية وأدوارها السياسية والثقافية الطليعية، لتصبح هذه الفئات كادحة وشبه فقيرة نسبيًا وبلا قوام طبقي متماسك ومستقل.

اقرأ/ي أيضًا: رِفقًا بـ"حمدوك": ساحر بلا عصا أو معجزات

لذلك يمكن الحديث عن قوى ثورية قيد النمو والتشكَّل في كل طور من أطوار الثورة، وليس قوى اجتماع ثورية بمطلق حال التشكل المسبق والنهائي، في كل مرحلة من مراحل الصراع الاجتماعي الطبقي، حيث تتمايع الحدود في علاقات مصلحية نفعية عابرة للطبقية. إذ لا يمكن الجزم بأن هذه الثورة تُعبِّر عن تطلعات أي طبقة من الطبقات، أو أي فئة من الفئات ذات المطالب الواضحة والملموسة، حيث أخفى الطابع الليبرالي للخطاب السياسي السائد عن الثورة، منطق الصراع الطبقي الذي ينحو إلى الكشف عن إلى أي حد تتعارض مصالح طبقة بعينها مع مصالح طبقات أخرى. ويبدو أن هذه الثورة، رغم جذريتها السوسيو ثقافية عميقة الغور، من حيث تحولاتها البنيوية العميقة غير الملموسة، واتجاهاتها المفتوحة الاحتمالات، لا يتجلَّى منها إلا ذلك المنحى السياسي المطلبي الذي يذهب في اتجاهات "حقوق المواطنة" بالمعنى الليبرالي الحديث، أي ذلك المنحى ذا النزعة التي تميل إلى التعبير حقوقيًا عن المطالب الشعبية لفئات اجتماعية واسعة، أكثر من تعبيرها عن المطالب الجذرية للفئات الكادحة والفقيرة والمسحوقة.

ويبدو افتراض أنها ثورة طبقة وسطى، بالمعنى الكلاسيكي، تصورًا لا يلامس العصب الحي لجسد الحراك الشعبي. إذ لا يمكن اختزال ثورة كانون الأول/ديسمبر على هذا النحو المنغلق والإقصائي، والذي يتعارض مع جوهر الفعل الجذري الذي أنتج الثورة، والذي تعدى من حيث المطالب والتطلعات مرحلة إسقاط النظام الإسلاموي، إلى التأسيس لمشروع دولة مدنية ديمقراطية قادرة على توفير شروط العيش الكريم والحياة الآمنة المستقرة.

اقرأ/ي أيضًا: جدل الوصل والانقطاع في الثورة السودانية

إن هذا التصور الاختزالي والمبتذل لا يأخذ في حسبانه التحولات التي طالت بنية الطبقة الوسطى وقوامها، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، منذ تشرذم وتفكَّك القطاع العمومي (الدواوين الحكومية، هيئات التشغيل العامة (السكة حديد، النقل النهري، الخ)، المصانع القومية (مصانع الغزل والنسيج والسكر)، مشاريع الزراعة القومية، والمدراس والجامعات القومية (خور طقت، حنتوب، جامعة الخرطوم، الخ)، ومن ثم انمحق قوامها من "فئات مهنية" إلى فئات واسعة كادحة وشبه فقيرة، بعد أن فقدت امتيازاتها الاجتماعية والثقافية بتدهور أوضاعها الاقتصادية، كفئات الخريجين العاطلين عن العمل، ومن شردتهم سياسات الخصخصة والتمكين الإسلاموي، وهي من أكثر الفئات التي كانت تغذي العمل السياسي الحزبي والحركة الثقافية، طوال العهود الأولى من النصف الثاني من القرن العشرين.

لقد تحوَّلت الطبقة الوسطى إلى "كيان فئوي تمثيلي" فاقد لقوام امتيازاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. فحتى قيادات تجمع المهنيين هم يمثلون الطبقة الوسطى تمثيلًا كيانيًا فئويًا، بحكم قطاعاتهم المهنية الحزبية، وليس طبقياً نقابياً، بحسبان الافتقار للقوام البنيوي المتماسك والمستقل، اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، والذي كان يُمكِّنهم سابقًا من التعبير عن موقفهم السياسي، من خلال موقعهم الذي يشغلونه في حلبة الصراع الاجتماعي حول المصالح والامتيازات. اللافت أن تشرذم الطبقة الوسطى، وفقدانها لقوامها البنيوي الطبقي المتماسك والمستقل، جعل تطلعات فئاتها الدنيا لتحقيق مطالبها أقرب لمطالب فئات الكادحين والمسحوقين والمعدمين، الفئات الأشد عوزاً وفقراً (ضحايا الحروب والنزاعات، فئات العمالة غير المهيكلة، الخ).

إن معظم فئات القوى الشبابية المُعوَّلمة، من الخريجين العاطلين عن العمل، جوعى المستقبل المظلم الضرير، وجدوا أنفسهم في مستوى أقرب للكادحين والمسحوقين، من تصنيفهم ضمن أي طيف فئوي أو طبقي آخر، وذلك على الرغم من أن مطالبهم التي لا تقف عند حد تحسين الأوضاع المعيشية وخلق فرص عمل، ولكنها تمضي أبعد في اتجاهات تحقيق قيم الحرية الفردية والاستقلالية في خيارات الخلق الوجودي لنمط الحياة المتُحرِّر من كل إكراهات مواطن السلطة الأبوية التقليدية (العائلة، الحزب، المرفق العمومي، الخ). ذلك النمط الوجودي والاجتماعي البديل الذي ينشدونه اتساقًا مع تصوراتهم لذواتهم، التي تشكلَّت بفعل تفاعلاتهم الإسفيرية وانفتاحهم على عوالم وفضاءات الحياة الليبرالية الحديثة.

اقرأ/ي أيضًا: أي إعلام يريد السودان بعد ثورته؟

الملاحظ طوال الفترة الممتدة من الستينات إلى الثمانينات ذلك التلاحم العضوي بين العمل الثقافي الطليعي والسياسة الحزبية، وما تبقى من الطلاقة الاجتماعية الكولونيالية لنمط الحياة الحضري الحديث المُتمثِّل في المسارح ودور السينما، والجماعات الثقافية والغنائية والتشكيلية ودور النشر والمجلات الخ. علاقة ثلاثية الأبعاد، تحولت مع مرور الزمن إلى متلازمة نخبوية مريضة، وحالة وجودية معزولة عن الواقع أخذت تتجسَّد اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا في نماذج "الغردوني" و"الأفندي" و"المثقف الطليعي". لقد ظلَّت الحياة الحزبية تتغَّذى من ثراء الحياة الثقافية وتنوعها، آخذة في امتصاص عصارات الوعي التنويري الذي أخذ يتشكَّل رويدًا رويدًا في فضاءات التيارات الفنية والأدبية والتشكيلية والمسرحية. ففي هذه الفترة تجَّسَّدت الأدوار الطليعية للطبقة الوسطى، مهنيًا واجتماعيًا وثقافيًا وجماليًا وسياسيًا. ولكن سرعان ما كان يتبَّدد مفعول هذه الطاقة التنويرية بفعل الطابع الأصولي والاستبدادي للممارسة الحزبية.

في العقدين الآخرين، ترافق فقدان الطبقة الوسطى لقوامها البنيوي الطبقي المُتماسك والمُستقل مع ضمور السياسة الحزبية وفقدانها لسندها الجماهيري، نتيجة لتكلس برامج الأحزاب وعزلة خطاباتها ومشاريعها الإصلاحية. وهذا الضمور والتكلُّس ليس ذاتيًا فحسب، ولكن أفرزته ظروف موضوعية تمثَّلت في القمع والاستبداد، والتضييق والتكبيل الإسلاموي الممنهج للأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. لقد ظلت الطبقة الوسطى منذ استقلال السودان ضحية للممارسات الحزبية الأصولية والاستبدادية: لقد تحولت من قارب للنجاة من طوفان النخبوية ووباء الحزبية إلى قربان لتحشيد الفئات الشعبية الفقيرة، وللوصول الانتهازي إلى كراسيّ السلطة والحكم. إن شبح الطبقة الوسطى الهائم والكسيح، والذي بالكاد لحق بطيفه الأخير في "تجمع المهنيين"، قد يتحول إلى مصاص دماء خلال الفترة الانتقالية، التي تكمن أبرز مخاطرها في احتدام الاصطفافات الطبقية، وتشكيل هرمية الحياة الاجتماعية والاقتصادية مجددًا، بكيفية تهيمن من خلالها أكثر فئة حضرية قربًا من جهاز الدولة، محاولة تجيير مصالحها بأي إصلاحات لجهاز الدولة والقطاع العمومي.

في العقدين الآخرين، ترافق فقدان الطبقة الوسطى لقوامها البنيوي الطبقي المُتماسك والمُستقل مع ضمور السياسة الحزبية وفقدانها لسندها الجماهيري

فالاحتدام الطبقي والتناحر المصلحي، والذي أخفاه التمكين الاقتصادي والسياسي الإسلاموي بطرق وأشكال متعددة، سيعاود البروز مجددًا وعلى نحو أكثر شراسة من السابق. فهل ستحيا الطبقة الوسطى من جديد وتعاود الرضاعة من ثدي القطاع العمومي؟ أم ستبقى سجينة شبحها الذي فطمته التحولات الجذرية والعميقة إلى الأبد خلال العقود الثلاثة الأخيرة؟

 

اقرأ/ي أيضًا

اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب

السودانيون وعبء الحرية الثقيل