المسافة بين الشاحنة وباب منزلها لا تتجاوز بضعة أمتار، قطعتها مواهب مع طفلتها في أقل من دقيقة. لم تحمل في يدها سوى الهاتف النقال. حدث ذلك صبيحة 30 حزيران/يونيو الشهر الماضي بعد ساعات قليلة من اجتياح قوات الدعم السريع مدينة سنجة، عاصمة ولاية سنار وسط البلاد.
عندما تسقط المدن على يد الدعم السريع، لا يتردد السودانيون في النزوح
عندما تسقط المدن على يد الدعم السريع، لا يتردد السودانيون في النزوح. عندما تسقط المدن على يد قوات الدعم السريع، يتخذ السودانيون قرار المغادرة في ثوانٍ فقط، لأن الخيارات ليست متعددة. مع تواتر الأنباء عن دخول قوات حميدتي "شبه العسكرية" إلى المدينة، كانت مواهب تحرص على شيئين فقط: إخفاء الهاتف بعيدًا عن أنظار هذه القوات في نقاط العبور العسكرية، أما الأمر الثاني فهو حمل الأوراق الثبوتية. في ذاكرتها تجربة آلاف السودانيين الذين فروا من منازلهم في العاصمة الخرطوم والمدن الأخرى، تاركين الأوراق الثبوتية في بيوتهم لاعتقادهم أن العودة ستكون وشيكة. بعد (16) شهرًا، تفرقت السبل بالملايين بين دول الجوار والولايات السودانية الآمنة.
في الحرب التي اندلعت في السودان، تلعب قلة الخيارات دورًا حاسمًا في دفع الناس إلى اتخاذ قرارات قسرية، مثل صعود هذه السيدة إلى الشاحنة بشكل سريع، محتضنةً طفلتها، تحمل ما خف وزنه وارتفعت قيمته: قليل من المال في حافظة النقود، والأوراق الثبوتية داخل حقيبة اليد، أما الهاتف فهي وحدها تدري أين أخفته.
في رحلة نزوح ثانية خلال معارك عسكرية بدأت فصولها من العاصمة الخرطوم منتصف نيسان/أبريل 2023، وجدت مواهب نفسها على ظهر شاحنة متوجهة من سنجة إلى القضارف شرق البلاد. حشرت جسدها النحيل مع طفلتها بين الناس وأعينهم التي كانت تنظر إلى الشوارع وكأنهم يودعونها ويتذكرون آخر اللحظات قبل وصول هذه القوات المعروفة بالبطش، فيما يحاول السائق زيادة السرعة لاعتقاده أن الوقت عامل مهم حتى لا يغرق بين تحريات هذه القوات كلما زاد عدد نقاط العبور التي تتعمد نشرها في الساعات الأولى من سيطرتها على المناطق.
دفع تمدد الحرب إلى ولاية سنار وسيطرة قوات الدعم السريع على نحو خمسة مناطق، نحو (200) ألف شخص إلى النزوح صوب ولايات القضارف وكسلا وإقليم النيل الأزرق، ومنهم من توجه شمالًا ثم عاد إلى مدينة أم درمان بمحلية كرري. يعتمد سكان ولاية سنار في الغالب على الزراعة وصيد السمك والتجارة والعمل في المؤسسات الحكومية، ولم تكن في حسابات المواطنين أن قوات حميدتي ستتقدم إلى الولاية، بينما يخطط الجيش لاستعادة ولاية الجزيرة من محوري الفاو وسنار.
بدأت فصول المأساة بين المدنيين في سنار عندما سيطرت قوات الدعم السريع على منطقة جبل موية أواخر حزيران/يونيو الماضي، وقبل أن ينتهي الشهر التفت على مدينة سنار من الجهة الجنوبية الغربية ووجدت نفسها في سنجة.
وألقى مواطنون وناشطون باللوم على قائد الجيش في الولاية، ورغم المطالب بالإقالة إلا أن القوات المسلحة لم ترد على هذه الاحتجاجات التي انطلقت على وسائل التواصل الاجتماعي كعادة السودانيين في المساجلات أثناء الحرب.
وصلت مواهب إلى القضارف، وجدت نفسها محظوظة لأنها ستتمكن من الإقامة مع عائلة. ومع ذلك، تظهر نوعًا من القلق لأنها وجدت غالبية الناس الذين رافقوها في رحلة النزوح وقد افترشوا الأرض قرب محطة الحافلات في انتظار ما تسفر عنه الأيام والظروف.
نازحة: ما ينقصنا في حملات وقف الحرب أن نضغط على الدعم السريع سياسيًا للكف عن عامل السيطرة العسكرية على المدن
حصل النازحون في ليلتهم الأولى على وجبة عشاء مكونة من الخبز والفول. في اليوم الثاني، لم ترحم الأمطار من ظلوا مشردين في الشوارع والأسواق، القليل منهم حصل على فرصة في مراكز الإيواء، مع إصرار المتطوعين من الشبان والفتيات على إلحاق الجميع بالمراكز. لم تكن الخيارات كثيرة بقدر ما أن الدولة عادة ما تغيب في مثل هذه الأزمات، تقول مزاهر لـ"الترا سودان".
تسرد هذه المتطوعة معاناة عشرات الآلاف من المدنيين الذين انقلبت حياتهم رأسًا على عقب بين ليلة وعشية. عندما وصلت قوات دقلو إلى درجة طرق أبواب المنازل أو اقتحامها، قرر الناس الهروب وترك كل شيء وراءهم بما فيها أحلامهم وأعمالهم ودراستهم وحتى قبور أسلافهم.. هم يتخلون عن حياة كاملة.
تضيف: "ما ينقصنا في حملات وقف الحرب أن نضغط على الدعم السريع سياسيًا للكف عن عامل السيطرة العسكرية على المدن، لأنها لم تتمكن حتى الآن في أي قرية أو منطقة من إدارة شارع ناهيك عن مدينة كاملة مأهولة بالسكان".
يسأل بعض الناس لماذا لا تستطيع هذه القوات إدارة المدن. تجيب مزاهر بالقول: "عندما تجمع الرجال المقاتلين من القرى والمناطق، لابد من تحفيزهم بالمال وزرع رغبة القتال دواخلهم.. لا شيء يحفز قوات حميدتي سوى السماح لهم بالحصول على المال والمقتنيات... المال والسيارات والمقتنيات وكل ما غلا ثمنه لكم مقابل السيطرة الكاملة على المنطقة"، مستدركةً: "جميع المدن تكررت فيها ذات الأحداث والانتهاكات بنفس الصورة".
تتعهد هذه القوات باتباع التحقيقات في الانتهاكات التي يرتكبها الجنود بحق المدنيين، لكن لم تعلن عن إجراءات بعينها منذ بداية الحرب. وهناك تقارير موثقة عن حدوث موجات اغتصاب جماعي بحق الفتيات والنساء في غرب دارفور وولاية الجزيرة والعاصمة الخرطوم.
يعلق بعض السودانيين، خاصة أولئك الذين وصلوا إلى مرحلة من الجوع والفقر ورحلات النزوح الطويلة، في مراكز الإيواء أو العالقين في المناطق الساخنة، الآمال على المحادثات في جنيف وفق المبادرة الأميركية في 14 آب/أغسطس القادم، والتي تتركز على المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار.
بالمقابل، لم تعلن القوات المسلحة موقفها من المبادرة الأميركية ومفاوضات جنيف المرتقبة، فيما سارعت قوات الدعم السريع بالموافقة عليها عشية صدورها من وزارة الخارجية الأميركية.
هناك مؤشرات على أن القوات المسلحة قد توافق على الانخراط في المحادثات، سيما مع الإعلان الأميركي أن المحادثات ستكون وفقًا للاتفاقات الموقعة في منبر جدة بالمملكة العربية السعودية
هناك مؤشرات على أن القوات المسلحة قد توافق على الانخراط في المحادثات، سيما مع الإعلان الأميركي أن المحادثات ستكون وفقًا للاتفاقات الموقعة في منبر جدة بالمملكة العربية السعودية. كما أن جماعات سياسية مساندة للجيش السوداني أعلنت موافقتها على المبادرة الأميركية في اليومين الماضيين.
وضعت الحرب في السودان مصير عشرة ملايين شخص على المحك بالنزوح داخليًا وخارجيًا، وفق تقديرات منظمة الهجرة الدولية. كما تهدد الحرب بتجويع (25) مليون شخص وتهديد حياة خمسة ملايين بالجوع، بينهم (755) ألف وصلوا فعليًا إلى مرحلة المجاعة حسب الأمم المتحدة، فيما تكذب وزارة الزراعة السودانية هذه التقارير وتقول إن المجاعة تعلن عادة في البلدان حينما يصل 20% من نسبة السكان إلى مرحلة انعدام الغذاء، وسكان السودان (50) مليون نسمة.