26-يوليو-2024
السيول في مدينة كسلا

يتشارك الأهالي في مجموعات واتساب مقاطع الفيديو التي تظهر كميات المياه الكبيرة التي تسببت بها الأمطار الغزيرة في ولاية كسلا. هطلت الأمطار بلا انقطاع طوال الليل وحتى الصباح، مفاقمةً الوضع الكارثي بالفعل في المدينة التي تستضيف أعدادًا ضخمة من النازحين الذين ما يزالون يتوافدون في رحلة الفرار من هجمات قوات الدعم السريع على مدن وقرى ولاية سنار.

الشاب سلمان محمد يتحدث عن المياه التي وصلت العتبات العالية للبيوت، وفي صوته دهشة. في المقطع الذي شاركه محمد مع "الترا سودان"، يظهر شيخ بجلابيته المربوطة إلى وسطه وهو يخوض في مياه السيل، وبيده عصاه تدله على طريقه في الوحل.

الخريف في كسلا فصل من الجحيم السائل، فهو يأتي بآفات عديدة للإنسان، أقلها البعوض الناقل للحميات المعتادة، والذباب الذي يحمل التسمم من المياه الآسنة

"مرضت بالفعل الأسبوع الماضي واضطربت بطني مثلما يحدث في كل خريف"، يقول سلمان الذي يعمل في سوق كسلا. الخريف في كسلا فصل من الجحيم السائل، فهو يأتي بآفات عديدة للإنسان، أقلها البعوض الناقل للحميات المعتادة، والذباب الذي يحمل التسمم من المياه الآسنة.

كسلا منذ أعوام تعاني في فصل الخريف، وفي هذا العام هي موعودة بكوارث مضاعفة. غرفة طوارئ كسلا، التي كوّنها الشباب لتقديم الخدمات للنازحين الذين توافدوا بأعداد غير مسبوقة إثر سيطرة الدعم السريع على مناطق واسعة في سنار، بثت مناشدة عاجلة للحكومة والمنظمات لشفط المياه من مراكز إيواء الوافدين للمدينة. يقيم النازحون في مدارس ثانوية تحولت لمراكز إيواء مؤقتة غمرتها مياه الأمطار. هذه المراكز المتكدسة بالناس تفتقر لأبسط مقومات الحياة، والمياه الآسنة ستزيد من سوء الوضع لا محالة، لتفتح شهية العدوى في الأجساد الناحلة.

ناشدت الغرفة أيضًا بتوفير الطعام والمياه الصالحة للشرب، والملابس والدفايات، لا سيما للأطفال. النازحون فروا تاركين خلفهم كل شيء للنجاة من العنف الممنهج لقوات الدعم السريع، وهم يقيمون في هذه المراكز بلا أي معينات جدية يواجهون بها كوارث الخريف. المجهودات الشعبية لن تكون كافية الآن، والمدينة بحاجة لتدخل أكبر.

الشاب عامر بشير أكد لـ"الترا سودان" أن خور أميري الواقع بين منطقة مكرام والشعبية شرقي المدينة قد فاض. يقول عامر إن المياه قد قتلت واحدًا على الأقل من النازحين المقيمين في مدرسة مكرام. ويؤكد أن الحكومة لم تفعل أي شيء تحسبًا للخريف، مستدعيًا في حديثه لـ"الترا سودان" الجانب الممتلئ من الكوب، ولكن بنفس المياه الوحلة: "لقد فتحت السيول والفيضانات المجاري والمصارف بقوة تدفقها؛ لم نعد بحاجة للتدخلات الحكومية ولله الحمد والمنة". لم أرصد أي نبرة ساخرة في صوته.

في الأعوام السابقة في كسلا، انتشرت الشيكونغونيا والحميات النزفية التي تنقلها الزاعجة المصرية التي تتكاثر في المياه الراكدة. الآن، مع كميات المياه الحالية وغياب التصريف، المدينة موعودة بموجات جديدة تسد شوارعها بخيام العزاء مثلما يحدث منذ سنوات.

موت متنوع

المياه لا تقتل فقط بهذا الموت المؤجل الذي تحمله أجنحة نواقل الأمراض الصغيرة الضارية، هي أيضًا تقتل مباشرة بتهديم البيوت على رؤوس ساكنيها، والصعقات الكهربائية، وانهيارات الآبار، ولذلك بثت المجموعات الشبابية مناشدات بعدم الاقتراب من الجدران والابتعاد عن مناطق الآبار والحفائر، والسير بعيدًا عن الجدران، وتجنب ملامسة أسلاك الكهرباء، والابتعاد عن مجاري المياه.

قبلها بأيام، كان نهر القاش العنيد قد "كسر" في أروما المتاخمة، مجتاحًا معظم أحياء المدينة التي يغلب على بيوتها البناء من المواد البسيطة. أحال الفيضان حياة ساكني أروما إلى جحيم من الماء الذي يحيط بهم. الحكومة طالبت المواطنين وقتها بـ"أخذ الحيطة والحذر".

يصاحب الأمطار من هذا النوع عادة انقطاع في التيار الكهربائي، ما يعني انقطاع الخدمات التي تحتاج إلى الطاقة، وهذا ما حدث اليوم في كسلا، حيث توقفت مياه المواسير النظيفة التي تعتمد على الكهرباء. وأبلغ مواطنون "الترا سودان" بأزمة حادة في رغيف الخبز، ربما بسبب انقطاع سلاسل الإمداد جراء السيول التي تقطع الطرقات وتعطل عجلة الإنتاج.

عند سؤاله عن فيضان القاش، قال سلمان إنه لا يمكن أن يفيض في كسلا هذا العام، فقد أنشئت مصدات أسمنتية في المناطق الحيوية بالقرب من السوق الرئيسي. على الأقل هذا مصدر قلق مهدأ في الوقت الحالي، ففي كل خريف يستدعي سكان كسلا فيضانات تاريخية للقاش حطمت المدينة على رؤوس ساكنيها، ولكن سرعان ما يهدأ هذا النهر العنيد وتعود الحياة لدورتها الطبيعية، بعيدًا عن السلطات.

ما يزال "تايملاين" الكسلاويين ممتلئًا بالمناشدات لمساعدة النازحين العالقين وسط الوحل في مراكز الإيواء

ما يزال "تايملاين" الكسلاويين ممتلئًا بالمناشدات لمساعدة النازحين العالقين وسط الوحل في مراكز الإيواء، ولكن على الأقل هنالك بارقة أمل، فقد أصرت غرفة الطوارئ على تجهيز الطعام في المطبخ المركزي على الرغم من السيول وقدمت الطعام للضيوف. إن هذه المجهودات لهي دلالة على قدرة الناس على التضامن والصمود في أحلك الظروف، وعبرة على القدرة على النجاة بالإيثار الذي يميز بني الإنسان على البهائم والأنعام، فمرحى لسكان الوريفة الذين ما فتئوا يعيدون إيماننا بالإنسانية، ولا بد من فعل يوازي كوارث الخريف في كسلا.