قتال دام واشتباكات عنيفة شهدتها منطقة البيبور بين مجموعات المورلي واللو نوير من جهة، وشباب دينكا بور من جهة أخرى، خلال الأسبوعين الماضيين، ضمن المآسي الكبيرة التي تشهدها المنطقة في ظل انشغال كافة أطراف اتفاق السلام بتوزيع كعكة السلطة، والاحتفاء بتعيين نواب الرئيس الخمسة.
تحولت البندقية من آلة حرب تستخدم لحماية النفس وثروات المجتمع المحلي، إلى وسيلة انتاج يكسب بها البعض عيشهم
وقعت خسائر عديدة في الأرواح خلال غارات النهب المسلح المتبادل بين مجتمعات منطقة جونقلي الكبري، وحاولت المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة أن تسد تلك الفجوة باطلاق نداءات استغاثة لإنقاذ المدنيين من تلك المواجهات العبثية، والتي أدت لتشريد مايزيد عن خمسة آلاف مواطن بسبب تلك الغارات التي يعزوها البعض لأسباب انتقامية، بعد أن قامت مجموعات مسلحة تابعة لمجموعة المورلى بمهاجمة مناطق اللو نوير ونهب أعداد من الماشية بجانب اختطاف عدد من النساء والأطفال.
اقرأ/ي أيضًا: 8 سنوات على استقلال جنوب السودان.. فشل تجربة بناء الدولة في مهدها
ظلت تلك المناطق الواقعة على التخوم الشرقية لدولة جنوب السودان، تشهد منذ فترات طويلة انتشارًا كبيرًا للسلاح الناري بين المواطنين خاصة خلال فترة الحرب الأهلية السودانية الثانية، كما شهدت قيام مليشيات محلية كانت تتبع لأطراف النزاع المختلفة آنذاك، بالتحديد الجيش الشعبي لتحرير السودان، والحكومة السودانية، وتنقسم هذه المليشيات على أساس مصالح وتوجهات قيادتها العسكرية والمدنية، فقويت شوكة المجتمعات القبلية، التي وظفت تلك السلطة والقوة التي اكتسبتها لتعزيز وضعها السياسي والاقتصادي، بعد أن تمت عسكرة حياة تلك المجتمعات (المورلي، الدينكا بور واللاو نوير) على امتداد خطوط الحرب الطويلة، لتسود عقيدة القتال القبلي، وتتحول غارات النهب القديمة إلى مواجهات ومعارك تستخدم فيها الأسلحة الأوتوماتيكية الثقيلة والخفيفة، وتحولت البندقية من آلة حرب تستخدم لحماية النفس وثروات المجتمع المحلي، إلى وسيلة انتاج يكسب بها البعض عيشهم.
اتفاق السلام الموقع في أيلول/سبتمبر 2018 بين الحكومة وجماعات المعارضة، واتفاق السلام الموقع في العام 2013 بين حكومة جنوب السودان وفصيل الكوبرا المتمرد آنذاك، والذي كان يقوده حاكم ولاية بوما الأخير الجنرال ديفيد ياوياو، كلها لم تستوعببحسب المراقبين طبيعة الأزمة التي تواجه منطقة جونقلي العظمي، فتلك الاتفاقيات لم تنظر في طبيعة المشكلات التي تعاني منها المجتمعات المحلية، وهي في أساسها مجموعات رعوية تعاني من غياب التنمية والتعليم، وتعيش في أوضاع غير مستقرة، يسودها الصراع من أجل البقاء وفق ما تحدده معايير القوى المحلية، وما تستند إليه من أحلاف تتشكل على ضوء المعادلات التي يرجحها ميلان كفة المصالح الآنية، لتتوزع بذلك الاتهامات بين جميع الأطراف.
اقرأ/ي أيضًا: منظمة أنقذوا الأطفال: 200 ألف طفل في أوضاع رديئة خلقتها فيضانات جنوب السودان
الكل يقدم نفسه كضحية، فالمورلي تتهم المجموعات المجاوزة لها بشن حروب تهدف في الأساس لمحو وجودها، بينما تتهم بقية المجموعات الأخرى مثل دينكا بور واللو نوير الإعلام بتجاهل ما تتعرض له من غارات تشنها عليها مجموعة المورلي، وفي أحيان كثيرة تطفو إلى السطح أخبار المواجهات والاقتتال بينما تغيب المعلومات الأساسية عن الرأي العام، وتكتفي الحكومة المركزية بالإدانة وتكوين لجان التحقيق التي لا يعرف أحد إلى أين تنتهي تقاريرها وتوصياتها .
الكوارث التي تعيشها منطقة البيبور جراء القتال الأخير الذي خلف إلى الآن 28 من الجرحى بين الطرفين، بحسب البيان الصادر من منظمة أطباء بلا حدود، لاتحتاج فقط لحلول إجرائية عاجلة وإنما تتطلب أن تعيد الحكومة النظر في طريقة تعاملها معها، وذلك بأن تتعاطى معها في المقام الأول والأخير كمشكلة قومية تحتاج إلى تقصي أسبابها الجذرية والتي تتمثل في غياب التنمية والتعليم، إلى جانب التسييس القبلي للمجتمعات المحلية.
أمام الحكومة الانتقالية الجديدة واجبات وأدوار ضخمة يجب أن تقوم بها في أول اختبار لمصداقيتها في تحقيق السلام واستدامته بين المكونات المختلفة بجنوب السودان، وهى خطوات تبدأ بتجريد المجتمعات المحلية من السلاح بشكل منهجي تشارك فيه المنظمات الدولية وبعثة الامم المتحدة والمفوضية الحكومية الخاصة بعملية الدمج والتسريح، بجانب منظمة اليونسيف، وتنتهي ببسط سيطرة الحكومة التي لن تتم إلا من خلال تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية وبناء الجيش القومي الموحد لجنوب السودان.
وضع الاستراتيجيات يتطلب أيضًا القاء نظرة على الواقع وتقييمه بصورة أمينة، بدلًا عن الاكتفاء ببيانات الادانة والمناشدات التي لاتسمن ولاتغني من جوع
قبل أن تقوم الحكومة بجميع تلك الخطوات، مطلوب منها اتخاذ خطوة تدلل بها على اهتمامها بمعالجة تلك الأزمة التي تتجدد كل عام في ظاهرة يمكن أن نطلق عليها (حروب فصل الصيف العبثية)، وتتمثل تلك الخطوة في أن تقوم بنقل واحدة من جلسات مجلس الوزراء الخاصة بمناقشة تلك الازمة إلى منطقة البيبور أو بور أو أكوبو، فوضع الاستراتيجيات يتطلب أيضًا القاء نظرة على الواقع وتقييمه بصورة أمينة، بدلًا عن الاكتفاء ببيانات الادانة والمناشدات التي لاتسمن ولا تغني من جوع.
اقرأ/ي أيضًا:
جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة
رئاسة جنوب السودان تؤكد اقتراب موعد إعلان الحكومة الانتقالية الجديدة