05-أكتوبر-2023
القاسم الظافر

الأمين العام للحركة الوطنية للبناء والتنمية القاسم الظافر

"أفهم لماذا لجأ البشير لصناعة الدعم السريع"

"لا يمكن أن نستثني طموح قيادة الدعم السريع في تجليها الأسري كسبب مباشر للحرب المشتعلة"

"الاتفاق الاطاري فجّر التناقض.. وكان من الأفضل إرجاء الدمج إلى حين تكوين بنية تشريعية في إطار الانتقال أو بعده"

"(لازم تقيف) جزء من المناورة.. وتشكّل غطاءً سياسيًا للتمرد"

"حرب أبريل أعلنت نهاية الجمهورية الأولى.. ولا بد من جمهورية ثانية تقوم على الاستقرار"

"لا توجد "حرب عبثية" ولا حتى حرب البسوس!"

"ما جرى "حرب غنيمة" نقلت ثروة المركز إلى الأطراف وربما خارج الحدود"

"عمليات السلب والتدمير أمر ممنهج.. والقراءات الأولية للآثار الاجتماعية والاقتصادية كارثية بكل المقاييس"

"الإسلام السياسي لم يفشل كأطروحة للاستئناف الحضاري ونسعى إلى تطوير رؤية عنوانها ما بعد الترابي (بوست ترابيزم)"

القاسم عبدالله الظافر متخصص في الاقتصاد التنموي والتحليل المالي، خرج -على نحو ما يحدد عزمي بشارة شروط المثقف العمومي- من حوزته المهنية إلى ممارسة أدوار تتعلق بالمجال العام وترسم رؤى وازنة في سياقه.

تولى الظافر أمانة الحركة الوطنية للبناء والتنمية ذات الحضور اللافت بأطروحتها المشاعة في فضاء الإعلام وشبكاته الافتراضية وتمددها في مساحة نشاط ملموس تقارب السياسة من منظور النظر التحليلي والمعرفي. ذهبنا إليه في هذه المرحلة الحرجة نتلمس إجابات لأسئلتنا الحيرى، أو قل تحريرها من واقع الالتباس الخانق، فكانت المحصلة حوارًا معمقًا في إدراك ما نجتازه راهنًا وما نرجوه مستقبلًا، فإلى مضابطه وتفصيلاته.


  • كثر الحديث عن الحرب الدائرة بسبب التناقضات المؤسسية بين الدعم السريع والجيش؛ إلى ماذا تعزو اشتعال المعارك؟ ما هو السبب القريب المباشر؟

- ما أفهمه من خلال سؤالك أن ثمة إشكالًا قديمًا متراكمًا يتمظهر في تناقضات بنية الدولة وشكل مؤسساتها، ومن الواضح وجود الجيش بوصفه مؤسسة راسخة تمثل قوام الدولة الحديثة ذات مهام وظيفية محددة، وبالتوازي فإن قيام مؤسسة الدعم السريع بوصفها كيانًا عسكريًا يتمتع بقدر هائل من الاستقلالية، وإعادة تموضعها ما بعد الثورة وتمدد نفوذها يطرح إشكالًا هيكليًا في بنية الدولة يمكن أن نرد إليه اشتعال الحرب، لكني لا أميل إلى التعويل على عامل واحد في تفسير الظواهر المعقدة سيما السياسية منها، إذ ليس من سبب واحد بعينه يمكن أن يعزى إليه تقويض النظام الديمقراطي في السودان أو اشتعال الحروب؛ هناك دائمًا أكثر من سبب يخلق مناخًا أو بيئة ملائمة لبروز الحدث مثار التحليل.

القاسم الظافر: أفهم لماذا لجأ نظام البشير إلى صناعة كيان الدعم السريع على سبيل التفسير لا التبرير، وأنتج تناقضًا إشكاليًا في بنية الدولة خلق بموجبه تعددًا في المجموعات القتالية، وهدد مفهوم الدولة القائمة بالتعريف على احتكار أدوات العنف

ولو أردنا التحليل على هذا النحو سندرك أن عددًا من العوامل تضافرت لتقودنا في هذا المساق المؤسف، أولها بالتأكيد التشويه المتراكم في بنية الدولة الذي أنتجه النظام السابق وصنع أدوات للعنف وقمع العنف المضاد في دارفور وغيرها. وكان نشوء الدعم السريع أداة فاعلة في ذاك السياق يقرأ الأمر ضمن ملابسات الظرف، خصوصًا بعد عام 2008م ونجاح "عملية الذراع الطويل" في بلوغ العاصمة من حيث فشلها في إسقاط النظام في الخرطوم.  ومن هنا أستطيع أن أفهم لماذا لجأ نظام البشير إلى صناعة كيان الدعم السريع على سبيل التفسير لا التبرير، وأنتج تناقضًا إشكاليًا في بنية الدولة خلق بموجبه تعددًا في المجموعات القتالية، وهدد مفهوم الدولة القائمة بالتعريف على احتكار أدوات العنف. عامل آخر هو فشل الفترة الانتقالية في مخاطبة قضايا التأسيس الجوهرية وعدم الإجابة على "الاستفهامات الكبرى"، وهي أسئلة ضرورية ولا غنى عنها لأي مشروع حكم في السودان على اختلاف أنماطه ديمقراطيًا كان أو ديكتاتوريًا. من ضمن هذه الأسئلة سؤال السلم الأهلي والامتدادات القبلية، ومن ضمنها تعدد الجيوش المنتشرة في السودان ومن ضمنها الإصلاح المؤسسي ومن ضمنها النظام السياسي نفسه وقضاياه. فشل هذه المنظومة أنتج لنا كارثة حقيقية منها ما نحن بصدده من حرب ضارية.

وواحد من أسباب فشل المرحلة الانتقالية حالة الإقصاء الممارس فيها الذي أبعد كيانات مفيدة لحالة الانتقال سواء بإثراء الحوار أو إعمال آلية النقد البناء، حيث كان الأفق الانتقالي يحتمل إجماعًا واسعًا عبر الرؤى الحادبة والمفيدة في آن.

عامل آخر لا يرد كثيرًا وهو طموح مؤسسة الدعم السريع وهي تجمع إلى السلطة التي حازتها، ثروة هائلة وعلاقات داخلية وخارجية. فهي لم تعرف السلطة بالمعنى "الثورجي" إلا بعد الثورة، ولعل ذلك من أسباب فشل الفترة الانتقالية. وكان لتغلغلها في بنية السلطة السيادية وما أتيح لها من مجال نفوذ واسع واستثمارات أوجدت علاقات في المجتمع وقواعده حاولت تحدث استمالة واختراقًا للبنيات الاجتماعية. فهذا الفشل في إدارة المرحلة هو ما أنتج الحرب، والمسؤول عنها بصفة مباشرة النظام السياسي المناط به إدارة المرحلة، ومسؤول عنها بالضرورة قيادة الجيش في نطاق مسؤوليتها عن الشأن الأمني، وأن مسألة الدعم السريع نشأت كخطأ أمني تمدد بسبب سوء الإدارة الأمنية.

أستطيع أن أقول ملخصًا لهذا الاستطراد، أن السبب القريب المباشر هو طموح الدعم السريع بقيادتها المرتبطة بمشروع أسري، والسبب الثاني فشل المرحلة الانتقالية والمنظومة المناط بها إدارة الانتقال في شقه المدني، وأعني قوى الحرية والتغيير ومشروعاتها وخطاباتها البائسة.

  • وردت روايات مختلفة حول كيفية نشوب الحرب من بينها أن من أشعلها "تنظيم إسلامي داخل الجيش"، في تطور ملحوظ لقدرة الاختراقات التنظيمية من الانقلاب عبر المؤسسة العسكرية إلى إشعال الحروب؛ هل هذا صحيح؟

- هذا ليس صحيحًا، لكن بأي معنى؟ باعتبار أن لكل حرب حالة خطاب مصاحبة لها تكسو أفعالها العنيفة الدلالات والمعاني وتفيض عليها بكسوب الشرعية على مستوى المواقف التصعيدية. لا مراء عندي أن ما فجّر الحرب هو الاتفاق الإطاري؛ أنا هنا لا استند على افتراض فاعل خفي متآمر يُسند إليه فعل الحرب كما تقول الرواية الشائعة حول "من أطلق الرصاصة الأولى"، وإنما استند إلى ما قاله محمد حمدان دقلو في مقابلة مع قناة الجزيرة حينما سألته المذيعة عن إقحامه لموضوع المدنيين في الصراع الدائر، فقال إنه لم يكن على خلاف مع البرهان والجيش قبل الاتفاق الإطاري، وبالتأكيد فإن الاتفاق الإطاري لم يطرحه الإسلاميون، بل إن المجموعة التي وقفت وراءه وقدمته هي على النقيض منهم ومن مشروعهم. وأنا أفهم سبب الزج بالإسلاميين في هذا الموضوع وتصديره كخطاب للحرب الدائرة وتزييف الوعي بهذا الخصوص، بيد أن هذا لا يغني عن الحقائق الموضوعية وهي أن الاتفاق الإطاري ومشروع دمج الدعم السريع الذي ورد ضمن بنوده هو ما فجّر الحرب.

كنت أرى من الأفضل التعامل مع المؤسسة العسكرية بشكلها الشائه حاليًا وتحقيق الانتقال ومن ثم مناقشة الدمج من خلال تشريع برلماني، لأن دمج الدعم في المؤسسة العسكرية لا يمكن أن يكون قرارًا سياسيًا، ولكنه ينبغي أن يتخذ من خلال بنية تشريعية حتى ولو في إطار الانتقال، وهذا يؤكد ما أشرت له سابقًا من فشل الفترة الانتقالية كعامل جوهري فيما انتهينا إليه من حرب؛ اتضح أن المنظومة التي أدارت الانتقال لم تكن تملك تصورًا لإدارة المرحلة الانتقالية ومسألة دمج الجيوش، وفي رأيي فإن القرار الأحكم حينها هو ترك دمج قوات الدعم السريع للتشريع بكيفياته وتوقيتاته وإجرائياته، وحتى مسألة الإصلاح العسكري كانت مناقشتها في إطار الإصلاح المؤسسي والنظام السياسي أمرًا ممكنًا، لكن ضمن سياقه المؤسسي. واحدة من أهم مميزات الدولة الحديثة قدرتها على إصلاح نفسها بأدواتها، ومن ذلك فصل السلطات، ولعل من أسباب فشل الفترة الانتقالية خلط ما هو تشريعي بما هو قضائي بما هو سياسي، هذه هي الرواية الحقيقية التي أنتجت الحرب وليس شعارات الحرب والخطاب السياسي المتمحور حول الإسلاميين.

  • قدمت قوى الإطاري ضمن مرافعتها حول الحرب القائمة، رواية مخالفة، برز من خلالها شعارهم حولها بضرورة إيقافها؟ كيف تقيِّم موقف مركزي الحرية والتغيير، وكيف ترى شعارها الموسوم "لازم تقيف"؟

- هذا جزء من المناورة، طالما أن مؤسسة الدولة الرسمية أعلنت أن فصيلًا تابعًا لها قد تمرد عليها وخالف قراراتها فإن أي مؤسسة مدنية ينبغي أن تمتثل لهذه الرواية. أي تراجع عن مناصرة المؤسسة العسكرية يصنف بأنه فعل غير ديمقراطي يقوض بنية النظام، بل يعتبر التماهي مع الرواية المضادة نصرة لها وتشكيل غطاء سياسي لتمردها، وعليه فإن موقف الحرية والتغيير ضمن "الذرائعية" التي تعبر عنها نظريًا فلسفة جون ديوي، فوجود الذرائع لا تنفي بالضرورة سطوع الحقائق المجردة، ولن تخفي الأجندة السياسية والرهانات التي تم اتخاذها موقف مناصرة الدعم السريع على حساب الجيش.

كل المواقف التي قدمتها قوى الحرية والتغيير ورفع الشعارات وتقديم المرافعات  بشأنها محض أساليب عبثية -ومنها شعار "لازم تقيف"- في ظل الانتهاكات الواسعة التي قامت بها قوات الدعم السريع. دع عنك موضوعات السيادة والوطنية ودعم مؤسسات الدولة الشرعية، ولنقل إنها مسائل نسبية تخضع لتقديرات السياسييين، أو ليس ما جرى من سلب ونهب للممتلكات واغتصاب للحرائر وتحويل الخرطوم لمشروع غنيمة علاوة على ما حدث من جرائم حرب في دارفور وغربها بالتحديد وحاضرتها الجنينة خمسة آلاف قتيل وسبعة آلاف جريح وأكثر من سبعمائة ألف إلى مليوني نازح في تشاد؛ أوليس كل ذلك كفيل باتخاذ مواقف جدية ضد الدعم السريع؟

هناك طرح آخر تحت شعار "أرضًا سلاح"؛ لمن ينصرف هذا الخطاب ومنح الطرفين ذات الشرعية؟ نفس الطرح الذي أنتج سؤال "من أطلق الرصاصة الأولى؟"، الجيش السوداني يمتلك الحق الدستوري الذي يخوّل له إطلاق الرصاصة الأولى إذا اكتشف عملية تمرد. ويكفي في سياق التدليل على تمرد الدعم السريع، ما ورد في حوار مالك عقار مع بكري المدني حول مشروعية وصف ما جرى بأنه تمرد. إن سياق التمرد واضح في الأحداث التي سبقت الحرب، ومن ذلك الذهاب إلى مروي والتصعيد الذي تم ووساطة مناوي وجبريل ومالك عقار لخفض التوترات. تمركز قوات الدعم السريع في الخرطوم وإدخال الآليات الثقيلة والمدرعات كلها تأتي في ذات الإطار. شهادة مناوي نفسها يمكن أن تقرأ في هذا الصدد، وهؤلاء لاعبون حقيقيون وليسوا شهود عيان، ولو قرأنا شعارات "لازم تقيف" و"أرضًا سلاح" و"لا للحرب" على ضوء هذه المعلومات، يمكن أن ندرك أنها محض خطاب تبريري لاستمرار الحرب، خاصة حينما تميل الأحداث ويوميات المعارك في صالح هزيمة الدعم السريع.

  • تخضع دولة ما بعد الاستقلال لاختبار حقيقي حول مشروعيتها وإمكانية استمراريتها بذات الفعالية؛ كيف ترى مستقبلها على ضوء الحرب؟

- أعد هذه الأيام دراسة تفصيلية في هذا الصدد ربما ترى النور قريبًا، المدار الرئيسي لها قريب من هذا السؤال، والإجابة عليه هي أن الجمهورية الأولى  الممتدة من 1956 استقلال السودان إلى حرب أبريل 2023 - هذه الجمهورية انتهت! ليس من منطلق نهاية "دولة 56" و"سقوط دولة الجلابة" كما تقول دعاية الدعم السريع، ولكنها انتهت كمرحلة تأسيسية فشلت في إنجاز كل مطلوبات التأسيس من إيجاد تأسيسات أساسية وتحديد الأجندة الوطنية الكبرى، وفشلت في إدارة العلاقات مع كيانات اجتماعية متباينة، ولم تستطع أن تستخدم الدين بوصفه عنصرًا مشتركًا، وفشلت في تمدين المجتمعات السودانية، وأفرزت نظاما سياسيًا على النحو الذي نعرف وبتناقضاته ومكونات مشوهة وتنظيمات سياسية لا تملك برامج حقيقية وليس لها قدرة في إحداث نقلات حقيقية وصنع تغيير في بنيتها. (70) عامًا لم نستطع ان نجتاز تحدياتنا وأن نجيب على أسئلتنا الكبرى، وبالتالي الدولة هذه وممارساتها هزمت نفسها وهي تصطدم ببعضها البعض، ومشهد الحرب الراهن هو نتاج فشل مرحلة التأسيس.

بناءً على ما ذكرت أستطيع أن أقول أن الدولة في مرحلتها التأسيسية الأولى سقطت، وبالضرورة نتحدث عن "الجمهورية الثانية" وثيمتها الرئيسة ليس التأسيس وإنما الاستقرار، وهو موضوع مختلف من حيث كياناته وفاعليه وبنياته وبرامجه وتوجهاته. الجمهورية الثانية لديها قضايا مختلفة وتحتاج أن تنشأ من جديد، وعليه فإن الجمهورية الأولى سقطت تمامًا وأعلنت عن انهيارها من داخلها.

بانر الترا سودان

  • ما الفرق إذن بين خطاب الدعم السريع وما ذكرته بخصوص الجمهورية الثانية؟

- الفرق جوهري! فخطاب الدعم يدعو إلى التقويض الكامل للدولة القديمة، بينما أدعو أنا إلى الحفاظ على بنية القديم في الانتقال به إلى القادم وأخذ العبر والانتفاع بما يمكث في الأرض وترك الزبد يذهب جفاءً كما تقول الآية الكريمة.

  • لم يقتصر توصيف الحرب بأنها "عبثية" و"لا تحقق إلا الدمار" على قائد الجيش والدعم السريع، وكثير من الأطراف المنخرطة فيها بطريقة أو بأخرى، فكيف نفهم هذه المسألة؟

- هذا الأمر يشير إلى أن الفاعلين عندنا في المجال العمومي لديهم إشكال حقيقي في وعيهم بالأشياء وتحليل الظواهر. تخيل أنه لا يوجد في التاريخ على الإطلاق حرب عبثية، حتى "حرب البسوس" وما جرى فيها تخفي تناقضًا رئيسيًا بين محاولة إنشاء نظام جديد وفق أسس جديدة تراعي القيم الصاعدة في النسيج القبلي، وبين بنية النظام القديم التي ترى مصالحها في استمراره على ذات الطريقة القديمة، ينسحب هذا الأمر على كل المجتمعات التي ينشأ فيها التناقض الحاد بين قواها، وعليه فإن حروب قريش لم تكن عبثية، لذلك من يدعي أن حرب الخامس عشر من أبريل عبثية فهو إما نظر لها بجهل أو من خلال عدم اتساقها مع مصالحه وفي هذا عدم نزاهة واضحة ومتوقعة من العقل النخبوي السوداني. بناء على ذلك أستطيع أن أقول أن هذه الحرب استراتيجية وحرب ضرورة لأنها عبرت على التناقض الحاد بين قوى العنف بين الممثل الشرعي للدولة والمليشيا الطامحة في وراثة دوره. هناك كلام كثير يقع في تبيان هذه الافتراضات، منها استخراج فكرة القوات شبه النظامية واستخدامها في الدولة، أو موضوع "الجنجويد" كجماعة وظيفية، أو تأخر برامج التنمية واستقرار النظام السياسي، أو الإدارات الأهلية وغياب دورها ومسؤوليتها تجاه مكوناتها الاجتماعية، أو العنصرية والنعرات الاجتماعية. كل ذلك وغيره يجعلنا ننجوا من فخ الاختزال ونصف تمظهره بالنزوع العبثي وهو كلام غير سليم.

  • من ضمن تحليلات كثيفة للحرب لا يرد الحديث عن رهاناتها وآثارها الاقتصادية، فكيف نلتقط الأبعاد الاقتصادية فيما هو دائر من أحداث؟

- هذا بعد في التحليل غير مطروق بيد أنه مهم، فمخلفات الحرب على البنية الاقتصادية كارثية. واحدة من الكتب التي صدرت عن دار "برنستون" اسمه "المساواتي العظيم" ويتحدث عن الحرب بوصفها واحدة من أدوات العنف وتاريخيته في إيجاد معادلة توزيع ثروة؛ ما جرى "حرب غنيمة" وجزء كبير من الثروة الموجودة في المركز تحولت إلى أطراف البلد وربما إلى خارج حدوده، حيث أحدثت خللًا في البنية الاجتماعية مثلما نتجت بالأساس بوصفها خللًا في البنية الاجتماعية، وعلى المستوى العملي أنتجت واقعًا كارثيًا ليس أقل تبدياته تعطل النظام التعليمي وتوقف النظام المصرفي ونظام الأمن بالضرورة منهار والنظام الصحي خارج الخدمة والسوق في تجليه التجاري والتخزيني والتوريدي والإمدادي يعمل بنسبة ضئيلة لا تتعدى (30)% من طاقاته الطبيعية، هذه هي البنية الاقتصادية، وهناك أشياء مساعدة منها النظام العدلي وأزمات إنسانية كبيرة وأمراض وأوبئة وإشكالات بيئية. صحيح أن المشكل الاقتصادي تفجر على نحو مأساوي في سياق الحرب لكن ليس كله بسببها، فأزمة التعليم مثلًا استمرت طول الفترة الانتقالية، وهذا بالتأكيد سيشكل أزمة اقتصادية في السنوات القادمة.

الحرب دمرت البنية الصناعية أو كادت أن تقضي عليها تمامًا، وكما ذكرت سابقًا فإن ما تم بسبب ما أسميه مركزية الخدمات، فصناعة الأغذية في السودان مثلًا موجودة في المنطقة الصناعية ببحري والطاقة الإنتاجية في السودان متمركزة في (30) كيلومترًا مربعًا، لهذا فإن الحرب أو المهددات الطبيعية شكلت وتشكل خطرًا داهمًا، وصناعة الدقيق مثلًا موجودة في ثلاثة كيلومترات. كل ذلك يعد أخطاء تخطيطية فجة تنم عن قصور مريع في هذا الجانب.

في مرحلة ما بعد الحرب ينبغي النظر بجدية في معالجة هذه الأمور، ورغم التقديرات المتعلقة بما أصاب القطاع الاقتصادي والصناعي منه بوجه خاص والتي تلامس  حدود المليارات من الدولارات، إلا أن قابلية إعادة ترميمه ممكنة، بيد أننا لم نزل بعيدين عن أفق معالجتها. وعلى العموم يمكن إعادة تكييف الوضع الاقتصادي من جديد من خلال حسن التدبير وإعادة بناء المنظومة، ونقطة البداية في هذا الأمر تشكيل الحكومة المدنية التي تنهض بكل الأعباء.

  • تقول التقديرات الأولية أن مواطني الخرطوم فقدوا ما قيمته (50) مليار دولار جراء عمليات النهب والسلب الواسعة، فكيف ترى هذه التقديرات، وهل هي سلوك ممنهج أم محض آثار جانبية للحرب؟

- في نظري من جملة المشاهدات والانطباعات الأولية، أن ما تم لا يمكن النظر إليه كأثر جانبي للحرب. نحتاج بالفعل أن نقترب أكثر بدراسة ما جرى وانخراط مجموعات واسعة في عمليات السلب واكتناه الدوافع الحقيقية، يمكن أن تنتدب مؤسسات غير حكومية ذات بعد اجتماعي لدراسة الأمر. أما بخصوص التقديرات فلا يمكن القطع بصحتها لكن من حيث التقديرات معقولة إذا شملنا كل الأضرار التي وقعت على المؤسسات الاقتصادية وبنية الخدمات المتعلقة بالكهرباء والمياه والاتصالات، وأخشى حينها أن تتجاوز هذا الرقم. إن هذا السؤال يقودنا إلى ضرورة تشكيل الحكومة وإعمال الفعل المهني اللازم والتفاعل مع المجتمع الدولي وصناديق إعادة الإعمار والتعامل مع الأصدقاء والمانحين ومنظمات النقد الدولي وغيرها من المسائل المهمة. مثلًا ما تعرضت له المصارف من سرقة للنقود يستدعي سك عملة جديدة، والذي بدوره يحتاج إلى مبالغ طائلة.

لا شك عندي أن ما تم هو عمل ممنهج، وهو أمر متسق مع العقيدة العسكرية للدعم السريع التي تنظر للحرب بوصفها غنيمة، وهذا بدوره يطرح سؤالًا جادًا حول مغزى إلحاقها بمؤسسة القوات المسلحة. لماذا لم تطرح مثلًا مسألة إلحاقهم بالمنظومات العسكرية الدولية وعمل دور فاعل في منع الهجرات غير الشرعية وإيقاف عمليات الإتجار بالبشر وغيرها من الأدوار المفيدة في السياق الدولي ونفيد من موضوع تأهيلهم وتدريبهم وفق شروط جديدة؟ هناك حلول كثيرة ومعالجات أكثر إبداعية كان يمكن أن تخرجنا مما نحن فيه، لكن للأسف عقلنا ليس إبداعيًا على مستوى التقاط الحلول وتجاوز العوائق.

  • أفرز الصراع الدائر فصامًا اجتماعيًا استدعى ذاكرة الحروب التاريخية وتناقضات الاجتماع الإنساني في السودان، فما الحل؟

- هذه واحدة من أسوأ آثار الحرب الدائرة، لأن قواعد الدعم السريع حاضرة في المشهد ومنحازة بدرجة كبيرة لها، سيما أن هناك شرخًا كبيرًا لها لغياب دور الدولة. الحل يكمن في طرح عقد اجتماعي يحقق السلم الأهلي أسميناه بـ"الميثاق الاجتماعي" يعيد تعريف العلاقات البينية بين المكونات الاجتماعية ويعيد تعريف العلاقات الأفقية بين هذه المكونات وما هو دولة وسلطة وربطهم بالفعل المدني عبر برامج تنمية وتقدم تزيل الحالة الصراعية، ويمكن الاستفادة في هذا المستوى من الإدارة الأهلية وإنجاز مصالحة وطنية ليس على أفق السياسة وإنما على أفق الاجتماع. وفي هذا الإطار لا بد للناس أن تمايز بين ما هو كيان قبلي وما هو تمرد تنتسب إليه أعداد مقدرة من أفراد هذا الكيان. إن هذا التمييز يقتضي محاكمة من ثبت إجرامه والتعاطي على نحو قومي مع القبائل بما هي كيانات اجتماعية أصيلة. وبصفة عامة توجد عناصر في الدعم السريع من كل أهل السودان وهذا ما يجعل ضرورة النظر إليهم ضمن هذا المستوى حتى لا نقع في التنميطات المخلة التي تعمق الأزمات.

علينا إذن أن نعلي من اللحمة الاجتماعية ورتق نسيجها من جهة، وأن لا نتساهل في حق الدولة في بسط سلطتها وجلب العدالة لكل من تضرر من الحرب من جهة أخرى، وهي موازنة دقيقة. هناك أطروحات كثيرة يمكن أن تنجح في هذا الصدد مثل "عنصر الدين" و"البعد القومي والوطني" و"بعد الدولة" و"التنمية".. إلخ، ويمكن استخدام الأدوات الحديثة للتسويق لها عبر نواظم الإعلام والخطاب الجيد. كما يمكن استخدام الأدوات التقليدية مثل "القلد" و"النفير" وغيرها من الأساليب والوسائل الفعالة، ويمكن للإدارات الأهلية أن تندرج في هذا الفعل.

لدينا طرح آخر متعلق بـ"مجلس حكماء السودان"، ويشمل الإدارات الأهلية الفاعلة والطرق الصوفية العاملة، وهو جسم يسعى إلى تقديم حلول حقيقية في هذا الصدد وحيال هكذا أزمات. ونطالب أن يكون هذا الجسم في قلب الدولة لدوره الأداتي والبنائي ولمواءمة شكل الدولة مع مجتمعها كذلك.

  • تطرح مقاربات متعددة لأفق الحل خارج نطاق التفاوض. كيف تراها وهل من رؤية واقعية تنهي الحرب؟

- استمرت الحرب زمنًا طويلًا وقضت على كثير من المحاذير والمخاوف، ومع تراجع قوات الدعم السريع فإن من المصلحة أن يتم إخضاعها لشروط الدولة واستسلامها تمامًا، لأن إيجاد معادلة لها في قلب السلطة لم يعد مطروحًا. موازين الميدان ومنطق السياسة تشير إلى تقهقر القوات وداعميها السياسيين وفتور الدعم الخارجي وفشل الرهان عليه لخلق الاختراق اللازم عبر الانقلاب، وشكل خطاب البرهان في الأمم المتحدة نقلة كبيرة في شكل الصراع وطوره ومنحه أبعادًا جديدة بإعادة تعريفه وتوصيفه والنظر إلى الشعب كطرف في الصراع مع الدعم السريع، وإدراج قائمة من الاستهدافات ليس أولها الهوية والتاريخ والدولة وحالة التماسك الاجتماعي وليس آخرها أصول وممتلكات الأفراد وحقهم في الحياة.

لا علاقة لما تم من ضرب بنيات الدولة ومقدراتها وإمكاناتها ومزاعم الحرب المعلنة من جلب الديمقراطية واستئصال الكيزان وغيرها من الأمور، لذلك ليس ثمة جند للتفاوض معها سوى باستسلامها والانصياع التام للدولة وما يترتب على ذلك من عقوبات، وضرورة توثيق كل ذلك بعد إلحاق الهزيمة بمشروعها تمامًا.

  • ضمن قضايا عديدة يرى البعض أن أفق الإسلام السياسي يجتاز مصاعب جمة على وقع صعود وتراجع ما بعد ثورات الربيع العربي، فما هي أبرز التحديات التي تواجه المشروع وأبرز المعالجات الممكنة؟

- أطروحة الإسلام السياسي تحتاج إلى كثير من النقلات، لكن هذا لا يعني اتفاقي مع الحكم بأنها استنفدت أغراضها، بل يمكن أن يقال إن الأنظمة التي حكمت بها استنفدت أغراضها، لكنها كفكرة ما زال لديها ما تقدمه. فالمؤتمر الوطني -إذا أردنا ضرب أمثلة في هذا الصدد- استنفد أغراضه كونه أضحى غير قادر على الإنتاج ودخل في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية فشل معها في تقديم حلول. أعتقد أن جوهر الإسلام السياسي يتمركز حول الاستئناف الحضاري بما أنه متجاوز للظاهرة السياسية، ولأننا في إطار حداثة أصبحت الدولة فيها مركزية للفعل الإنساني وهي المشغل وهي الموجه ونحن لا نتفق مع هذه البنية لكن لا بد أن نتعاطى معها.

الإسلام السياسي كمشروع أضحى حاملًا لفكرة الاستئناف الحضاري على كافة المستويات للنموذج المعرفي المُفكّر به لما هو اقتصادي وما هو اجتماعي وما هو ثقافي ..إلخ، وهي أطروحة قادرة على تجديد نفسها عبر مؤسسات وأدوات وطرائق وآليات جديدة ذات اتساع في معالجة المسائل وبسط الأفكار والرؤى لتحقيق ذات الغرض. وهي مهمة لا تخلو بالطبع من تحديات لإعادة إنتاج المؤسسة الحديثة المعبرة عن الفلسفة المطلوبة بنفس الأدوات الحديثة، وهذا يتطلب كادرًا نوعيًا ومؤسسة حديثة وبرامج نوعية وخطابًا سياسيًا جديدًا وتحالفات داخلية وإقليمية ودولية تعيد إنتاج هذا المشروع بشكل يسمح لها بالتواجد والتمدد والتغلغل في بنية النظام السياسي الموجود، وفي بنية النظام الذي يحكم العالم.

الأمين العام للحركة الوطنية للبناء والتنمية لـ"الترا سودان": طرح الإسلام السياسي بما له من قدرة على المعالجات يمكن أن يقدم الحلول لقضايا معضلة في الغرب

إن إمكانية معالجة التحديات موجودة اليوم بأكثر مما مضى؛ هناك دروس مستفادة من شكل الطرح والممارسات للحركات الإسلامية، وهناك أطروحة ما بعد الترابي "بوست ترابيزم" كمحاولة لتقديم إجابات جديدة للتحدي المشار إليه.

هناك بعد كبير في إطار الوعي بالدولة الحديثة ودينامياتها وتحدياتها وأدواتها والتفاعل معها والنظام الدولي وإدارته والاقتصاد وشكله وغيرها من التحديات، ومعالجات الجيل الجديد بالنموذج المعرفي القادر على الاستبصار في الظاهرة الاجتماعية بأدوات تحليل جديدة في إنتاج أطروحات وبدائل مغايرة الكلام عنها بمجمله هو شكل التطوير الذي سيحدث بلا ريب، وتفصيلاته بحسب القضايا. طرح الإسلام السياسي بما له من قدرة على المعالجات يمكن أن يقدم الحلول لقضايا معضلة في الغرب، منها ما هو متعلق بمسائل "الاختيار الجندري" وغيرها من آثار الشطط النيوليبرالي، لكن أفق المعالجة سيكون بالتأكيد أخلاقيًا ومعرفيًا بشكل عام.