الثلاثاء صباحًا، وبخفة وفيرة، كتب الناطق باسم الخارجية السودانية، مكتوبًا على موقع "سودانيز أونلاين"، يدعو فيه إلى التطبيع مع إسرائيل. ثم ظهرًا، وبذات الخفة، يصرح لقناة سكاي نيوز عربية الإماراتية بذات الأمر. لم تتوقف الخفة حتى بعد أن أصدر وزير الخارجية المكلف عمر قمر الدين، نفيًا بأن حيدر بدوي وإن كان يشغل منصب الناطق باسم الخارجية السودانية، إلا أنه غير مكلف بالإدلاء بأية تصريحاتٍ بهذا الشأن.
بوابة الخفة، كانت على الدوام، المدخل إلى طرح قضية القبول بإقامة علاقات سودانية مع إسرائيل والدعوة إلى تطبيع العلاقات معها
الشاهد الكبير، أن بوابة الخفة، كانت على الدوام، المدخل إلى طرح قضية القبول بإقامة علاقات سودانية مع إسرائيل والدعوة إلى تطبيع العلاقات معها. حيث لم تخرج هذه الدعوة من السودانيين، إلا بتبريراتٍ على شاكلة أن إسرائيل ليست أسوأ من الولايات المتحدة الأمريكية التي نتطلع لإقامة علاقة معها، ونتوسلها رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وعليه فإن الوصول إلى واشنطن، لا بد أن يمر بمحطة إسرائيل والتطبيع معها.
اقرأ/ي أيضًا: التطبيع الإماراتي.. بعيدًا عن فرية إلغاء خطة الضم
الأمر الثاني، أن المدخل إلى اشتعال خفة النظام السوداني تجاه الدعوة للتطبيع مع إسرائيل، هي اقتصادية في كثيرٍ من الأحوال. فما أن تضيق أحوال الاقتصاد على الكثير من الحكومات السودانية المتعاقبة، إلا ويكون واحدة من وجهات الحل: إسرائيل. وكذا التفكير في بناء علاقات وتطبيع معها.
الضائقة الاقتصادية نفسها، هي المدخل الرئيس لتفكير الرئيس الأسبق، جعفر محمد نميري، والمحرض على بدء تفاهمات رسمية بينه وإسرائيل. وكانت طرفًا في هذه التفاهمات بالطبع، الولايات المتحدة الأمريكية. وعبر بوابة هذه التفاهمات، سمحت حكومة جعفر نميري، بترحيل الآلاف من اليهود الفلاشا الإثيوبيين، من إثيوبيا إلى إسرائيل، وذلك عبر الأراضي السودانية. وعرفت هذه العملية في أرشيف السياسة السودانية باسم: "عملية موسى". هذه العملية، ساهمت في تقديم مساعدات مالية لحكومة نميري.
على أن الأكثر تهافتًا من نميري، عدد وافر من رموز النظام السابق، نادوا جميعًا بإقامة علاقات مع إسرائيل، وضرورة التطبيع معها. مدعين أن المعاداة لإسرائيل، ضمن البلدان العربية والإسلامية لم تخلف للسودان سوى التخلف. في الوقت الذي طبعت العديد من الدول العربية والإسلامية علاقاتها مع إسرائيل. يقول رموز النظام السابق هذه المبررات بالرغم من أن أيديولوجية الحركة الإسلامية السودانية قائمة ليس على معاداة إسرائيل لوحدها، وإنما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا للمفارقة.
أبرز رموز هذه الخِفة، كرم الله عباس الشيخ، والي القضارف في 2012، والذي لم يطالب فقط بأن تطبع حكومته الإسلامية مع إسرائيل، بل كشف عن وجود تيارٍ داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم وقتها، والمحلول الآن، يوافق التطبيع مع إسرائيل. ومن هؤلاء أيضًا، البرلماني والقيادي بذات الحزب، عبد الحميد موسى كاشا، الذي قالها بوضوح: "ما دمنا قبلنا بأمريكا، فلنقبل بإسرائيل".
اقرأ/ي أيضًا: قوي الحرية والتغيير.. بين أكل الكعكة والاحتفاظ بها
ولم تقتصر الخفة عند إسلاميي الإنقاذ لوحدهم، بل تعدتهم إلى غيرهم. ويذكر الناس التصريحات التي صدرها رئيس حزب الأمة، مبارك الفاضل، يدعو فيها إلى ضرورة إعادة النظر في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ويسند دعواه بأن غالب الدول العربية والإسلامية لها علاقات بشكلٍ أو بآخر مع إسرائيل. فلماذا نحن؟
قضية فلسطين، وأهل فلسطين قبل أن تكون عربيةً وإسلامية، كانت أخلاقية وإنسانية في المقام الأول
يغيب عن أصحاب الدعوة لإقامة السودان علاقة مع إسرائيل، والتطبيع معها، أمر في غاية الأهمية، وهو أن الموقف من التطبيع، فيه فرز لصفوف الملتزم بالأخلاق والمبادئ، والذي يخلع هذه الأخلاق في أقرب منعطف مصالحي. وهي انتهازية بامتياز. فقضية فلسطين، وأهل فلسطين قبل أن تكون عربيةً وإسلامية، كانت أخلاقية وإنسانية في المقام الأول. وهو ما قرب إليها وجمع حولها الكثير جدًا من الشخصيات المهمة في العالم، التي تضامنت مع إنسانية وأخلاقية القضية الفلسطينية. لم يجمعهم في ذلك عروبة ولا إسلام، ولا اقتصاد. وبالتالي فإن رفض التطبيع، يميز بشكلٍ واضح بين من هو أخلاقي وإنساني، وبين ما هو انتهازي.
وما هو أشد مرارًا، على النفس، من أن تطرح قضية التطبيع مع إسرائيل والعلاقة معها، والسودان ينجز ثورة تغيير أزاح فيها ديكتاتورية غاشمة وظالمة. وهي ذات الثورة التي رفعت شعار "حرية، سلام وعدالة. المرارة أن تقف حكومةٌ خرجت من رحم الثورة، ضد حق الشعب الفلسطيني في الحرية والسلام والعدالة. بل وتطبع علاقاتها مع من يغتصب حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والسلام والعدالة.
صحيح أن انكفاء القضية الفلسطينية في الفترة الأخيرة، في خانة كونها قضية عربية وإسلامية خصم منها الكثير. ولا خلاف، على أن تسمية النضال الذي يقوم به الفلسطينيون، باعتباره عملًا "استشهاديًا"، و"جهاديًا"، بدلًا من أن يكون "فدائيًا" مثلًا، خصم من القضية الفلسطينية الكثير. فمسيحيو فلسطين، في ذات حق الدفاع عن أرضهم، سواء بسواء مع مسلمي فلسطين. فالقضية هي الوطن الذي يجمع، وليس الدين الذي يفرق.
اقرأ/ي أيضًا: الاعتراض على أولونج.. مخاوف لا يدعمها اتفاق السلام
الواقع السياسي العربي يقول بأن عديد الدول التي أقامت علاقات مع إسرائيل بشرط التنمية والاقتصاد، لم يشهد واقعها التنموي والاقتصادي تقدمًا بسبب هذه العلاقات. بل إن النماذج صارخة في دولة جنوب السودان التي وقف فيها رفقاء التحرير والمناضلون من أجل حقوقهم، مع الإسرائيلي مغتصب الحق، في مفارقةٍ غريبة. الأسوأ من ذلك أن إسرائيل، آخر فصول الاستعمار في العالم.
في مقابل، أصحاب الخفة، والمهرولين نحو التطبيع مع إسرائيل، ظلت مجموعات سياسية وفكرية سودانية، رابضةٌ ومدافعة عن الحق
لكن في مقابل، أصحاب الخفة، والمهرولين نحو التطبيع مع إسرائيل، ظلت مجموعات سياسية وفكرية سودانية، رابضةٌ ومدافعة عن الحق. غض النظر عن من هو صاحب هذا الحق، وخلفياته الآيديولوجية والإثنية. بداهةً أن العديد من المجموعات السودانية ذات الخلفية الإسلامية تقف في صف الرفض للتطبيع مع إسرائيل، لكن الأبرز من هؤلاء هم قوى إعلان الحرية والتغيير، التي تمثل للمفارقة الحاضنة السياسية لحكومة الثورة الانتقالية، والتي يهرول قيادات بارزةٍ فيها باتجاه تل أبيب. وأيضًا يقف فيها الحزب الشيوعي السوداني، الذي اعتبر لقاء رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، في شباط/فبراير الماضي، بعنتيبي- يوغندا، "طعنةً وخيانة".
اقرأ/ي أيضًا:
فوضى التطبيع تفتح النقاش عن مستقبل الانتقال الديمقراطي في السودان