فذلكة تاريخية
ابتدأ الكابوس في العام 1993عندما أعلنت حكومة كلينتون وقتها إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد أن استضافت حكومة الانقلاب زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن والذي يُعتقد أنه كانت له علاقة بالعمل الإرهابي الأول بمركز التجارة العالمي بنيويورك الذي حدث لاحقًا بعد عدة سنوات من تلك الاستضافة وأودى بحياة ستة أشخاص وجرح المئات. كانت سياسات الحكومة السودانية الرعناء الطريق السريع نحو إبعاد الأمة عن الساحة السياسية للعالم. وكأن الشعب السوداني الرازح حينها بقوة الحديد والنار تحت قبضة الإسلاميين الانقلابيين، محكومًا عليه بالحياة في عوالم الكوابيس المتداخلة التي لا يد له فيها وإنما كتب عليه معاناتها.
كانت العقوبات ضربة قاسية للاقتصاد السوداني المتهاوي أساسًا. وكالعادة لم تعانِ منها حكومة الإنقاذ بمثل ما عانى منها الشعب السوداني البريء
لم تكن الصدمة كافية بالنسبة لحكومة الإنقاذ، فواصل الانقلابيين في غيهم ليصل قمته بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. كان ذلك وبالإضافة لعوامل معقدة في المحيط الجيوسياسي السوداني والعوامل الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية هو الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون للمسارعة بأمر تنفيذي في تشرين الثاني/نوفمبر 1997 لتوسيع مظلة العقوبات الواقعة على السودان ليضيف عقوبات اقتصادية أكثر قسوة شملت تجميد أصول الحكومة السودانية في الولايات المتحدة الأمريكية والتعاملات التجارية بين البلدين بالإضافة للتحويلات المالية. كانت ضربة قاسية للاقتصاد السوداني المتهاوي أساسًا. وكالعادة لم تعانِ منها حكومة الإنقاذ بمثل ما عانى منها الشعب السوداني البريء من كل شيء والمعاقب من قبل الإمبريالية الأمريكية شرطي العالم وأصدقاءها على كل شيء.
اقرأ/ي أيضًا: "مدنياااااااااو".. مقدمة لمرجعية أكاديمية
تواصلت العلاقات الأمريكية السودانية في شدها وجذبها حتى وصلت حد الضربة العسكرية لمصنع الشفاء في العام 1998 ثم استثناء بعض الصادرات الزراعية والطبية الأمريكية من العقوبات بعد مواقف مهادنة من الحكومة السودانية ومباحثات مصغرة في العام الذي تلاه. كان الشد والجذب عنوان تلك الفترة، خصوصًا بعد التغييرات المتلاحقة في شكل نظام الحكم في السودان والمفاصلة التي حدثت بين الإسلاميين واتجاه العسكريين للانفتاح على المجتمع الدولي والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب. أدى كل ذلك لرفع الحظر الجوي عن السودان من قبل الأمم المتحدة، حيث آثرت الولايات المتحدة الأمريكية عدم استخدام حق النقض والصمت تجاه القرار، الأمر الذي يمكن فهمه في إطار التقارب بين الحكومتين.
واصلت حكومة الإنقاذ في نهجها التعاوني مع الحكومة الأمريكية، فتمظهر التقارب بين البلدين في إرسال أول دبلوماسي أمريكي للسودان بعد ستة سنوات من القطيعة في العام 2002. ثم توقيع الرئيس الأمريكي جورج بوش قانون سلام السودان والذي انتهج سياسة العصا والجزرة في اتجاه تحقيق السلام ما بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان. لتقوم بعدها الحكومة الأمريكية بإزالة السودان من قائمة الدول غير المتعاونة في الحرب على الإرهاب، ولكن الإبقاء عليها في قائمة الدول الراعية للإرهاب، خصوصًا بعد انفجار واستفحال أزمة دارفور، الأمر الذي عقد الأمور على حكومة الخرطوم المتعاونة بأكثر مما يلزم، طمعًا في إزالة العقوبات التي صعبت عليها مهمتها في نهب الشعب السوداني، ولو حتى فقط نهب العون الانساني الذي كان يمكن أن يأتيه من الخارج.
ثم وبعد تحقيق اتفاقية السلام الشامل، التفتت الحكومة الامريكية في 2006 لقضية دارفور، لتضيف التوسيع الأكبر للعقوبات بعد قرارات بيل كلينتون في التسعينيات، ليشمل التوسيع الجديد الأشخاص الذين ترى الحكومة الامريكية أنهم يتحملون وزر الإبادة في دارفور والمؤسسات المرتبطة بالحكومة السودانية.
اقرأ/ي أيضًا: رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟
بعدها أتت سياسات الرئيس الأمريكي باراك أوباما الواعدة برفع العقوبات. كانت تلك السياسات قائمة على ثلاثة أعمدة: تطبيق اتفاقية السلام الشامل، إيقاف الحرب في دارفور وتوفير بيئة طاردة للإرهابيين في السودان. ليتوج الأمر بالرفع الجزئي للعقوبات في تشرين الأول/أكتوبر 2017 مع الإبقاء على السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب حتى يومنا هذا.
متى سترفع أمريكا اسم السودان من قائمة الإرهاب؟
بعد الثورة السودانية والإطاحة بنظام البشير الدموي؛ كان يعتقد الكثير من السودانيين أن عهد العقوبات الأمريكية التي جعلت حياتهم جحيمًا قد زال مع زوال النظام، وما هي إلا أيام وتسارع الولايات المتحدة الأمريكية للقيام برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكن وكما يظهر من الفذلكة التاريخية السابقة، فإن مسألة العقوبات بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية هي ليست بتلك البساطة. تستخدم الولايات المتحدة العقوبات لجميع أغراض السياسة الخارجية والداخلية، وتعمل على الدوام على الاستفادة لأقصى حد من أي تأثير لمصالحها قد تحققه لها العقوبات، وقد تتحجج الولايات المتحدة بكل شيء وأي شيء ما دامت مصالحها من العقوبات تفوق خساراتها، وتلك مسألة بديهية. وقد يلاحظ المتابع لتفاوت العقوبات وسرعة الاستجابة الأمريكية حسب الدول الواقعة عليها وحسابات الربح والخسارة المادية أو السياسية التي قد تقع عليها وتأثير ذلك على سرعة رد فعل الولايات المتحدة رغم استمرار قيام الأوضاع التي أدت للنص على العقوبات في المقام الأول وربما حتى تفاقمها. فبالنسبة لإيران مثلًا، والواقعة تحت طائلة نفس القوانين واللوائح الأمريكية، فالسوق الكبير هناك والطلب العالي والقدرة الإيرانية على المناورة والتأثير؛ جعل الولايات المتحدة تسارع لإعادة النظر في العقوبات وتعديل بعض بنودها في 2014. وفي سوريا التي تفجرت فيها الحرب الأهلية الطاحنة، سارعت الولايات المتحدة لتعديل بعض العقوبات تداركًا للرأي العام الذي قد ينشأ ضدها من ملاحظة العالم لتأثير العقوبات على المواطنين البسطاء.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية
الثورة السودانية أيضًا وضعت السودان في الواجهة، وها نحن الآن بعد سنين طويلة من الغياب عن الساحة الدولية نصبح حديث العالم ونستقبل تشجيعًا غير محدود من الشعوب الصديقة والمؤسسات الدولية. وقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتريتش صراحًة لرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل وتقديم الدعم المادي والسياسي للحكومة الانتقالية من أجل تثبيت مكاسب ثورتنا الباسلة.
ولكن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فالأمر مختلف بعض الشيء. فحتى الآن كمية الضغوطات الدبلوماسية والشعبية التي تواجهها من السودان قد تكون محدودة وغير ذات تأثير كبير. الولايات المتحدة تريد ما يدفعها دفعًا لرفع العقوبات، ولن يتحقق ذلك بالمطالبات الخجولة الناعمة والاستجداء في المحافل الدولية. ولربما سيكون من الأجدى التعامل بقوة مع هذا الملف والذي يمثل تهديدًا جديًا للفترة الانتقالية ومكاسب الثورة السودانية.
ربما قد حان الوقت للأخذ بزمام المبادرة والتصعيد الإعلامي والشعبي للضغط على الولايات المتحدة
إن الاقتصاد السوداني الآن في أشد الحاجة للدعم الخارجي والإعفاءات من الديون والمكاسب الاقتصادية المهولة التي يقف في طريقها حجر عثرة وضع السودان في قائمة الدول الداعمة للإرهاب. ويظهر أن الحكومة الأمريكية دائمًا ما تتعامل برد الفعل في قضية العقوبات. يجب وضع مع هذه المسألة في مكانها الطبيعي ضمن أهم أولويات الفترة الانتقالية وتحشيد أصدقاء السودان والدول ذات المصلحة للرمي بكل ثقلها في كل المحافل الدولية خلف هذه القضية. المسألة لا تتحمل مزيدًا من التأخير، وكل لحظة تمضي والسودان ما يزال في قائمة الدول الراعية للإرهاب هي خسارة كبيرة لشعبنا ونقطة في صالح الثورة المضادة والقوى المتربصة بمكاسبنا. ربما قد حان الوقت للأخذ بزمام المبادرة والتصعيد الإعلامي والشعبي للضغط على الولايات المتحدة لإعطائنا ما هو حقنا: وضعنا الطبيعي بين دول العالم.
اقرأ/ي أيضًا