قُدَّر لبلادنا أن تواجه جائحة كورونا مع استمرار مناورات شركاء اتفاقية السلام المُنشطة بجنوب السودان. ويشير الأمر إلى غياب الإرادة السياسية، النهج الذي ظلت تمارسه القوى المستفيدة من استمرار حالة اللا سلم لضمان الحفاظ على امتيازاتها. فبعض أطراف الاتفاقية يراهن على انشغال منظمة الإيقاد بفيروس كورونا وتأثيره على الدول الأعضاء.
ستلقي هذه التطورات بظلالها على أوضاعنا المتردية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والصحية. فالأخيرة تتصدر قائمة الأولويات في التصدي لوباء كورونا
بطبيعة الحال، لا تقف أزماتنا عند هذا الحد، بل تتسع أكثر، فمع تأثير الوباء على أوضاعنا الاقتصادية، نواجه في الوقت نفسه، انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، بل ووصولها الشهر الماضي لمستويات دون الصفر، في خام غرب تكساس في الولايات المتحدة. الرابط المشترك، هو استمرار تأثير جائحة كرورنا على الاقتصاد العالمي. فبتزايد انتشاره، والإغلاق الاضطراري للأنشطة الاقتصادية المختلفة، وتقييد حركة النقل التجاري والبشري البري والجوي. أدت الأزمة إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي، والذي بدوره يؤثر على أسعار النفط، لضخامة المعروض وقلة الطلب. وترجح تقارير اقتصادية استمرار هذا الوضع. كما يرى مختصون احتمالية تجاوز آثارها ما خلفته الأزمة المالية العالمية 2008، أو تداعيات ما عُرف بالكساد الكبير في نهاية عشرينات القرن الماضي في الولايات المتحدة.
اقرأ/ي أيضًا: فنانون تشكيليون يرسمون "جداريات" للتوعية بفيروس كورونا في جوبا
ستلقي هذه التطورات بظلالها على أوضاعنا المتردية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والصحية. فالأخيرة تتصدر قائمة الأولويات في التصدي لوباء كورونا. وللأسف الشديد، أهمل هذا القطاع! وبات معلومًا للجميع مدى هشاشة الأوضاع الصحية بالبلاد، قبيل ظهور الوباء. ما يستدعى شجاعة الاعتراف من قبل السلطات، بأننا لا نملك ما تملكه الدول المتقدمة من الخدمات الصحية، والمستشفيات، والأجهزة الطبية، وغرف الإنعاش أو حتى الكوادر المدربة للتعامل مع مثل هذا الوباء في أرياف البلاد. فلسنا في مقام دول مثل إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا، التي رأيناها تنهار أمام الانتشار السريع للفايروس. توضح هذه الحقائق، حجم المخاطر المحدقة بنا، فالإجراءات الحكومية المتخذة حتى الآن، لم تجد نفعًا في وقف انتشار الوباء، فهي غير كافية. فما أقرته الحكومة ممثلة في لجنتها العليا لمجابهة الوباء، لا تتجاوز صداها قاعات مؤتمراتها الصحفية. رأينا أعضاء الحكومة ذاتها، يخرقون هذه الإجراءات، بعقد الاجتماعات دون التقييد بالمسافة الآمنة. كما رأينا استمرار مظاهر التجمعات العامة.
من الجيد إصدار الأوامر، ولكن يلزم تطبيقها، وفي الوقت ذاته، احترام كرامة الناس. فسمعنا عن التعسف في تطبيق الإجراءات الاحترازية ضد المواطنين البسطاء. مع اعترافنا، باستحالة تطبيق ما بات يُعرف بـ"التباعد الاجتماعي".
هناك أمران رئيسيان يحددان الوضع في البلاد. الأول، استمرار خلافات الشركاء في مسائل استكمال أجهزة الحكم على المستوى القومي أو الولائي، ما يربك العاملين في القطاع الصحي. كما يؤدى إلى تعطيل جهودهم في محاربة الوباء. كذلك، يؤدى عدم إنجاز ملف الترتيبات الأمنية إلى إعاقة تطبيق قرارات الدولة ذات الصلة بالجائحة. فمعسكرات التدريب التي تقيم فيها هذه القوات، إحدى القضايا التي يجب النظر فيها، بعيدًا عن الاختلافات الراهنة. ويبدو واضحًا عدم التوافق على كثير من بنود الاتفاقية، كما جاءت في نصوصها، فالشيطان في التفاصيل كما يُقال. ومع ذلك، يصر ساستنا على إيهامنا باحترامهم للاتفاقية روحًا ونصًا!
الأمر الثاني والأهم، يتعلق بالشق الاقتصادي وانخفاض أسعار النفط عالميًا. فالاتفاقية المُنشطة لم تكن رحيمة بأوجاع الشعب. فمن وضعوا نصوص الاتفاقية لا يمتلكون بعد النظر. فمؤسسة الرئاسة وحدها تستهلك أكثر من ثلثي موارد البلاد، بشخصياتها السيادية الستة، من الرئيس ونائبه الأول، ونوائبه الأربعة الآخرين. إضافة إلى الوزراء الدستوريين، (35) وزيرًا اتحاديًا. بجانب أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، والهيئات الأخرى. هذا ما دون حسبان ميزانيات الولايات وثلاث إداريات بمستوى ولايات من حيث التكلفة المالية. ولك أن تتخيل عزيزي قارئ هذه السطور، تكلفة صرف الأجهزة الحكومية بمستوياتها المختلفة في ظل ما نشهده من وطأة الظروف الاقتصادية. فالمخصصات الدستورية وحدها كفيلة بالتهام إيرادات البترول التي تدخل الخزينة العامة. وذلك دون الحديث عن الصرف على القطاع الأمني ورشاوي السياسيين، فتلك قصة أخرى، يُشيب لها الولدان.
اقرأ/ي أيضًا: وصول باخرة بنزين وغاز طهي للولايات.. والشرطة تعتدي على لجان مقاومة سوبا
إن استمرار اعتماد البلاد على النفط في الخزينة العامة بنسبة تتجاوز (90)%، أمر معيب، في ظل تكرار الحديث عن تنمية الإيرادات غير النفطية. فسوء استغلال عائدات النفط المنتج في البلاد على مدار فترة (2005 – 2020)، أصبح من المواضيع المحرم الخوض فيها، وتسبب في إفساد الحياة العامة، لغياب مبدأ المساءلة والمحاسبة للمسؤولين. بل في الواقع، تسابق الساسة للتكالب على خيرات هذا القطاع، دونما النظر إلى الأبعاد الخطيرة المرتبطة بصناعته وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والصحية. فالأخيرة أضحت الأكثر بروزًا من خلال التقارير، وسط المجتمعات في مناطق الإنتاج التي تشهد كوراث بيئية خطيرة. وبالطبع لا تبالي الشركات الأجنبية العاملة في مجال صناعة النفط في البلاد، كونها تسعى للربح وزيادة رقعة استثماراتها، وهذا حقها، ولكننا نتحفظ على سعيهم إلى الاستثمار في بيئة تعلم هي علم اليقين أنها تساهم في معاناة المجتمعات المحلية التي تعاني جراء هذا التزاوج المصلحي بين نخبنا والشركات النفطية.
إن سوء إدارة الحكومة لمواردنا العامة، طيلة هذه السنوات، إحدى آفات السلطة في البلاد، نتيجة اختلال أولوياتها، والتي جاءت برامجها أول الأمر في اتفاقية نيفاشا، التي دعت إلى الاهتمام بالقطاعات غير البترولية وتنميتها لدعم الخزانة العامة. فبعد كل هذه السنوات، لم تحقق السلطات شيئًا من هذه الأهداف. وفوق كل ذلك، أهدروا موارد البلاد في حروبهم الخاصة، بل قامت الحكومة بتلقي قروض لا نعرف تفاصليها، وأين صرفت. والأسوأ من ذلك، أنها قامت بتوقيع عقود آجلة تكتنفها السرية، لتمويل مشاريع عامة عبر دفع النفط مقابل إنفاذ هذه المشاريع. فلا غرابة في تذيلنا مؤشرات الفساد وفق تقارير منظمة الشفافية الدولية.
آن أوان مراجعة السياسات الاقتصادية الكلية. فالمهم هنا هو الإقرار بأننا سلكنا طريقًا خاطئًا في عدم التنويع الاقتصادي والاعتماد على النفط لإدارة الدولة
تبدو اليوم الصورة في جنوب السودان أكثر قتامةً مما مضى، فمع تأثير جائحة كورونا واستمرار تقلبات أسعار النفط، بات اقتصادنا معرضًا للصدمات. تشير التوقعات بأن يقل الطلب على النفط، من الدول المستورة في الربعين الثالث والرابع من العام 2020 مقارنةً بالعام السابق. فما الذي يجب على قيادتنا تعلمه؟ إذن، أمامنا الآن تحديان رئيسيان. الأول محاربة جائحة كورونا، بدعم القطاع الصحي بالموارد المالية اللازمة، والذي يجب أن يصاحبه أيضًا تخصيص نسبٍ أكبر لقطاع الخدمات العامة، بدلًا من الاعتماد على المعونات الأجنبية. أما التحدي الثاني والذي يتطلب وعيًا أكبر من قيادتنا، هو مسألة التنويع الاقتصادي، وعدم الاعتماد على النفط. فالبلاد تزخر بالموارد الطبيعة الأخرى. إضافة لوفرة الأراضي الزراعية الصالحة، التي يمكن أن تكون رافدًا مهمًا في الإيرادات العامة، إن وجدت الرعاية والاهتمام الكافي من قبل الدولة.
لقد آن أوان مراجعة السياسات الاقتصادية الكلية. فالمهم هنا هو الإقرار بأننا سلكنا طريقًا خاطئًا في عدم التنويع الاقتصادي والاعتماد على النفط لإدارة الدولة. لا بد للسلطة أن تعيد النظر في طريقة إدارة مواردنا الاقتصادية، أولى خطوات الاستقرار، وأن استمرار إهمال التنويع الاقتصادي سيجر البلاد للهاوية.
اقرأ/ي أيضًا:
قوى التغيير توضح خطوات صياغة مشروع قانون مفوضية بناء الأجهزة العدلية
هجوم مسلح على رعاة سودانيين من البقارة يخلف عشرة قتلى ومفقودين