24-ديسمبر-2023
قوة من الجيش السوداني على ظهر مركبة عسكرية

انسحب الجيش من مدينة ودمدني بحسب تصريحات للناطق الرسمي باسم القوات المسلحة (Getty)

ظلت حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل تضمر من الرهانات أكثر مما تعلن، وتخفي من الدوافع والغايات أكثر مما تظهر، وتحجب خلف وقائعها المتواترة حقائقها المتوارية، وتتراوح بين السياسي والعسكري وفعل الميديا والميدان، وتتراكب قضاياها وتتعقد في خضم مفاعيلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وظلالها الإقليمية والدولية. غير أن مسار اضطرابها المضطرد لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن أحداثها المفصلية، بدءًا من حصار قاعدة مروي، ثم اندلاعها بالمدينة الرياضية ثم سقوط معسكر الإستراتيجية ومصنع اليرموك والاحتياطي المركزي وتفجير جسر شمبات. وقبله سقوط عدد من حاميات الجيش في دارفور في نيالا وزالنجي والجنينة، وإحكام الحصار حول الفاشر، وانتقال المعركة إلى ولاية الجزيرة وسقوط حاضرتها ودمدني في غضون (72) ساعة، وانفتاح الأفق أمام احتمالات عديدة ليس أقلها توالي سقوط المدن والحاميات، أو استدعاء نماذج المقاومة الشعبية المتجاوزة لرؤية الجيش في رد العدوان المباشر المتعلق بانتهاكات الحرب وسيل انتهاباتها الممضة، ليس كأثر جانبي وإنما كطبيعة ملازمة ونمطًا مزريًا من الإفقار والتشريد وإهلاك الحرث والنسل.

لماذا ودمدني؟

في حديثه لـ"الترا سودان" رأى المحلل السياسي عباس محمد صالح أن معركة ودمدني مهمة للدعم السريع ليس فقط بما تمثله من وزن اقتصادي وموقع جغرافي فحسب وإنما لرمزيتها السياسية حيث أصبحت مركزًا بديلًا بعد إفراغ الخرطوم من مفعولها وإعطابها بسبب الحرب. ويعتقد عباس أن الانفتاح العسكري على مدني يهدف بشكل رئيس إلى الاستحواذ على الطريق الرابط بين مدني وبورتسودان ومنح الدعم السريع أفضلية تمكنه من خنق الأقاليم الأخرى حتى دون الحاجة إلى عمل عسكري كبير.

محلل سياسي: معركة مدني تستبطن أهدافًا سياسية، سيما للمجموعات المدنية التي تسعى إلى توظيف الزخم الدائر بفعل الصراع لتعزيز شرعية خطابها القائم على تهويل آثار الحرب دون النظر إلى رهاناتها.

ويرجح عباس أن معركة مدني تستبطن أهدافًا سياسية، سيما للمجموعات المدنية التي تسعى إلى توظيف الزخم الدائر بفعل الصراع لتعزيز شرعية خطابها القائم على تهويل آثار الحرب دون النظر إلى رهاناتها. وفي مستوى أعمق يستنكه عباس ثلاث توجهات داخل الدعم السريع: الأول يدعو للسيطرة على كل أقاليم السودان بعد إسقاط مدينة ودمدني على هذا النحو. والتوجه الثاني يسعى إلى ممارسة الضغط على القوات المسلحة من خلال زعزعة استقرار المناطق الواقعة تحت سيطرتها لحملها على التفاوض وتقديم تنازلات في مصلحتها في إطار تسوية سياسية تعيدها كفاعل سياسي وعسكري. والتوجه الثالث يسعى لتغليب منطق الغنيمة والاستفادة من الكسوب المباشرة التي تمثل دافع كثير من العناصر المنخرطة في القتال - بحسب اعتقاد عباس.

ماذا حدث في ودمدني؟

فيما قال الفاعل السياسي وأمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي د. محمد فقيري، لـ"الترا سودان"، إن ما جرى بمدني تقصير واضح من الجيش السوداني إذ ظلت المدينة المهمة منذ أوقات باكرة مقصدًا لعناصر الدعم السريع كما كانت تشير كثير من التقارير، بل وحتى المقاطع المصورة والمبذولة في فضاءات الميديا، إلا أن التقصير يتمثل بشكل أساسي في الاستخبارات العسكرية، وما يمكن أن نصفه بالتراخي الواضح الذي يستدعي مُساءلة ومحاسبة ناجزة. وفي مستوى عاجل -والحديث لفقيري- ينبغي أن يصاحب ما حدث تغييرًا جذريًا على مستوى القيادات الميدانية. وإزاء الإحباط الذي أحدثه سقوط مدني على نحو ما تم، يرى فقيري ضرورة وجود خطاب يتجاوز حالة التقطير الممارس، إلى مكاشفة عامة وإيضاح للحقائق وتبصير الشعب بما يحدث بصورة مباشرة، مع ضرورة إشهار خطاب المعركة ضمن مستوى معركة الخطاب، وتبيان موقف الدولة بجلاء حيال ما يحدث، وتعريف الحرب على نحو واضح، وتأسيس رؤية حول الأهداف والمرامي وسقف المطالب والرهان المتعلق بالدعم السريع، وماذا يراد به؟ هل قضاء مبرم أم إخضاعه للمؤسسة وإدماجه فيها؟ أم ماذا بالضبط!

ويعتقد أمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي أن اللحظة تتطلب خطابًا وطنيًا تطمينيًا، سيما لكثير من الحواضن الاجتماعية التي لم تعد ترى ذاتها الاجتماعية في مرآة الدولة، وأن وجود مشروع وطني متجاوز لمنطق الإثنيات والانغلاق على الهويات الجزئية ومتجاوز كذلك لاستقطابات الحرب واصطفافاتها ضمن السردية المراد إنتاج الحرب على نواظمها وقوالبها بين جيش وكيزان من جهة، ومجموعات مهمشة ترى أن الحقوق تؤخذ بالمغالبة والشوكة. وهذا الخطاب -بحسب فقيري- سينفي في حدوده المباشرة حالة التنميط والتحشيد اليومي للحرب، والمرتبط بالوقائع والفجائع والنزوح وتتغذى من الأسى الواسع والقتل والسلب والنهب.

 من زاوية أخرى يقدّم الصحفي والمحلل السياسي مكي المغربي قراءة مختلفة لما حدث في مدني، وذلك على ضوء مناشدة الإيغاد لطرفي النزاع بعدم توسيع رقعة الصراع، وما ذكره الناطق باسم الخارجية الأمريكي بعدم الاشتباك رغم وجود نحو (15) ألف مقاتل جاهزون للدفاع عن مدني، في مقابل دخول مدني أول الأمر بـ(25) عربة - بحسب إفادة المغربي لـ"الترا سودان"، والذي يرى أن الجيش تعرض لفخ تم نصبه بمكر، مؤكدًا أن اللوم ليس لمن ينصب الفخاخ، وإنما لمن يقع فيها بسبب الغفلة والقابلية للاستغباء. مبينًا أن ما تم لا يمكن تفسيره إلا على هذا النحو: الاستجابة لطلب الولايات المتحدة لتجاوز سيف العقوبات التي باتت هاجسًا حقيقيًا لمتخذ القرار الحكومي.

ثم ماذا بعد ودمدني؟

الكاتب والمحلل السياسي طه النعمان قال لـ"الترا سودان" إن مدني "لن تكون المحطة الأخيرة في المواجهات الدائرة بين الجيش ودعمه السريع الذي تمرد عليه"، بل الأرجح بحسب طه أن تكون المحطة قبل الأخيرة رغم القفزة النوعية التي مثلها سقوطها في مجرى المواجهات المشتعلة. مؤكدًا أنه منذ اندلاع الحرب وصفها البرهان بأنها "حرب عبثية" و"لا بد أن تنتهي بالتفاوض"، وإن بدا رفيقه السابق -يقول طه- أشد ضراوة تجاهه بعد أن طلب رأسه وهو في مهجعه بالقيادة. ومع مرور الأيام والشهور والقوتان العسكريتان في حالة كر وفر، الخاسر الأكبر فيها هو المواطن المستجير من نير الاشتباكات برمضاء النزوح واللجوء. وبدا لجميع المراقبين الدبلوماسيين والمحللين السياسيين أن الحرب "العبثية" لن تنتهي إلى نتيجة عسكرية حاسمة، وبالتالي مدت القوى الدولية والإقليمية موائد التفاوض باعتباره الخيار الموضوعي الأقل كلفة "للزعيمين - الجنرالين" على حد وصف وزير الخارجية الأمريكي بلينكن مؤخرًا. وهو أقل كلفة لهما وللسودانيين وللبلد، لأن بديله هو "الفوضى الهدامة" وليس الخلاقة بحال من الأحوال - على حد قول طه.

ويعتقد طه النعمان أن التعنت والاشتراطات العبثية أيضًا والمخاوف المتبادلة حالت دون إحراز تقدم حاسم تجاه وقف إطلاق النار وصناعة السلام، مما ثبط همم الوسطاء الميسرين في جدة وأديس أبابا حيث الاتحاد الأفريقي والإيغاد، دون أن يفقدوا الأمل لقناعتهم بأنه لا منتصرًا عسكريًا في هذه الحرب، ولعلمهم الجازم -بحسب رأي طه- بأن هناك قوى ثالثة ومهمة ترفض أي حل تفاوضي سلمي للحرب، لأنه سيقوض بالنتيجة مساعيها الحثيثة لاستعادة نظامها "المخلوع" جزئيًا أو كليًا بما يضمن مصالحها السياسية والمادية.

نازحون سودانيون ود مدني
نزح مئات الآلاف من المواطنين من ولاية الجزيرة عقب هجمات قوات الدعم السريع عليها (Getty)

ويرى طه النعمان أن لقيادة الجيش محاذيرها -إن لم يكن رأيها السالب- في حملة الإسلاميين ومشاركتهم الداعية لدعم الجيش ومعركة الكرامة بحسب زعمهم. وهذا ما يفسر بحسب اعتقاده عدم تمكينهم من السلاح والعتاد، وإن لم تمنع حملاتهم اليومية لأنها تعطي لحربهم على الأقل امتدادًا جماهيريًا مدنيًا مطلوبًا.

ويعتقد طه النعمان أن الخطر الأعظم الذي يكتنف السودان يتمثل في اتساع رقعة الحرب وتحولها إلى فوضى شاملة وهدامة تضرب جميع مقومات ومكونات الدولة الموروثة واستقرار السودان وشعبه كوطن واحد كبير ومهم بامتداداته في قلب القارة والمنطقة. ويقدر طه بأن ذلك غير مسموح به دوليًا وإقليميًا، وذلك ربما يشكل دافعًا لابتداع حل سلمي عبر اتفاق لا يذل الجيش والوطن للمحافظة على قوام الدولة كما عبر البرهان في آخر حديث له مع قواته منذ يومين. أما حميدتي -بحسب تحليل طه- فهو يقبل بالتفاوض ويُقبل عليه ولكنه يشترط أن يلتقي البرهان كقائد جيش وليس بوصفه رئيسًا لمجلس السيادة، وهو تحسب أفرزه موقف البرهان منه عندما عزله من منصبه السيادي كنائب له وقراره الرديف بحل قواته "الدعم السريع". ولهذا يريد أن يجلس معه "رأسًا برأس" وليس كمواطن تمرد على رئيس دولته.

وضمن آخر الأخبار وأهمها أتت من وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، والذي قال إنهم حصلوا على موافقة من جانب "الزعيمين - الجنرالين" للقاء يتم بينهما ويقود لوقف إطلاق النار. وهو على كل حال أكثر التصريحات المتفائلة بحل قريب بالرغم من تدحرج كتل اللهب المتوالية وسطًا وشرقًا وغربًا، ونذر الفوضى والنهب والتشريد المتوالية - كما ذكر طه النعمان .

تترى مشاهد لحالة تجييش وتحشيد عام في ولايات بلغتها نذر انقضاض الدعم عليها مثل سنار وكوستي والقضارف وكسلا، لكن بنحو أخص منطقة نهر النيل والشمالية

وفي خضم ذلك تترى مشاهد لحالة تجييش وتحشيد عام في ولايات بلغتها نذر انقضاض الدعم عليها مثل سنار وكوستي والقضارف وكسلا، لكن بنحو أخص منطقة نهر النيل والشمالية التي تجد حظها من الاستهداف الشعبوي في خطاب التهميش المستعار في آليات البث المباشر والمنصات الرقمية بوصفها مركز الاستحواذ ومظانه الأيديولوجية التي أشار حميدتي إلى إحدى تمثلاتها الموسومة بدولة البحر والنهر، وهي تقارب حدًا من أوهام الاتساق لم تبلغه نداءات نفي "الدغمسة" التي لم تقصد لذاتها، وإنما في إطار لعبة السلطة التي تقتضي صنع عدو متخيل وإحكام وشائج الحواضن الاجتماعية والعصبيات الناشئة حول الحكم في أفق لم يتجاوز بعد منظورات ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.

بانر الترا سودان