لا يبدو أن الحكومة السودانية مُهتمة بالسياحة، لدرجة أن توليها ما تستحق، ولذلك لم تجد حرجاً في جمع ثلاث وزارات في واحدة، للتخلص منها، ولتصبح تحت عنوان عريض "وزارة السياحة والآثار والحياة البرية"، ولم تكتف الحكومة بذلك، وإنما جعلت هذه الوزارة تحديداً تحت تصرف جماعة أنصار السنة المحمدية، يتناوبون عليها وزيراً بعد وزير، رغم أن الجماعة تعتقد بحرمة الفن والتجسيد وترى في التماثيل الأثرية مجرد "أصنام"!
الآثار السودانية من تحف وتماثيل غير مسجلة ومحصورة بشكل علمي، وفي حالة ضياعها، أو بيعها لمتحف آخر يصعب استعادتها، وبالأساس ليس هنالك رغبة في استعادتها
كنت دائماً أشعر بالحرج متى طلب مني صديق غير سوداني الذهاب به إلى حديقة الحيوانات، فهو قطعاً لن يصدق أن دولة إفريقية ذات مساحة أسطورية وعشرات الأنهار وغابات ممتدة، لا تتوفر فيها حديقة حيوانات، ولا خدمة سياحية جيدة. كما أن آخر مشهد لحديقة الحيوانات التي كنا نرتادها في صغرنا أزالتها السلطات ومنحتها لعقيد ليبيا معمر القذافي، فأقام عليها برجًا شاهقًا يخلد ذكراه، وبعد سقوط القذافي شعرت الحكومة بالحرج فاستبدلت إسم القذافي من البرج بـ"كورنثيا".
ما تبقى من حديقة الحيوانات بعد إزالتها أوائل تسعينيات القرن المنصرم زرافة يتيمة، كان مصير تلك الزرافة جرها عبر الشوارع إلى متنزه مفتوح، لكنها ما لبثت أن ماتت بعد أيام وهي حزينة، كحال الفيل الذي عانى من الإهمال في المنتزه نفسه فمات منتحراً، هل تصدق أن فيلاً انتحر لأنه لم يعد يطيق أن يعيش بيننا بعد تدمير حديقته؟!
ذات نهار صيفي، دلف عالم الآثار الشهير شارل بونيه إلى بهو متحف الآثار السودانية، وهو يرتدي بدلة رمادية اللون، ويحمل قبعة أنيقة، وعلى وجهه الحليق بعناية رهق التنقيب عن حضارتنا المُهملة، لاحظ الرجل حجارة أثرية وتماثيل مكومة داخل "جوالات" وبعضهم يحاول ترحيلها إلى مكان مجهول، تساءل بونيه وقد ارتسمت عليه علامات الحيرة: ما الذي يفعلونه بهذه الآثار، ومن هؤلاء؟ لم ييبه أحد، لكن اتضح أنهم لصوص في وضح النهار!
اقرأ/ي أيضًا: البلفيدير في تونس.. تاريخ مهمل
كانت مباغتة عابرة تتفرع منها عشرات الاستفهامات، هل لا تزال عملية نهب الأثار السودانية مستمرة؟ لم يكد يمر العام على دهشة بونيه، إلا وقد أعلنت السلطات سرقة شجرة صندل من المتحف القومي، لتلحق بمجوهرات الملكة أماني شيختو، أشهر ملكة سودانية في التاريخ القديم.
وما يؤسف له أننا فقدنا كثيرًا من الأثار، ولا يبدو أن ثمة مشكلة في أن تختفي التماثيل القديمة التي كانت تزين شوارع الخرطوم، فضلاً عن أنه لا تتوفر فرقة خاصة يمكن أن تستعيد آثار السودان المنهوبة، على ما هو الحال في الفيلم الأمريكي الشهير "ذا موني مينت مين"، الذي يشير إلى غزوات أدولف هتلر، حيث سرق الألمان حوالي خمسة ملايين عمل فني من أنحاء أوروبا، وبعد إقرار الهدنة، نجح الحلفاء في استعادتها جميعها. وبالرغم من أن رسالة الفيلم تتجاوز الحادثة إلى وضع الجرس على رقبة القط السوداني، إلا أن ما يحزن صراحة أن الآثار السودانية من تحف وتماثيل غير مسجلة ومحصورة بالشكل العلمي، وفي حالة ضياعها، أو بيعها لمتحف آخر يصعب استعادتها، وبالأساس ليس هنالك رغبة في استعادتها.
المفارقة في أنه يوجد اهتمام عالمي بالأثار السودانية، ومثال ذلك المشروع القطري لترميم الآثار السودانية بتكلفة 135 مليون دولار، إلا أن تلك الجهود لا تكافئها أي همة رسمية، أو حتى شعبية للتعامل مع تدفق السياح واستمالتهم، بل تقابلهم الحكومة بالإجراءات العقيمة والمنفرة، وأحياناً إفساد حقائبهم بطرق الشحن البدائية.
الإعلام السوداني يفتقر للذكاء في الترويج للسياحة والوزارة مشغولة بأعمال روتينية وترتيبات أسفار وزيرها وتصريحاته المجانية
يبدو أنه لا توجد خُطة واقعية وفاعلة للتعامل مع الظروف المتاحة، واستثمارها لجعل السودان أفضل من حيث جذب السياح، ولا توجد حتى رغبة في التعامل مع القضية، الإعلام يفتقر للذكاء في الترويج للسياحة، والوزارة مشغولة بأعمال روتينية وترتيبات أسفار وزيرها وتصريحاته المجانية، والحكومة تجهل أن السياحة هي مدخل مهم للخروج من أزماتها الاقتصادية، وخاصة أزمة النقد الأجنبي، بل حتى إزجاء رسالة سياسية للعالم، بأن السودان ينعم بالأمن والاستقرار بدليل تدفق السياح عليه والتقاطهم الصور والذكريات.
أنظروا لأبعاد الأزمة، والتي تكمن في قرارات صغيرة تفسد كل شيء، وهنا أعني قرار معتمد الخرطوم بإغلاق محلات "الشيشة"، ومنعها في المقاهي العامة. هذا القرار الارتجالي والذي يبدو في ظاهره معنيًا بالآثار الصحية للتدخين، لكنه في حقيقته يثير هلع السياح الأجانب أيضًا، وربما اعتبروا القرار امتداداً لشعارات حركة طالبان في أفغانستان وشرطة حراسة الأخلاق، ولربما الظهور اليومي لحملات الشرطة المحلية ومطاردتها للباعة و"ستات الشاي" يعزز ذات الظنون، بخلاف أنه يقدم إشارة سالبة، بأن الدولة تستخدم سلطة المنع بإفراط، وهنا لا أعني محلات الشيشة ولكن حتى إهمال شارع النيل كمزار سياحي وإغلاقه في وجه المارة كما حدث مؤخراً، ومراقبة الأزياء وانتقاء رخص الحفلات وتنويم الخرطوم بالقوة كأنها طفلة صغيرة.
اقرأ/ي أيضًا: سواكن السودانية.. محطة جديدة لحروب الإمارات لاستعمار موانئ البحر الأحمر
واقع السياحة لا يبدو مبشراً، وما يحدث للسياح في الأقاليم أمر مزعج، وفيه عدم احترام لآدميتهم، حيث تفتقر تلك الأقاليم التي تتواجد فيها الأثار إلى خدمات وفنادق تليق بالضيوف، وسيارات نقل مريحة، وحتى خدمة الأنترنت والاتصالات رديئة، ما يجعل السياح يشعرون بالانقطاع عن العالم، والتعامل مع ظروف غير طبيعية، وهنا تتحول متعتهم ورغبتهم في الاستجمام إلى كابوس مريع، لا يتمنى شخص عاقل في هذه الدنيا تجربته، وتنتهي الرحلة إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.
بلا مواربة يمكن القول إن المعاملة الطيبة تبدأ في المطارات، من خلال تسهيل إجراءات الدخول، وإشهار الابتسامات المضيافة، وتوفير احتياجات السياح وتأمينهم حتى لا يتعرضوا للاحتيال، والتفكير بصورة إيجابية في ما يميز السودان، من مناظر ومحميات طبيعية، وسواحل مأهولة بالشعب المرجانية للغوص، لأن أمزجة السياح تختلف، فثمة من تشدهم المناظر الطبيعية، وثمة من يبحثون عن الحيوانات النادرة، وهناك أيضاً هواة الصيد البري.
علاوة على كون الهدف في النهاية من اجتذاب السياح الأجانب هو العملة الأجنبية التي بحوزتهم وحملهم على إنفاقها برضاء تام، إلا أن ما يحدث صراحة هو أن السياح الأجانب ينتقلون بذات النقود التي يحملونها لإنفاقها في دول أخرى مثل مصر ولبنان وإثيوبيا، فيصبح السودان مجرد محطة عبور، وترتسم في ذاكرتهم انطباعات سوداوية للأسف الشديد.
اقرأ/ي أيضًا:
هل يمهد هولاند لـ"امتلاك" آثار العراق وسوريا؟
تقارير دولية: آثار مصر تباع بالقطعة للإمارات لتستقر في لوفر أبوظبي