في بيئة سياسية موصومة بالهشاشة، وضمن سياق بالغ التعقيد، انعقد بالعاصمة المصرية، أمس الأربعاء، أضخم اجتماع من نوعه منذ اشتعال حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل، ضم قوى مدنية وتنظيمات سياسية وحركات مجتمعية بلغت في مجملها (48) من التنظيمات والأجسام السياسية، وخرج الاجتماع بالتواضع على رؤية حول معالجة الأزمة الوطنية المتفجرة، ووضع حد فاصل للصراعات والحروب في السودان.
قوى ميثاق السودان أكدت على ضرورة إصلاح القوات المسلحة ودمج كل الحركات في جيش بعقيدة موحدة مع تغليب خيار السودانيين في الحكم المدني الديمقراطي، وإحداث التنمية وإنفاذ قيم العدالة والمواطنة المتساوية
ميثاق السودان
الوثيقة المسماة: "قوى ميثاق السودان: رؤية القوى السياسية والمدنية لإدارة الفترة التأسيسية الانتقالية"، أكدت على ضرورة إصلاح وتطوير وتحديث القوات المسلحة، ودمج كل الحركات في جيش مهني قومي بعقيدة عسكرية وطنية موحدة تعكس التنوع الهائل للاجتماع السوداني، مع تغليب خيار السودانيين في الحكم المدني الديمقراطي، وإحداث التنمية المتوازنة والمستدامة، وإنفاذ قيم العدالة والمواطنة المتساوية.
وشددت الوثيقة على توافق القوى السياسية والمجتمعية حول عملية الإصلاح للدولة والمجتمع عبر حوار داخلي لا يستثني إلا من ثبت فساده وإجرامه ببينات قضائية قاطعة لا يتطرق إليها النقض، وحق الجميع في فرص التقاضي العادل أمام القانون، وتفعيل آليات العدالة بكل وجوهها ومستوياتها.
ودعت الوثيقة إلى الالتزام التام بمقررات إعلان جدة وخروج الدعم السريع من مساكن المواطنين ومرافقهم والأعيان المدنية كأساس متين لتهيئة الظرف وإنفاذ برامج الغوث الإنساني.
حرب على مصر
واعتبر الدكتور جبريل إبراهيم قائد حركة العدل والمساواة خلال كلمته، أن ما حدث من اصطفاف وطني كبير تحت عنوان الميثاق الوطني له ما بعده، وأن مجرد الاجتماع والتوافق في دولة مصر "يرسل رسائل قوية للقوى الإقليمية والمحاور المتربصة بالسودان والمتآمرة عليه"، بحسب تعبيره، مؤكدًا أن الفاعلين الداخليين المندرجين في "المخطط الشرير" محض أدوات مرحلية ستفنى مع انتهاء دورها "المرسوم بدقة"، ذاكرًا أن "الهدف الإستراتيجي للحرب الراهنة هو القضاء على مصر وعزلها عن محيطها الحيوي وتفكيك الجيش السوداني الذي ظل حليفًا رئيسًا لمصر على اختلاف الحقب السياسية"، حد قوله.
ثمن قائد حركة العدل والمساواة ووزير المالية جبريل إبراهيم الدور الذي تقوم به مصر في دعم القوات المسلحة والدولة السودانية
جبريل الذي يشغل منصب وزير المالية بالحكومة القائمة في بورتسودان، ثمن الدور الذي تقوم به مصر في دعم القوات المسلحة والدولة السودانية باعتبارها أقوى مظان السيادة الوطنية في السودان. ودعا الوزير في مختتم كلمته، القوى الموقعة على الميثاق إلى إنزاله إلى أرض الواقع والذهاب به لمزيد من التشاور والتحاور حول الآليات وبرامج العمل في بورتسودان والمناطق الآمنة "التي تزداد رقعتها"، بحسب وصفه.
الفشل النخبوي
من جهة أخرى أكد الجنرال مني أركو مناوي، قائد حركة تحرير السودان وحاكم إقليم دارفور، على أن الحرب الراهنة تمثل في إحدى تجلياتها ذروة الفشل النخبوي في إنجاز حل بنيوي للأزمة الوطنية المزمنة والمتطاولة منذ الاستقلال في السودان، وأن ما جرى من تعثر في مسار الانتقال في أعقاب ثورة ديسمبر سببه "ضيق الأفق السياسي وتضاؤل الجهود التأسيسية إن لم يكن انعدامها"، قائلًا إن ذلك يظهر بشكل جلي في "إبدال تمكين اليمين بتمكين اليسار" عوض تحقيق توافق حد أدنى بين قوى السودان الفاعلة وأصحاب المصلحة في التغيير الذي مثلت ديسمبر عروته الوثقى بما رفعته من مطالب بضرورة حكم القانون ومنح كل السودانيين فرص عادلة في العمل والتجنيد والتنمية والتقاضي والسفر والسكن والتملك والحصول على الخدمات الصحية والتعليمية وتأسيس نظام سياسي راشد وعقد اجتماعي يجمع كل المكونات في إطار وطن يسع الجميع.
وقال مناوي إن أي حل لا يضمن عودة اللاجئين والنازحين إلى بيوتهم وحواكيرهم وقراهم ويعيد منهوباتهم وأصولهم ويعوّض الخسائر الهائلة التي حدثت بموجب الحرب، لا يعول عليه، مقترحًا إجراء حوار دستوري بأوزان صفرية يشمل جميع القوى باستثناء الفسدة والمجرمين.
نقد الوثيقة
ويرى محمد الواثق أبوزيد القيادي بحزب المستقبل في إفادة خص بها "الترا سودان"، أن الوثيقة المطروحة تعتبر في بعض الجوانب خلاصة عمل حثيث وجهد حقيقي بُذل في سياقات مختلفة، ولكنها مع ذلك لا تخلو من التباسات وتحتاج إلى استجلاء وتطوير فهي من مقدمتها وحتى فقراتها الأولى تتسق مع الخط الوطني الداعي والداعم لمشروع السيادة والوطنية والجيش في معركته ضد مشروع ابتلاع الدولة، وبرغم صياغتها الدستورية في إحكامها وصرامتها التعبيرية -والحديث لأبي زيد- إلا أنها وقعت في التباس واضح بخصوص شكل ومستويات الحكم ما بين الفدرالي والإقليمي بأثر من تشوهات الممارسة الحالية. أمر آخر نوّه له الواثق متسآئلًا حول ما هي مرجعية الميثاق؟ مستنكرًا أن تكون المرجعية هي الوثيقة الدستورية التي انبثقت في سياق معين ضمن شروط وظروف معينة تجاوزها الواقع.
وبخصوص ربط التسوية السياسية بقضية إيقاف الحرب، يرى القيادي بحزب المستقبل أنها تتناقض مع سبل إنهاء الحرب المعلنة سواء بالتفاوض العسكري بين القوى المتصارعة ومعالجة المسار الإنساني أو عبر الحسم العسكري مع ضرورة فصل الحوار السياسي عن التفاوض. ويعتقد الواثق أن ثمة تداخل جرى حول إقرار الحوار السوداني – السوداني وطرح المؤتمر الدستوري مع الاستمرار في إفراد الأقاليم المأزومة بمسارات مخصوصة في مناقشة قضاياها، وهو أمر يرى أنه لم يعد مناسبًا في سودان ما بعد حرب الخامس عشر من أبريل بعد أن تساوى الجميع في الدمار والحرب. وبحسب الواثق، فإن خللًا منهجيًا بدا واضحًا في عملية اجتراح الحلول المناسبة، وكان يمكن تداركه بمزيد من الحوار والإثمار. معتبرًا أن الإحالة إلى اتفاقية جوبا لسلام السودان، وكذلك مسار الشرق، لن يكون مناسبًا بعد قيام المؤتمر الدستوري.
القيادي بحزب المستقبل محمد الواثق أبوزيد: اقتراح مجلس سيادي هجين ثبت فشله في التجربة السابقة
ويعتقد محمد الواثق أن اقتراح مجلس سيادي هجين ثبت فشله في التجربة السابقة، وأن الرؤية المناسبة إما بتكوين مجلس سيادي مدني صرف إلى جانب مجلس للدفاع والأمن، أو إحالة الوظائف السيادية لمجلس سيادي من العسكريين مع رد الشأن التنفيذي لمجلس وزراء مدنيين مستقلين في إطار الحكم الانتقالي.
ويعتقد الواثق أن استتباعًا جرى في الجانب الإجرائي لكتل رئيسة قدمت رؤى وازنة ولم تنل حظها في التمثيل. مقرًا بصعوبة ضبط الأوزان بلا عملية ديمقراطية، ومؤكدًا في الآن نفسه أن الصراع وحمأة التنافس أسهمت في تأخير هذه الخطوة إلى أكثر من ثمانية أشهر.
وحول مكان انعقاد المؤتمر، ذكر أبوزيد أن القاهرة هي أنسب مكان خارج السودان، بيد أن أفضل مكان لانعقاد هذا الجمع هو السودان الذي ضم المحاولات الأولى في أركويت. وقال: "أيًا يكن من شيء فإن مجرد إنجاز الملتقى يعد خطوة مهمة لا تغني عن إنفاذ ما اتفق حوله بالضرورة، مع أهمية تطوير الميثاق بما يحقق ما هو أعلى من الحد الأدنى، وذلك نظرًا للتوافق الكبير الذي حدث لكثير من القوى السياسية والمدنية والمجتمعية في مرحلة ما بعد الحرب"، بحسب تعبيره.
إخفاق إجرائي
وفي إفادة خاصة لـ"الترا سودان"، ذكر القاسم عبد الله الظافر، الأمين العام للحركة الوطنية للعدالة والتنمية، أن ما تم من توافق حول الرؤية والخطاب والأفق العام من كتل سياسية واجتماعية وقوى مدنية وحقوقية ومنظمات ومراكز دراسات وبحوث - كل ذلك لا يغني عن التحديات المنظورة في مرحلة التأطير العملي. مشيرًا إلى إخفاق إجرائي واضح لازم عمليات الترتيب والتنسيق، وأن المؤتمر على أهميته منجزه في الخروج بوثيقة الميثاق والتواضع حول الرؤية الوطنية، انطوى على كثير من نقاط الضعف الإجرائية، وكان في الإمكان أفضل مما كان.
القاسم الظافر: الكتل السياسية لم تُمثل بشكل موضوعي في لجان تنسيقية فاعلة
وأشار الظافر إلى أن الكتل السياسية "لم تُمثل بشكل موضوعي في لجان تنسيقية فاعلة". وقال: "التحدي كامن في تحويل الوثيقة إلى برامج عمل وآليات تنفيذية والذهاب بها إلى غاياتها في بيئة سياسية متعارضة ومحكومة بأقدار التنافس الإقليمي والدولي ومساحات مناورة ضيقة للفاعلين المحليين".
تواثقٌ تاريخي
وأكد دكتور محمد فقيري، أمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي، أن تواثق الطيف السياسي السوداني في لحظة مشحونة بظلال الحرب يُعد بلا مراء "منجزًا مُقدرًا"، واصفًا إياه بأنه "اتجاه صحيح" يمكن استكماله والبناء عليه. وأضاف: "البديل هو تمدد البغضاء وإحاطة الفراغ والعيش في غيبوبة التاريخ".
أمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي: التقاء القوى الوطنية ومناقشتها بشكل معمق للأزمة السودانية أمر لا يحدث كثيرًا
وذكر فقيري أن التقاء القوى الوطنية ومناقشتها بشكل معمق للأزمة السودانية "أمر لا يحدث كثيرًا"، وأنه حين يحدث لا تتنزل أحكامه إلى وعثاء الواقع، وأن تاريخ الاتفاقيات في جزء منها هو تاريخ نقض عهودها ومواثيقها، لكنه عاد وأكد أن ما ورد من اعتراضات حول مكان انعقاد المؤتمر وأجندته السياسية وحتى انتقاد رؤيته لا يمكن أن يقلل من أهميته، سيما في ظل التحولات المتسارعة إقليميًا ودوليًا.
ثم ماذا بعد؟
وعلى أهمية ما حصل من توافق وتواثق بين كتل رئيسة، هي الكتلة الديمقراطية والحراك الوطني والتراضي الوطني، حول رؤية مستقبل ما بعد الحرب، فإن المواقف لم تزل متباعدة مع الضفة المقابلة التي تحوي تفاهمات مهمة حدثت بين تنسيقية القوى المدنية "تقدم" وقوات الدعم السريع في أديس أبابا لم يتمخض عنها شيء يذكر على صعيد إيقاف الحرب أو حتى تقليل حدتها واحتدامها. ورغم ظلال السياسة على الميدان، إلا أن ما يشكله أزيز الرصاص وشواظ المدفعية الحارقة أوقع من المواثيق التي تخطها نخب ما بعد الاستقلال وهي تقرأ مقاربتها للحل في سياق امتيازاتها التاريخية ومصالحها الاستحواذية في السلطة والثروة، وإنتاج بيئة صراعية تَخَلّق من وميض جمرها ضرام الحرب، بحسب آراء متواترة . وعلى أهمية التفاهمات التي تجري بين الأحلاف، فإنها لا تغني عن التقاء الفرقاء بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا!