وضَعَ بيان الجيش السوداني الصادر في ساعة متأخرة من ليلة أمس بشأن تحركات الدعم السريع (أو انفتاحها، بلغة الجيش) على الخرطوم وبعض المدن – وضع السودانيين والمراقبين الإقليميين والدوليين على حافة القلق والترقب.
لعلها المرة الأولى التي يتعالى فيها صوت الجيش بهذه الحدة إزاء التحركات العسكرية لقوات الدعم السريع
لعلها المرة الأولى التي يتعالى فيها صوت القوات المسلحة السودانية بهذه الحدة إزاء التحركات العسكرية لقوات الدعم السريع.
ولم يفلح حتى التوضيح الاستباقي لقوات الدعم السريع وتأكيدها –الذي كذّبه بيان الجيش لاحقًا– على أنها تعمل وتتحرك بـ"تنسيق وتناغم تام" مع قيادة القوات المسلحة وبقية القوات النظامية الأخرى – لم يفلح في التخفيف من حدة البيان.
من الواضح أن قيادة الدعم السريع لم تكن تتوقع أن تبلغ ردة فعل الجيش هذه الدرجة من السفور، وإلا لما تسرعت بالتصريح بما سيكذّبه الجيش خلال ساعات.
وأن يدق الجيش "ناقوس الخطر" –وأنا هنا أقتبس من بيانه– ويقول إن انفتاح الدعم السريع على بعض المدن "يخالف مهامها ونظام عملها، وفيه تجاوز واضح للقانون"، ويحذّرَ –على الملأ– من أن استمرار هذه التحركات "سيؤدي حتمًا إلى المزيد من الانقسامات والتوترات التي ربما تقود إلى انفراط عقد الأمن في البلاد" – يعني أن التوترات بلغت حدًا بعيدًا بين طرفي المكون العسكري المتنازعيْن على السلطة في السودان.
لم تفلح تطمينات الجيش وإشارته إلى عدم انقطاع محاولاته لإيجاد "الحلول السلمية" لتجاوزات الدعم السريع ولا تأكيداته على حرصه على "الطمأنينة العامة" وعدم رغبته في نشوب "صراع مسلح يقضي على الأخضر واليابس" – لم يفلح كل ذلك في التخفيف من حدة البيان وخطورته.
كل هذه الشواهد، إلى جانب التكهنات بأن دوافع تحرك الدعم السريع وتمركزه بالقرب من مطار "مروي" شمالي السودان هي تحسّب لأيّ تحرك عسكري ضدها من المطار، حيث راجت أنباء عن تمركز قوات عسكرية مصرية لإمداد الجيش حال نشوب صراع بين الطرفين (نفاها الجيش في بيان سابق) – تقول إن الأمور قد تخرج عن السيطرة ويتحول الصراع المحموم على النفوذ والسلطة بين الرجلين إلى نزاع مسلح وحرب أهلية "تقضي على الأخضر واليابس" – كما عبر بيان الجيش بفصاحة مخيفة.
وأخطر ما في بيان الجيش هو تعريضه بالقوى السياسية وتحذيره من "مخاطر المزايدة بمواقف القوات المسلحة الوطنية" – التحذير الذي لم يمنعه من الوقوع في فخ المزايدة بالأرواح التي قال إن الجيش قدّمها رخيصةً في سبيل استقرار الوطن وأمنه.
استقبل معظم الثوار أنباء التوترات بين الجيش والدعم السريع بسخرية طافحة بالمرارة، وكأن الأمر لا يعنيهم.
وعلى خطورة ما تشي به هذه التطورات من عسكرة كاملة للحياة السياسية في السودان، لم يصدر بعْد تصريح رسمي من القوى السياسية المدنية في السودان يحمل موقفًا واضحًا من الأزمة الأمنية في البلاد.
خيبة الأمل في الجيش بعد مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، وتصاعد خطاب "الجيش جيش الكيزان" الذي غذى الساحة الثورية بشعارات جذرية ضد الجيش، وتلاشي الثقة في الجيش وسط معسكر الثورة – كل ذلك قاد إلى حالة الجمود واللامبالاة التي تعاملت بها قوى الثورة مع إرهاصات الحرب بين الجيش والدعم السريع.
وعلى وجاهة القول بأن الصراع بين قيادات الجيش والدعم السريع هو صراع على السلطة والنفوذ لا على مصلحة الوطن ناهيك بالتحول المدني الديمقراطي، إلا أن الوقوف موقف الحياد السلبي من هذه المعركة أو الانحياز إلى الطرف الخطأ قد يكلف هذا البلد المثخن بالجراح فوق ما يحتمل ويئد أحلام شعبه وتطلعاته إلى الحرية والسلام والعدالة.
وإن كان مفروغًا منه وقوف الجيش –بقياداته الحالية– حجر عثرة أمام طريق التحول الديمقراطي في السودان، إلا أن ما يمثله وجود مليشيا مسلحة –بل إقطاعية أسرية، بالأحرى– من تهديد لبقاء الدولة السودانية، من بديهيات المنطق السياسي وأبجديات العلوم السياسية.
من المهم بالتأكيد الدعوة إلى التهدئة، وحث الأطراف العسكرية على حل خلافتها بالحوار في إطار مشروع وطني لتمدين الحياة السياسية وإخراج المؤسسة العسكرية من الصراع السياسي، ولكن يجب ألّا تغفل القوى المدنية عن حقيقة أن وجود مؤسسة عسكرية تحتكر العنف –مهما يكن الموقف منها– من شروط الدولة الحديثة.
الجيش –مهما بلغ من التردي والانحطاط المؤسسي والمهني– مؤسسة في نهاية المطاف، ويمكن إصلاحه على كلفة هذه العملية، لكن وصول حميدتي –بكل تاريخه الدموي– إلى رأس السلطة بقوة الدعم السريع، سيجعل من مطالب الحرية والديمقراطية ترفًا فكريًا إن لم يُعجّل بانهيار الدولة السودانية.
يجب أن تتصدر مطالب دمج الدعم السريع وكل الجماعات المسلحة في الجيش –وفق أسس فنية وموضوعية وفي إطار تسوية سياسية شاملة– لبناء جيش واحد قومي ومهني يعبر عن التنوع الاجتماعي في السودان، وإصلاحه ليذود عن الوطن وشعبه ويحمي الدستور والقانون – يجب أن تتصدر أجندة القوى المدنية الحريصة على التحول الديمقراطي في السودان.
إنّ الخروج من مأزق الخيارات المريرة هذه وتأمين الانتقال من خطر الحرب الأهلية وانهيار الدولة السودانية، يتطلب عملًا جديًا يتجاوز التكتيكات السياسية والتحالفات السلطوية الضيقة إلى رحاب العمل المؤسسي وتعزيز البناء القاعدي الديمقراطي لتنظيمات السكن والعمل، وبناء قاعدة اجتماعية واسعة ذات مصلحة مباشرة في التحول الديمقراطي في السودان.