طوال الفترة الماضية، كان الجدل محتدمًا عن المسوّغات المنطقية والمبررات الموضوعية والأخلاقية التي تمنع السودان من تطبيع علاقاته مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لتقابلها حجج ومسوغات دعاة التطبيع، في نقاش سياسي ومنطقي وأخلاقي وديني، كلا الفريقين يدعم حُجّته ويتمرس خلفها.
تحول نقاش التطبيع من المبادئ السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية، إلى الحديث حول المقابل المالي
الملاحظُ هذه الأيام؛ تحوّل الحديث عن تطبيع السودان مع إسرائيل من تلك المسوّغات المنطقيّة والمبررات الموضوعية على ضعفها وتهافتها ولا أخلاقيتها، إلى كم سننال من مليارات مقابل التطبيع؟ وهل هذا الثمن يستحق أم لا؟
اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية في سياق أوسع
منذ تاريخ اللقاء الذي جمع رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في فبراير الماضي، بعنتبي اليوغندية، برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، لم يتوقّف النقاش في السودان عن التطبيع ولم يهدأ. وإنْ كان يدور في البداية، وحول الظلال السياسية والدينية والأخلاقية لقرار تطبيع العلاقات مع إسرائيل. نقاشات لم تستثنِ أحدًا، الحكومة الانتقالية، الإعلام، الحاضنة السياسية لقوى الحرية والتغيير، الجماعات الإسلامية.
في السابق، وبالرغم من اختلافات الآراء بين الحكومة فيما بينها، دع عنك الكيانات السياسية التي تُمثّل الحاضنة السياسية لها –تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير-. وكذا تلك التي ليست على اتفاقٍ معها. لكن ظلّ أساس الخلاف سياسيًا، ومرتبط بالقضايا القانونية والأخلاقية والدينية للتطبيع، قبل أنْ ينحدر هذه الأيام، إلى "كم ستدفع لنا الولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل، أو حتى الدول التي تُساند وتُسوّق للتطبيع في المنطقة العربية، مثل السعودية والأمارات العربية المتحدة، مقابل موافقة الحكومة الانتقالية في السودان على تطبيع علاقاته مع إسرائيل".
أمرٌ آخر مثير للدهشة والاستغراب، هو ما يشبه الترحيب والموافقة على التطبيع لدى قطاع واسع من مناصري الحكومة الانتقالية، برغم إعلانها أكثر من مرة أنها غير مخولة للبت في هذه القضية، حيث يجري الترويج بشكل واسع للتطبيع في السوشيال ميديا وفي الملتقيات العامة، وتجمعات المواطنين، أو بقية المجالات الأخرى. إذ تبدو حالة الحماس من البعض للتطبيع أمرًا غريبًا وليس له مبرر أو مسبب واضح.
ربما كان السبب لدى البعض من دعاة التطبيع هو موقفهم من النظام السابق، الذي كان يتخذُ من القضية الفلسطينية ومعاداة اسرائيل، واحدة من وسائل دعاياته التي يستخدمها توسلًا للترويج لسياساته. وكما أسقط السودانيون نظام الإنقاذ، أسقطوا بالتالي كل مواقفه، لكن هذا لا يعفي السياسيين والثوار السودانيين عن حقيقة أن التطبيع يعني الانحياز إلى صف الجانب الخاطئ من التاريخ، إلى جانب الاستبداد والظلم الذي رفضته ثورة السودانيين.
لكن الواقع العملي يثبت أنّ حكومة النظام البائد في السودان، غازلت إسرائيل والكيان الصهيوني أكثر من مرة وبشكل علني، ففي سنوات حُكمه الأخير، وقبل سقوطه المدوي، أعلن النظام البائد إمكانية إقامة علاقات مع إسرائيل، بسبب الضائقة الاقتصادية والسياسية أمسكتْ بتلابيبه حتى الآخر. فعل قادة النظام البائد ذلك، في محاولة منهم لفك العُزلة عن حكومتهم، وتخفيف الخناق من حوله. بل إنّ قيادات من الصف الأول في حكومة النظام البائد صرّحتْ بإمكانية التطبيع، وبأنّه ليس لدينا ما يمنع ذلك.
التسريبات التي ظلتْ تخرجُ بين الفينةِ والأخرى؛ مثل ما كشفت عنه فورين بوليسي، تقول بأنّ تطبيع السودان لعلاقاته مع إسرائيل واقعٌ لا محالة، فقط هي مسألة زمن لا أكثر، حتى يتم. كما تُشير بتفاصيل كثيرة، عن المطالبات المليارية من جانب السودان. أو العرض المالي الذي تقدمتْ به الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها إسرائيل والسعودية الأمارات العربية المتحدة مقابل الموافقة على التطبيع.
طالب السودان بأربعة مليارات دولار، تُدفع مباشرة، بجانب مساعدات للحكومة السودانية لتتجاوز عقبتها الاقتصادية
وبحسب الأخبار التي رشحت، عن لقاء وفد السودان بوفد الولايات المتحدة الأمريكية، بشأن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكذلك تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل؛ فإنّ غالب المفاوضات من الجانب السوداني كانت عن المقابل الذي سيتلقاه السودان حال الموافقة على تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية. حيث ذكرت تلك المصادر، أنّ السودان طالب بثلاثة إلى أربعة مليارات دولار، تُدفع مباشرة، بجانب مساعدات للحكومة السودانية لتتجاوز عقبتها الاقتصادية، ما بعد حكومة الرئيس السابق عمر البشير.
مطالبات الحكومة الانتقالية شملتْ بجانب المساعدات المالية، مساعدات إنسانية، وتعهدات من الولايات المتحدة الأمريكية، والأمارات العربية المتحدة، بضرورة تقديم مساعدات اقتصادية للسودان خلال السنوات الثلاث المقبلة، هي عمر الفترة الانتقالية في السودان. هذا بجانب تأكيد من الإدارة الأمريكية، ليس على إزالة اسم السودان فقط من قائمة الدول الراعية للإرهاب فحسب، وإنما التأكيد على حصانة الحكومة السودانية من عدم الملاحقة القضائية في قضية تفجير المدمرة كول والسفارتين، مستقبلًا.
العديد من دعاة التطبيع مع إسرائيل يروجون له بمبررات اقتصادية محضة. مستغلين ما تمر به البلاد من أزمة اقتصادية وضائقة معيشية عقب سقوط البشير، وأنه بعد مرور عام على الفترة الانتقالية، ما تزال المشكلات الأساسية لمعاش المواطنين في مأزق. وآخرين يردوا بلا مبالاة أنهم لم يجدوا في الخطوات التي أقدمت عليها بعض الدول في التطبيع مع إسرائيل مثل البحرين والأمارات، أية حمولات حرجة. سواء أن كان ذلك في الإقليم، أو عند شعوبهم، أو حتى في الجامعة العربية التي لم تستصدر بيانًا مؤيدًا أو ناقدًا لهذه الخطوة من كلا الدولتين، وهي حجج ومبررات واهية وغير موضوعية، فهي لا تقدم نموذجًا لدولة كانت تعاني أزمة اقتصادية وخرجت منها بعد التطبيع مع إسرائيل وتعمي عيونهم عن نماذج إرتيريا وجيبوتي وجنوب السودان الغارقة في أزماتها برغم التطبيع، هذا بالطبع بخلاف المأزق الأخلاقي الوخيم الذي يحشر فيه دعاة التطبيع أنفسهم وهم يروجون الفرية تلو الأخرى.
في كل الأحول، تبقى مقايضة القضية الفلسطينية بالمال أمرًا مؤسفًا جدًا يرقى لمقام الفضيحة
لكن في كلا الحالتين، فإنّ تحول النقاش بشأن التطبيع من عدمه، من خانة الأخلاقي والسياسي والديني والإنساني، إلى ما هو المقابل المالي الذي سيدفعه الآخرون للسودان مقابل موافقته على التطبيع مع إسرائيل ومقايضة القضية الفلسطينية، لهو أمر مؤسف، ويرقى إلى درجة الفضيحة. كما هو مؤسف أنّ مسألة التطبيع تجاوزت تمامًا خانة المناقشات في سياقات المنطق، أو الدين، أو السياسة والأخلاق، وحتى التاريخ النضالي الإنسانية والمصير المشترك. وانحدرت –بكل وقاحةٍ- إلى كم تدفعوا لنا مقابل أن يقبل السودان تطبيع علاقاته مع إسرائيل؟ هذا موقف مؤسف حقًا ولا يمت إلى ثورة الحرية والسلام والعدالة بصلة.
اقرأ/ي أيضًا