19-يوليو-2022
محمد وردي

محمد عثمان وردي.. فنان أفريقيا الأول

في التاسع عشر من  تموز / يوليو عام 1932 وفي منطقة صواردة أكبر عموديات "السكوت" التي تتبع إداريًا لمدينة وادي حلفا وُلد محمد عثمان محمد صالح وردي.

اليوم يكمل الفنان السوداني محمد وردي الذي يطلق عليه البعض "أطول نخلات السودان" تسعين عامًا، قضى ستين منها مغنيًا، بأكثر من ثلاثمائة عمل خاص، ما أتاح له أن يكون "ملك ملوك القارة".

تغنى محمد وردي لأكثر من (14) شاعرًا، لكن الراحلان إسماعيل حسن ومحجوب شريف كانا الأوفر حضورًا في أغنيات وردي العاطفية والثورية

انسابت صوت أغنياته من داكار وحتى أسمرا. ورقصت القارة الأفريقية على سلم وردي السوداني ما دفع البعض إلى أن يطلق عليه لقب فنان أفريقيا الأول.

في أواخر العام الماضي، انطلقت فعاليات من أجل أن يكون عام 2022 عام وردي. وفي 25 تموز/ يوليو  2021، دشن رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك مشروعًا لتخصيص عام 2022 كعام للمهرجانات والفعاليات الفنية والثقافية احتفاءً بالموسيقار الراحل محمد وردي الذي يُعد الفنان الأكثر تأثيرًا في الوجدان السوداني. عُرف وردي بمزجه بين ثنائية الغناء العاطفي والثوري وما يزال يشكل مصدر إلهام للسودانيين على الرغم من مرور (10) سنوات على رحيله المرّ.

قال حمدوك مخاطبًا حفل تدشين "مشروع عام وردي" بقاعة الصداقة بالخرطوم إن وردي حمل لواء الأغنية السودانية التي صدح بها كل العالم، وكان مبشرًا بالسلام وبسودان جديد. وأضاف: "عرفنا وردي فنانًا رائعًا وقف مع الحرية والديمقراطية".

وعلى مدى (60) عامًا، جسدت أغنيات محمد وردي التي تقدر بنحو (300) أغنية – جسدت حضارة السودان على نطاق واسع، ووجدت قبولًا فنيًا في مختلف بقاع السودان حتى في جنوب السودان بعد الانفصال؛ حيث ما زالت تبث عبر تلفزيون دولة جنوب السودان وتباع تسجيلات أغانيه على قارعة الطريق.

https://t.me/ultrasudan

اعتاد السودانيون على استقبال كل عام جديد بصوت وردي وهو يصدح بنشيد الاستقلال "اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا"، ذات الأغنية التي صدح بها وردى في إستاد جوبا على شرف الاحتفال باستقلال جنوب السودان في العام 2011 مضيفًا عليها "أبدًا ما هنت يا سوداننا يومًا علينا". ما دفع نائب رئيس الحركة الشعبية ياسر عرمان إلى صف وردي بأنه في الواقع "أكثر من فنان" ويحمل مشروعًا وطنيًا كبيرًا. ويوضح ياسر عرمان القيادي بالحركة الشعبية شمال قائلًا "عندما شارك وردي في حفل استقلال جنوب السودان في العام 2011 كان حزينًا على انفصال الجنوب وجسد ذلك من خلال تغنيه بأغنية: أبدًا ما هنت يا سوداننا يومًا علينا".

وأضاف عرمان في تصريحات نقلتها عنه قناة "سكاي نيوز" عام 2012 أن حب الجنوبيين لوردي دفعهم إلى المطالبة بالاحتفاظ بعلم السودان والموسيقار محمد وردي، تقديرًا لجهوده في توحيد شعبي دولتي السودان وجنوب السودان.

في ذكرى ميلاد الفنان محمد وردي التسعين، يقول وزير الثقافة والإعلام السوداني السابق فيصل محمد صالح  لـ"الترا سودان" إن وردي ظل يمثل رمزًا وقيمةً شامخةً على مدى ستة عقود. ويضيف فيصل: "اختلف السودانيون أحزابًا وشيعًا وطوائف واتجاهات وقبائل، لكنه كان من الرموز القليلة التي لم يختلف حولها الناس". ويتابع: "هوت إليه أفئدتهم شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وهو شموخ لم يبلغ قدره السياسيون والحكام والزعماء".

تغنى محمد وردي لأكثر من (14) شاعرًا، لكن الراحلان إسماعيل حسن ومحجوب شريف كانا الأوفر حضورًا في أغنيات وردي العاطفية والثورية الشهيرة.

كان الراحل محجوب شريف هو الأكثر حضورًا في أغاني وردي الثورية التي تصلح بحسب كثيرٍ من النقاد لأن تبني وطنًا وتشكل برنامجًا لإنقاذ بلد مثل السودان. ويتجسد ذلك في أغنية "حنبنيهو" التي حوّلها ثوار  ديسمبر إلى شعار التفوا حوله في سودان الثورة بعد نجاحهم في إسقاط سلطة البشير.

وتأكيدًا لحضور وردي الذي بدأ الغناء في خمسينات القرن الماضي وتأثيره الكبير في شريحة الشباب، يقول  محمد دفع الله (29 عامًا) إن وردي فنان الوطن والثورة وصوت المواكب الذي لا يغيب. ويضيف دفع الله في حديثه لـ"الترا سودان": لم أكن أتصور المواكب من دون أغنيات وردي. ويتابع قائلًا: "الأغنيات التي ألهبت حماس ثورة 1964 هي ذاتها التي حركت الجماهير في ديسمبر 2018".

ولأن الحرية تأخذ حيزًا كبيرًا في أغاني محمد وردي، فقد اختار أن يغني لمحجوب شريف واحدةً من أكثر الأغنيات إلهامًا للشعب السوداني وهي أغنية "يا شعبًا تسامى". ولم تكن الحرية عند وردي مجرد أغنيات  يصدح بها وتنتهي بانتهاء الحفل، بل كانت إيمانًا حقيقيًا دفع وردي فاتورته اعتقالًا في عهد نظام الرئيس الراحل جعفر نميري في الفترة من 1969 وحتى 1985.

وردي
صورة تجمع محمد وردي مع أبو عركي البخيت

ونفى وردي الذي كان قد تغنى للرئيس نميري في أول عهده أغنية "يا حارسنا ويا فارسنا" انتماءه إلى أيّ منظومة سياسية حاكمة أو حزب، مؤكدًا أنه ظل فنانًا حزبُه السودان وانتماؤه إلى شعبه وغايته العمل على تحقيق تطلعاته في الحياة الكريمة.

لستين عامًا، ظل حزب وردي هو الوطن، الحزب العابر والمتجاوز للإثنيات والعرقيات، حزب "لو بهمسة" و"الطير المهاجر" بحثًا عن عشٍّ في أرض النيل، حزب "للودّ"، وحزب "طفلة في وسط الزحمة منسية"، حزب "بناديها وبعزم كل زول يرتاح في ضحكة عيون فيها"، حزب "نور العين" و"الحزن القديم"، حزب "المحبة من بلدنا"، حزب "عرس الفداء" و"أكتوبر الأخضر". ظلّ حزب وردي الحزب الوحيد الذي لم يغشاه الانشقاق. وذلك لأن الوطن في عيني وردي "نهر قديم" يسيل عطرًا وتاريخًا يجهله أنصاف المثقفين الذين أضحوا "ساسة" الزمن الرديء. الوطن في عينيه طفل منسيٌّ في حفل، عليه وحده أن يهدهد حزنه، ويعيده إلى حضن أمه: النهر، الصحراء، البحر، عمق الإنسانية. الوطن في عيني وردي وطن، ووردي نفسه في عيون أهله وطن آخر بحسب ما يقول الإعلامي السوداني خالد عويس.

مثّل الـ19 تموز/ يوليو تاريخًا فارقًا في حياة وردي فهو تاريخ ميلاده في العام 1932 وتاريخ دخوله إلى الإذاعة لتسجيل أولى أغنياته في العام 1957 وهو أيضًا التاريخ الذي بدأت فيه لحظاته مع الانتقال بعد انقلاب 1971.

لقي وردي تعليمه الأولي في منطقة الشمالية قريبًا من النيل، وتحت ظلال النخيل قبل أن يغادرها للعمل بالتدريس في مدينة "شندي". وبعد أن عمل بالتدريس لفترة في العاصمة الخرطوم. ترك التدريس مبررًا خطوته تلك بأن شخصية وردي الأستاذ بدأت تذوب في شخصية وردي الفنان.

وفي الثامن عشر من شباط/ فبراير من العام 2012 توفي الفنان محمد وردي بالخرطوم بعد ثمانين عامًا عاشها ناثرًا الفرح والقيم النبيلة في أوساط الشعب السوداني، ووري جسده الثرى في مقابر الفاروق بالعاصمة الخرطوم.