دفعت الحرب عشرات الآلاف من السودانيين إلى البحث عن وسائل لكسب العيش في الولايات التي غادروا إليها جراء القتال المندلع في العاصمة الخرطوم وبعض مدن إقليم دارفور ومدينة الأبيض في شمال كردفان وكادوقلي في جنوب كردفان منذ نحو خمسة أشهر بين الجيش والدعم السريع.
اقتصادي لـ"الترا سودان": كانت الصورة ستصير أوضح لو نقلت مصانع الخرطوم إلى الولايات لأنها تفتح فرص العمل وتحرك الاقتصاد
تستحوذ الخرطوم على النصيب الأكبر من حركة النزوح في الولايات بنسبة (69%) حسب إحصائيات الأمم المتحدة هذا الأسبوع، ولذلك تشتد حاجة الملايين ممن غادروا العاصمة إلى تأمين مصادر لكسب المال في الولايات.
مع التفاعل الاقتصادي في الولايات تبدو الصورة قاتمة لمن اختاروا العمل في التجارة الحدودية لاستيراد السلع من دول الجوار مثل مصر وإثيوبيا وتشاد وليبيا، لصعوبة بداية نشاط تجاري خاصةً مع ارتفاع تكلفة النقل والشحن والرسوم الجمركية.
يعمل أمير في تجارة الملابس، وتمكن من استيراد شحنة عبر معبر "أرقين" شمالي السودان من مصر. تردد أمير إلى المكاتب الجمركية بغرض تخليص الشحنة وسداد الرسوم، كما جلب شاحنة لنقلها إلى مدينة عطبرة ومن هناك تتعدد نقاط التوزيع عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك"، لتوزيعها إلى ولايات الجزيرة وكسلا والبحر الأحمر والقضارف حسب طلبات التجار.
وبحسب أمير، جاءت الأحداث المأساوية في السودان في وقت كان فيه أغلب السودانيين يواجهون أزمة اقتصادية طاحنة، وزادت الحرب تلك المعاناة بالنزوح والتشرد والبحث عن مساكن باهظة الثمن في الولايات تصل أحيانًا إلى ألفي دولار أمريكي شهريًا.
تبدو الأحوال في مدينة عطبرة مشجعة بعض الشيء لزهرة (30 عامًا)، وتعمل في تجارة مستحضرات التجميل مستخدمةً "فيسبوك" للترويج والإعلان، وتحاول هذه الفتاة التأقلم مع "مزاج المدينة" التاريخية من حيث شبكة القطارات ومحطات الأسفار لسنين عديدة والتي خرج أغلبها عن الخدمة بفعل الإهمال الحكومي.
تقول زهرة لـ"الترا سودان" إن العمل بالنسبة إليها لن يتوقف، لأنها تود كسب المال كما كانت تفعل في الخرطوم. وفي نظرها قد تتغير الأمور، لكن يمكن استعادة الزبائن والترويج لمنتجات جيدة الصنع. وتقول زهرة إن المناسبات الاجتماعية مثل الزواج وحتى الزيارات في المجتمع جميعها تنعش مبيعاتها، لأنها تعرف "نفسية الزبون" – على حد قولها. وتضيف وهي تضحك: "ربما لن أعود إلى الخرطوم إذا شعرت بأن تجارتي حققت أرباحًا جيدة، لكن أيضًا المحك في استمرار الزبائن لأن أغلبهم قد يكونون من العاصمة ولن يمكثوا هنا طويلًا".
وبينما تصعد حركة تجارة الأفراد، وفيهم من يحاول استعادة نشاطه الذي فقده في الخرطوم، يسجل سعر الصرف ارتفاعًا كبيرًا، فمن (580) جنيهًا للدولار الأمريكي الواحد عندما اندلع القتال في منتصف نيسان/أبريل الماضي وصل الدولار الأمريكي في آخر تعاملات السوق الموازي إلى (695) جنيهًا و(720) جنيهًا في بعض المدن، ما يعني أن حركة تحديد سعر الصرف في السوق الموازي لم تعد موحدة كما كانت، وفي بعض التعاملات قد يكون طالب العملة الصعبة ضحية استغلال الحاجة في هذه الظروف حسب ما يقول التجار.
في الوقت نفسه، يشكو متعاملون في سوق الأطعمة والملابس والإكسسوارات ومواد التموين من الضرائب التي تفرضها المحليات في الولايات، طبقًا لياسر الذي يعمل في تجارة الملابس بمدينة كسلا. ويقول ياسر إن عمال المحلية يأتون من دون مقدمات ويطلبون الرسوم. وهناك "نهم" على التحصيل لأن المحليات محاصرة بتحقيق الإيرادات، وفق هذا التاجر.
ويقول الباحث الاقتصادي محمد أبشر لـ"الترا سودان" إن "اقتصاد الخرطوم" لم ينتقل بالكامل إلى الولايات لأسباب متفاوتة –في تقديره– من بينها: توزع النازحين من العاصمة إلى العديد من الولايات، أي أن ملايين المواطنين توزعوا إلى الولايات ولم تعد الحركة السكانية للعاصمة تتركز في ولاية واحدة، ولذلك لا يمكن الوثوق في انتعاش الأسواق بالولايات –بحسب أبشر– وهناك شواهد على وجود "كساد كبير" في أسواقها بسبب نفاد المدخرات المالية للنازحين وعدم صرف الأجور لخمسة أشهر، وفقًا للباحث الاقتصادي محمد أبشر.
ويستبعد أبشر "انتقالات كبيرة" لرجال الأعمال والمستثمرين بنقل المصانع إلى الولايات، لعدم وجود يقين بشأن الحرب وامتداداتها وتوسعها أو توقفها، ثم أن الولايات –حسب أبشر– غير مشجعة لاستقبال حركة تجارية كبيرة. ولفت أبشر إلى أن ثقافة الاستهلاك تختلف عن أوقات الاستقرار. "الآن الأولوية للطعام والعلاج" – أردف الباحث الاقتصادي.
في مدينة عطبرة بولاية نهر النيل، وهي قريبة مع معبر "أرقين" الحدودي مع مصر، وتنقل البضائع إلى هناك عبر مسافة تقل عن (600) كيلومتر، بعد انتعاش الأسواق بالسلع المصرية في الشهرين الأولين من اندلاع القتال، أصبح الكساد يلاحق هذه الأسواق.
ويعزو أبشر الكساد إلى نفاد مدخرات النازحين في الولايات. ويقول إن التجارة والاستثمار في الولايات تحتاج إلى "أرضية صلبة" من البنية التحتية وأسواق عمل لعشرات الآلاف العاطلين عن العمل حاليًا لتحريك "الحياة الاقتصادية" بدورتها الكاملة والمعروفة، بمعنى أن مقابل عشرات الآلاف ممن فقدوا وظائفهم في القطاع الخاص بعد الحرب لا يمكن انتعاش أنشطة تجارية واستثمارية إلا إذا شيدت مصانع توفر الوظائف لآلاف الشبان والفتيات.
وحاول "الترا سودان" الحصول على تعليق من مسؤول بوزارة المالية الاتحادية بشأن الخطط الحكومية لاستعادة الحياة الاقتصادية لملايين النازحين في الولايات، لكن تعذر ذلك.
ومن ناحيته، يقول الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم لـ"الترا سودان" إن الفراغ الحكومي في الولايات ينعكس بشدة على أوضاع المواطنين. وكان يمكن وضع خطط قصيرة الأجل لاستعادة الحياة الاقتصادية للملايين من فقدوا فرص العمل في العاصمة الخرطوم واستقطاب الدعم من المجتمع الدولي لصيانة محطات الكهرباء وتوفير البنية التحتية – بحسب إبراهيم. وقد تكون فرصة مواتية لإنعاش الولايات التي عانت سنينًا من الإهمال – وفقه.
خبير اقتصادي: تحقيق الاستقرار الاقتصادي النسبي بالولايات ممكن إذا تصدى له مسؤولون لديهم رغبة في تحسين حياة المواطنين
ويعتقد إبراهيم أن تحقيق الاستقرار الاقتصادي النسبي بالولايات ممكن إذا تصدى له مسؤولون لديهم شعور بمعاناة المواطنين ورغبة حقيقية في تحسين حياتهم، ولكن هذا الشعور غير موجود لدى الطاقم الحكومي الحالي – طبقًا للخبير الاقتصادي محمد إبراهيم.