مطلع الشهر الجاري، استيقظت مدينة كسلا على وقع احتجاجات كبيرة تسببت في إغلاق السوق الكبير وبعض الطرق الرئيسية والفرعية. أغلق المحتجون مدخل السوق من الناحية الشرقية وشارع السلطة القضائية، وتجمهر المحتجون أمام مبنى جهاز الأمن والمخابرات احتجاجًا على مقتل المواطن الأمين محمد نور.
وجّه المحتجون في كسلا أصابع الاتهام إلى جهاز المخابرات العامة، الذي قام أفراده باعتقال الأمين محمد نور من منطقة ود شريفي
وجّه المحتجون في كسلا أصابع الاتهام إلى جهاز المخابرات العامة، الذي قام أفراده باعتقال الأمين محمد نور من منطقة ود شريفي شرقي المدينة، واقتادوه إلى مقر الجهاز الذي يقع في قلب المدينة. جهاز المخابرات العامة هو جزء من المنظومة الأمنية والدفاعية في السودان، وكان يُعرف قبل ثورة ديسمبر باسم "جهاز الأمن والمخابرات الوطني"، وتغير اسمه لما لعبه من دور مركزي في قمع الثورة السلمية واعتقال عدد كبير من الفاعلين السياسيين وزعماء المعارضة، أبرزهم الشهيد الأستاذ أحمد الخير، الذي لقي مصرعه في مقرات مباني الجهاز في مدينة خشم القربة بولاية كسلا، مثله في ذلك مثل الشهيد الأمين محمد نور.
القتل ديدن الأمن
الناشط السياسي مختار حسين كتب في صفحته على "فيسبوك": "توفي أحد شبابنا من مدينة ود شريفي. هو نازح من ود مدني يعمل في سوق كسلا، اعتقل بواسطة جهاز الأمن والمخابرات فرع كسلا، ومن ثم فارق الحياة تحت التعذيب وتم نقل جثمانه إلى المشرحة".
وأضاف مختار: "ممارسات الجهاز تعيد للأذهان استشهاد الشاب جمال فقاريا في مكتب الأمن بكسلا، والشهيد أحمد الخير"، ومضى بالقول: "لا بد أن يتعاون مدير الجهاز مع أسرة الشهيد الأمين محمد نور، وتسليم المتهمين للشرطة". حديث فقاريا لخص مطالب المحتجين.
حادثة الشهيد الأمين محمد نور ليست المرة الأولى التي يُقتل فيها مواطنون تحت التعذيب في مقرات جهاز الأمن والمخابرات في ولاية كسلا. في منتصف التسعينيات، اعتقل جهاز الأمن المواطن جمال فقاريا وقام بتعذيبه حتى الموت. وفي غمرة ثورة ديسمبر 2019، اعتقل جهاز الأمن الأستاذ أحمد الخير بسبب مواقفه المعارضة للمؤتمر الوطني - الحزب الحاكم حينها - وقام أفراد الجهاز بتعذيبه حتى الموت.
خروقات عديدة للقانون
يأتي مقتل الأمين محمد نور في سياق عودة صلاحيات الاعتقال والتوقيف إلى جهاز الأمن بعد الحرب التي اندلعت في 15 نيسان/إبريل، ويبدو أن مقتل الأمين هو محاولة لاستعادة الجهاز "سطوته" التي فقدها أثناء الثورة السودانية وبعد سقوط نظام المؤتمر الوطني وحلفائه في 11 أبريل.
يواجه جهاز الأمن معارضة شديدة من الناشطين في مجال حقوق الإنسان وبعض الفاعلين السياسيين، ويطالب عدد منهم بتقليص صلاحياته واقتصارها على جمع المعلومات وتحليلها، وتجريده من صلاحيات الاعتقال والتوقيف لما درج عليه من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون السوداني.
قانوني: واقعة قتل المواطن الأمين محمد نور في مباني جهاز الأمن بمدينة كسلا تعتبر تعديًا على الحقوق القانونية والدستورية للمجني عليه
فيما يتعلق بالقانون الجنائي، يقول المحامي والخبير القانوني أبوبكر محمد علي، لـ"الترا سودان"، إن واقعة قتل المواطن الأمين محمد نور في مباني جهاز الأمن بمدينة كسلا تعتبر تعديًا على الحقوق القانونية والدستورية للمجني عليه. ويضيف أبوبكر أن الانتهاك مبني على ارتكاب أفراد جهاز الأمن مجموعة من المخالفات القانونية التي أفضت إلى إزهاق حياة المجني عليه تحت التعذيب، وتتمثل في الاعتقال غير المشروع والأذى الذي أدى إلى وفاة الأمين.
ويشير أبوبكر إلى أن القانون الجنائي السوداني للعام 1991 عرّف القتل في المادة 129 بأنه "تسبيب موت إنسان حي عن عمد أو شبه عمد أو خطأ". ويتابع أبوبكر حديثه بأن أسس المادة 130 من القانون الجنائي السوداني للعام 1991 تشرح حالة القتل العمد التي تنطبق على حادثة مقتل الشاب الأمين محمد نور، ويضيف: "أثبتت المعلومات الأولية أن أفراد جهاز الأمن تورطوا في القتل العمد، بناءً على تشريح الجثمان الذي أظهر أن الموت كان نتيجة الضربات وآثار التعذيب في جسم المجني عليه، وأنه كان في ذمة جهاز الأمن في حراساتهم بمدينة كسلا". ويختتم أبوبكر حديثه بأن المسؤولية تقع على عاتق جهاز الأمن لأنه المسؤول عن حماية حياة المجني عليه.
يأتي مقتل الأمين محمد نور في سياق عودة صلاحيات الاعتقال والتوقيف إلى جهاز الأمن بعد الحرب التي اندلعت في 15 إبريل، ويبدو أن مقتل الأمين هو محاولة لاستعادة الجهاز "هيبته" التي فقدها أثناء اندلاع ثورة ديسمبر 2018 وبعد سقوط نظام المؤتمر الوطني وحلفائه في 11 أبريل.
إدانات محلية
في السياق، أدانت لجان مقاومة كسلا مقتل الأمين محمد نور، وأعلنت رفضها لممارسات جهاز الأمن في بيان نشرته على صفحتها الرسمية في فيسبوك. كما أدان التحالف الوطني السوداني في بيان مقتل الشاب الكسلاوي، وطالب السلطات بإجراءات واضحة، من ضمنها إيقاف كل المتورطين في تعذيب ومقتل الأمين وتسليمهم للنيابة العامة من أجل التحقيق معهم. وطالب التحالف جهاز الأمن باتخاذ إجراءات حقيقية فيما يتعلق بحقوق الإنسان. حزب المؤتمر السوداني أيضًا أدان حادثة قتل الأمين محمد نور، وكذلك تحالف القوى الديمقراطية المدنية المعروف اختصارًا بـ"تقدم".
تحت ضغوط الاحتجاجات رضخ جهاز المخابرات في ولاية كسلا لمطالب المحتجين على مقتل الشاب الأمين محمد نور، ورفع الحصانة عن منسوبيه المتورطين في الحادثة، وسط حراك متسارع من السلطات المحلية لاحتواء الاحتجاجات التي أعادت إلى الذاكرة أحداث نيسان/أبريل 2019، حيث تمكن متظاهرو كسلا من اقتحام مقر الجهاز وإطلاق سراح المعتقلين من الشباب الثائر.
"الثورة لسة حية" في كسلا، فقد نجحت الاحتجاجات التي قامت بالمدينة في انتزاع حق المجني عليه وأهله بنزع حصانة المتهمين بقتل المجني عليه تمهيدًا لتسليمهم إلى النيابة العامة
"الثورة لسة حية" في كسلا، فقد نجحت الاحتجاجات التي قامت بالمدينة في انتزاع حق المجني عليه وأهله بنزع حصانة المتهمين بقتل المجني عليه تمهيدًا لتسليمهم إلى النيابة العامة. كما استدعت الحادثة ردة فعل قوية من السلطات التي التقت بقادة أهليين ومن الشباب لنزع فتيل الأزمة التي كادت أن تعصف بولاية هي ضمن المناطق الأخيرة التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني والحكومة القائمة في بورتسودان. على الرغم من ذلك، لكن تظل التساؤلات قائمة حيال صلاحيات جهاز الأمن الذي يحاول العودة إلى تاريخه المظلم عبر بوابة الحرب، والتي سمحت بعودة العديد من أساليب النظام القديم، الأمر الذي يزكي المخاوف من تهديد بقية المناطق المستقرة في البلاد.