21-سبتمبر-2023
 قائدا الجيش السوداني وقوات الدعم السريع البرهان وحميدتي

شهد السودان تكوينات عديدة من المليشيات المسلحة منذ الاستقلال (Getty)

 مضت أكثر من خمسة أشهر على اندلاع الحرب "الأخيرة" (فتاريخ السودان في أحد وجوهه يمكن اختصاره بوصفه تاريخًا من الحروب الممتدة)، ومع ذلك لم نحسن بعد فهم الحرب القائمة فوق رؤوسنا الآن على أنها سليلة تاريخنا الاجتماعي والسياسي. وعوضًا عن ذلك، واصل نخب السياسة الرسمية عمليات التنابذ، محاولين الاستثمار في الأزمة القائمة، بغرض نفي خصومهم التقليديين من المشهد ليخلوا لهم وجه الدولة حكرًا حرًا – لهم وحدهم لا شريك لهم فيها لا من نخب معارضة ولا من عوام الناس.

بهذا النهج الاستئثاري، ورطت مؤسسة القوات المسلحة نفسها والناس من خلفها في متاعب جمة، عندما انشغل قادتها بالكنز من فوق قوة سلاح الدولة، لا بالتنمية

فالدولة لم تخرج عندنا من كونها ملكية خاصة بالنخب التي ورثتها من المستعمر في اليوم الأول، وهي قوى صنعها المستعمر نفسه بما يتفق والمهمة الاستعمارية (وهذا توصيف لحقيقة أكثر منه معايرةً أو ذمًا). وهي قوى تشمل القوى الحديثة التي اصطنعها المستعمر لإدارة جهاز الدولة الجديد في المناطق الحضرية وقتها، إلى جانب قوى تقليدية تقوم على ما "فبركه" المستعمر (Fabricate) وفقًا لعبارة جعفر بخيت –راجع بحثه المعنون "الإدارة البريطانية والحركة الوطنية في السودان"– وسماه المستعمر إدارة "الأهالي" (Native administration)، لا الإدارة "الأهلية"، كما يشاع اليوم؛ فالأولى عبارة استعمارية لها دلالات تحقيرية، تضع المواطنين (Citizens) في رتبة أقل هي مرتبة الأهالي (Natives) الرعاع/غير المتحضرين، والمراد بها وفق ما يشير البروفيسور عبدالله علي إبراهيم "أهل المستعمرة الذين وجدهم المستعمِر في حضيض البشرية حين جاء إلى أرضهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور". بينما تأتي عبارة "أهلي" تعريبًا لعبارة (Non-Governmental)، وإدارة الأهالي –هذه صيغة في الحكم غير المباشر– لم تشب عن طوق علاقات الإخضاع التي جاءت بها الدولة فينا، بل كانت أنكى، حتى وصف محمود ممداني من هو على رأسها بأنه إمبراطور صغير، وهي صيغة من الدرجة السفلى في سوء الإدارة والحط من قدر الإنسان.

لكن القوى الحديثة ليست بأفضل من ذلك. خذ عندك هذه مثلًا؛ في كتابه حوار مع الصفوة، كتب الدكتور منصور خالد تحت مقال أسماه "بلاد من؟ ودولة من؟"، وهو عنوان شديد العبقرية، لراهنية السؤال الآن وفي كل وقت من تاريخ السودان. كتب منصور خالد المتجزأ التالي، يصف فيه استماتة القوى الحديثة في المحافظة على مراكمة الامتيازات التي ورثتها من دولة المستعمر، ولم ينقضِ عقد بعد على رفعها لعلم الاستقلال وخروج المحتل.

https://t.me/ultrasudan

قال منصور خالد: "... والسودان لم ينج من هذه الظاهرة السلبية، وهي سلبية تتبدى –كما أسلفت– في الحرص على الإبقاء على كل الامتيازات الموروثة من الحكم الأجنبي – وتتبدى في الانصراف نحو الإنفاق المبدد في بلاد تحسب مالها بالدانق والسحتوت، وتتبدى في الإغفال التام للريف وتركيز كل مظاهر التطور والتجديد في مراكز التجمعات الحضرية […] ولو تناول المرء مثلًا ظاهرة واحدة مثل ظاهرة الإنفاق المبدد لوجد هذا الإنفاق تمارسه وتمكن له نفس الطبقة والقيادات التي تتحدث عن التنمية والعدالة الاجتماعية، والتحول الاشتراكي... ولن يحتاج المرء إلى أكثر من النظر إلى إحصائيات التجارة الخارجية التي تصدرها وزارة التجارة السودانية.. لن يحتاج المرء إلى أكثر من النظر إلى هذه الإحصائيات ليدرك صدق ما أقول... ولتنظر معي إلى هذه الأرقام التي تنقل صورة منتقاة من إحصائيات التجارة الخارجية في الخمسة أشهر الأولى من عام 1965 [يمكن ملاحظة أن هذه الإحصائيات تتعلق بحكومة ما بعد ثورة أكتوبر – هذه ملاحظة من كاتب هذه الكلمة].. في خلال هذه الفترة بلغت قيمة ما استورده السودان من التبغ والمشروبات (391,315) جنيهًا يقابلها (673,690) جنيهًا لاستيراد الأدوية والمنتجات الصيدلية.. وبلغت قيمة ما استورده السودان من سيارات النقل المشترك (170,568) جنيهًا يقابلها (344,064) للسيارات الخاصة.. وبلغت قيمة ما استورده السودان من الآلات الزراعية (وهذا يشمل آلات تحضير التربة، والحصاد والجرارات وصناعة الألبان) (267,584) جنيهًا يقابلها (555,237) جنيهًا لاستيراد الفواكه من أمريكا والملايو والمربة من إيطاليا وبلجيكا والدنمارك وبولندا والبطاطس من هولندا وألمانيا وقبرص وإيطاليا، وهذا عدا (11,609) جنيهًا لاستيراد البسكويت... تالله لقد ظلم مدرسو التاريخ في المدارس ماري أنطوانيت ظلمًا فادحًا وفي ذراهم ماريات كثر...".

ولكيلا يبدو الأمر انتقاءً للحظة من التاريخ، يبدو أنها في عداد الصلاحية المنتهية، ومن ثمة محاولة تعميمها تعميمًا مغرضًا ومنحازًا، أحيل من يمر على هذه الكلمة إلى ورقة بحثية مشتركة بقلم مجدي الجزولي وإدوارد توماس بعنوان "Creatures of the Deposed: Connecting Sudan’s Rural and Urban Struggles"، نُشرت لأول مرة باللغة الإنجليزية في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2021 على منصة African Arguments، ولاحقًا عرّبت من قبل منصة "قدام"، تحت عنوان: "بعاعيت المخلوع: وصل النضالات الحضرية والريفية في السودان"، وهي مقالة تحمل ذات المعاني التي ذهب إليها منصور خالد في مقالته "بلاد من؟ ودولة من؟"، مع توسع في تحليل الاقتصاد السياسي لما أسماه الكاتبان "عسكرة الإنتاج الريفي" وهي أكبر متاعب الحكم العسكري. فمن فوق هذا الضيم التنموي بتبديد موارد البلاد في جيوب النخب، كان الاستبداد العسكري يفاقم الوضع كما سنرى في مقالة الجزولي وتوماس. ولذلك يمكن ملاحظة أن الإهمال التنموي في عهود النظم العسكرية التي امتدت لأكثر من (50) عامًا –أي أكثر من ثلثي تاريخ السودان ما بعد الاستقلال– ترافق مع تضييق الخناق على مساحات العمل المدني لرفع هذه المظالم. وكانت نتيجته الموضوعية –ولا عجب– توسيع دائرة مشروعية حمل السلاح في مواجهة الدولة بحجة رفع المظالم (اتفقنا مع هذا النهج أم اختلفنا – مع أن بعض الحركات السياسية الحاملة للسلاح واصلت ذات النهج في عهود فتَح فيها السودانيون مساحات للعمل المدني)، وهو مما جربته كل فصائل الطيف السياسي من يمينها إلى يسارها، إلا النذر القليل.

مليشيا الجنجويد تقوم بعمليات حرق في دارفور
كانت دارفور مسرحًا لنشاط العديد من المليشيات المسلحة (Getty)

بهذا النهج الاستئثاري، ورطت مؤسسة القوات المسلحة –بدرجة أولى والنخب الحديثة والتقليدية بدرجة أخرى– نفسها والناس من خلفها في متاعب جمة، عندما انشغلت قادتها بالكنز من فوق قوة سلاح الدولة، لا بالتنمية.. ما قادها في فترات مختلفة إلى قبول نهج الاستعانة بمليشيات للقيام بمهامها الصميمة، مرةً من الجنوب على أيام ما عرف بالقوات الصديقة، ومليشيات بيتر قديت وفاولينو ماتيب، ومليشيات كافي طيار البدين في جبال النوبة؛ وتارةً من الغرب حين سلحت قوات من العرب الرحل سميت "المراحيل"، ومن بعدها أتت عهود مليشيات موسى هلال وكوشيب في دارفور، ومليشيات أخرى بأيديولوجيات إسلامية، وهي تشكيلات حملت مسميات عديدة، منها ما أسماها علي عثمان محمد طه "كتائب الظل"، لننتهي بمليشيا "حميدتي" (الدعم السريع) التي لم تخرج –في الحقيقة– لوحدها من رحم الجيش، بل خرجت هي وجميع أخواتها من ذات الرحم (وبالتأكيد هذا لا يعفي الفصائل السياسية التي وفرت غطاءً لشرعنة هذه الخطيئة، سواء في التاريخ البعيد أو ما توسع فيه النظام البائد أو ما بعده)، وبالتأكيد هناك تباينات ما بين كل هذه التكوينات المليشية، لكن كان المشترك بينها دومًا هو حماية النظام القائم ومصالحه، وفي أحايين كثيرة يتضح أن الأمر متعلق بحماية قادة النظام ومصالحهم، والأخيرة صيغة اخترعها الرئيس العسكري المخلوع عمر البشير، بتسميته "حميدتي" – "حمايتي". ومع أن الحرب اندلعت نتيجة لهذه الممارسة، ما تزال تقاتل الآن مع كل أسف مليشيات محسوبة على الإسلاميين إلى جانب القوات المسلحة في هذه الحرب الغادرة على السودانيين، وهذا مؤشر يدعو إلى التشاؤم بأن كل هذه الفظائع التي ما تزال ترتكب ضد السودانيين من نهب وتهجير واغتصاب وقتل، من قبل مليشيا الدعم السريع التي خرجت من رحم الجيش، لم تكن كافية للقطيعة مع هذه الممارسة الفاسدة المفسدة الناقضة والمزعزعة لأوتاد ما تبقى من جسد الدولة.

هذا الظلم وسد أبواب الخروج عليه مما قصده ابن خلدون بعبارة جامعة مانعة في أن العدل أساس العمران، ومنها قوله إن الظلم مؤذن بخراب العمران، وهو ما يفسر جانبًا كبيرًا مما وقع علينا في الحاضر بما وقع منا في الماضي. غير أنه مما يؤسف له وعليه في آن، أن شاعت وسط نخبنا عقيدة خلدونية مفسدة للتأمل في الاجتماع، تقول إن "البداوة" مخربة للعمران، هي ونسخة منها جاءت تحت اصطلاح "العقل الرعوي" تمكنت عند اليسار الثقافي بيننا، وهي عقيدة في التحليل الاجتماعي لن تسعفنا لتجاوز إعادة إنتاج الحرب مرة بعد أخرى، متى توقفت المعارك الدائرة اليوم في "حرب أبريل" كما نأمل. ونأتي لتبيان فسادها بشيءٍ من تفصيل في كلمة أخرى.