يعرف القراء أنه عندما يحاول الكُتاب تخليق العملية الإبداعية فإن هنالك عدة عناصر تتجلى وتندمج لتشكل النص بصورته النهائية التي يطلع عليها العامة، لكن ما لا يعرفه العديد من الناس هو أن بداية النص أو العمل الإبداعي لا تنطلق عند الجلوس للكتابة، إنما هي عملية طويلة تبدأ منذ زمن بعيد، بعيد للغاية. والقدرة على إخراج النص إلى الحياة تعتمد على مرونة الكاتب وقدرته الفذة على مطاوعة نفسه لإخراج عمل إبداعي أصيل يشكل وجدان تجربته الخاصة.
ما لا يعرفه العديد من الناس هو أن بداية النص أو العمل الإبداعي لا تنطلق عند الجلوس للكتابة
إذن، تبدو فكرة ربط الأعمال الإبداعية بالذاكرة أمرًا منطقيًا للغاية لأن عملية التخمير المستمرة تعتمد على اجترار الذاكرة وإصرارها بالنسبة للمبدع الذي يمتلك هوس التخليق. الأمر الآخر الذي يمكن ربطه أيضاً بهذا السياق نفسه هو عنصر الدهشة، ولست أقصد هنا قدرة الكاتب على تشويق القارئ، لكني أعني دهشته الخاصة التي تجعله يفكر في لحظة ما ويحولها إلى نص أو غيره من أشكال القص.
الحيز الاجتراري
يناقش بول أوستر سيرة الذاكرة في كتابه "اختراع العزلة" بكل حِدة؛ إذ كتب: "الذاكرة؛ الحيّز الذي يحدث فيه الشيء للمرة الثانية". كان أوستر على دراية بقدرة الذاكرة الإنسانية على إعادة إنتاج الأحداث بصورة دورية، وكلماته المباشرة لم تكن تخص مجتمع الكُتاب بصورة خاصة، بل كل البشر، لكن العنصر الذي يفرّق الكتّاب والمبدعين في شتى المجالات عن غيرهم؛ هي قدرتهم التعبيرية التي تتجلى بصور ألوان فنية مختلفة، مثل الموسيقى والرسم والكتابة.
بعمر السابعة والعشرين أخرج الرسام السريالي سلفادور دالي لوحة "إصرار الذاكرة" إلى الحياة. ويُعد هذا العمل أحد أكثر أعماله جموحًا وإثارة للإعجاب، وتُعد -اللوحة- أيضًا أرضًا خصبة بالنسبة إليّ للحديث عن الذاكرة والماضي بصورة عامة وعلاقتهما بالإبداع. قرأت قبل مدة ورقة بحثية تناقش هذه اللوحة التي تستعرض ساعات ذائبة في أرض جرداء، يرى الباحثون أوجه الشبه الكبيرة بين المكان الظاهر في اللوحة والأرض التي تظهر أمام منزل دالي في أوقات طفولته. إذن، من الواضح أن دالي اعتمد بصورة كبيرة على الأحداث القديمة لإنشاء هذا العمل الفني القيّم معززًا للفكرة التي أناقشها، وحتى اسم اللوحة يشير إلى الفكرة بطريقة جريئة.
ما دون البشر
بالعودة إلى نقطة الدهشة أجدني مضطرًا إلى توضيح وجهة نظري الخاصة. إنني أعتقد بأن طرق اعتماد الكُتاب على تطويع الذاكرة هي التي تخلق لونية خاصة لكل واحد منهم، وهنا أريد أن أستشهد بالكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عندما كان محررًا في صحيفة "إل إسبكتيدو"، وكتب تعليقًا عن قصة قصيرة جدًا للكاتب دانيال أرانغو واصفًا إياها بأنها ممتعة حد "الدهشة": "ضاع طفل في الخامسة من عمرهِ، وفقد أثر أمه وسط حشد في معرض في المدينة. ذهب الطفل إلى ضابط شرطة وسأله: هل حصل ورأيت امرأة تتجول في الأرجاء دون ابن يشبهني؟" لكن ما الزناد الذي يضغطه الكاتب للوصول إلى هذه الدهشة سواء تلك التي تجعله يكتب أو التي يفغر بها أفواه القراء؟
لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل بصورة قاطعة، لكن يمكن أن تدلنا مدارس التفكير الإغريقية -وعلى قمة هرمها أرسطو- على نمط تحليل قد يوصلنا إلى شطٍ منطقي، إذ يؤكد الفيلسوف اليوناني: "الحيوان يقف عند حدود التخيل والتذكر ولا يكاد يوجد عنده التجربة، أما الإنسان فيرتفع إلى مرتبة الفن والاستدلال". يمكن القول هنا بأن القدرة على الخيال هي فرق واضح بالطبع بين البشر وما دونهم، لكن المقدرة على تطويع الذكريات والخيال ليست أمرًا منتشرًا بين الناس وإلا لكان كل البشر مبدعين، على اعتقادي بأن كل البشر فنانون من نوع ما، لكن الفرق الوحيد يصبح في القدرة على الركض خلف العالم الذي لا يراه الآخرون، العالم الذي بداخل المرء وهو أمر يتطلب الشجاعة؛ لذا أعتقد -بل أجزم- بأن كل الفنانين هم شجعان بالضرورة.
على المستوى الشخصي، لطالما أزعجتني حقيقة أن المرء لا يعيش طفولته، ويحمل في ذاكرته عمرًا ناقصًا
على المستوى الشخصي، لطالما أزعجتني حقيقة أن المرء لا يعيش طفولته، ويحمل في ذاكرته عمرًا ناقصًا، وتلك السنوات تحاكي ابن الزنا؛ إذ تعيش بعيدة عن والديها؛ صاحبها. إذا كانت طفولتك ملكًا لك، فلماذا يتذكرها كل أحد سواك؟ وعمرك تعيشه مبتورًا، شاردةً منه أولى الومضات، مثلًا طعم أول برتقالة، وتقلصات وجهك، رائحة قميص والدك عند تقبيله إياك وملامح أمك، شعورك بخُطى أول نملة فوق رقبتك؛ هذه اللحظات أريد أن أعيشها من جديد أو على الأقل أن أحاول خلقها بشكلٍ آخر.