حتى عهد قريب، كانت "الشلوخ" أو الفصدات تزين وجوه الكثير من السودانيين، إلا أن هذه العادة السودانية تسير بسرعة وثبات في اتجاه الاندثار. وتحمل هذه العادة مدلولات جمالية واجتماعية، فقد اتخذت النساء "الشلوخ" كزينة لهن حتى بدايات القرن الماضي، بجانب وشم الشفة السفلى الذي يعرف بـ "بدق الشلوفة". فيما تحمل هذه الفصدات دلالات اجتماعية كبيرة، فهي ذات أنماط وأشكال متعددة، بحيث يشير كل نمط إلى الانتماء لقبيلة معينة من قبائل السودان.
بحسب مؤرخين، تعود أصول هذه الفصدات التي تزين وجوه السودانيين إلى العهد المروي، حيث اكتشف علماء الآثار تماثيل لأشخاص تظهر "الشلوخ" على وجوههم
تنتشر "الشلوخ" بشكل خاص في الجزء الشمالي من السودان، ويقول مؤرخون إن أصول هذه الفصدات التي تزين وجوه السودانيين تعود إلى العهد المروي، حيث اكتشف علماء الآثار تماثيل لأشخاص تظهر "الشلوخ" على وجوههم، بجانب عدد من النقوش التي يظهر فيها أشخاص "مشلخين" بأنماط مختلفة. ويحمل بعضها الشكل الهلالي، فيما تظهر شلوخ أخرى بشكل خطوط أفقية على الخد أو رأسية. واستمرت هذه العادة التي بدأت في بلاد النوبة لتتسع رقعتها في البلاد.
ونشرت دراسة لتمثال من الطين يرجع إلى العصر الروماني في مصر، يمثل صورة لامرأة سودانية على خديها ثلاثة "شلوخ" عمودية، لما يعرف بشلخ "مطارق"، الذي يعتبر من أشهر "الشلوخ" في السودان. وبالرغم من أن الباحث عثر على التمثال في مدينة الفيوم، ويعتبر مصنوعًا في مصر الرومانية، إلا أنه يؤكد أن التمثال يعود إلى امرأة سودانية أو إثيوبية في السياق العام لهذا الوصف. وتشير الدراسة إلى أن عددًا من الرحالة شاهدوا "الشلوخ" في وجوه السودانيين الذين يقطنون في مصر، فيما استنتجت من التمثال الذي كان محور بحثها أن هذه العادة قديمة في السودان.
الشلوخ والقبائل العربية السودانية
وعلى مر العصور، شهد السودان حركة هجرات واسعة لقبائل عربية على أراضيه، بحيث يصعب تحديد بداية حركة الهجرات. وتشير أبحاث إلى أن بعضها بدأت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان من اليسير أن تعبر السفن القصيرة شاطئ البحر الأحمر.
يقول الأستاذ يوسف فضل حسن في كتابه "الشلوخ.. أصلها ووظيفتها في سودان وادي النيل الأوسط"، إنه على الرغم من عدم معرفة الغرض من "الشلوخ" أو الفصدات التي يضعها النوبيون على خدودهم، إلا أن العرب الذين جاءت بهم الهجرات من شبه الجزيرة العربية، طوروا هذه العادة لتصبح سمة لهم في مجتمعهم الجديد.
ويشير الكتاب إلى أن هذه القبائل قامت بتطوير هذه الممارسة للدلالة على الانحدار من أصل أو عرق معين، فأطلقوا عليها لفظ "شلخ" أو "شلوخ"، بحيث تبنت القبائل العربية التي تلاحمت مع القبائل النوبية قديمًا في السودان هذه الممارسة، للدلالة على المجموعات القبلية الحديثة التي تكونت، مما منح هذه العادة أحد أبرز أبعادها الاجتماعية.
وذكر حسن في كتابه أن المجموعات المنتمية لقبيلة الجعلية تبنت فكرة "الشلوخ"، بحيث كانوا متمسكين بهذه العادة بحجة المحافظة على الأصول العربية. وأفراد هذه القبيلة كانوا يستخفون بالشخص غير "المشلخ"، ويرون أنه أهمل عادات القبيلة وسمة الأجداد.
ورأت القبائل العربية في هذه "الشلوخ" المنحدرة من بلاد النوبة ما يطمئنها على أصلها العربي. وتطورت هذه الفصدات لتأخذ اتجاهات أخرى تتضمن الأغراض الجمالية والدينية.
وبالرغم من التزام القبيلة بشلخ يحمل شكلًا أو نمطًا واحدًا، إلا أن هناك بعض الفروقات التي قد تحدث في تفاصيل الشلخ بين شخص وآخر، وذلك يعتمد على الشلاخ (من يقوم بإجراء عملية الشلخ على الوجه) معتمدًا في ذلك على عدة معايير، منها شكل الوجه وحجمه وما إلى ذلك.
ويشلخ الذكور في سن مبكرة، بحيث لا تتجاوز أعمارهم الخمس سنوات، خلاف الإناث اللاتي "يشلخن" بعد العشر سنوات حتى تتضح ملامح الوجه. وليس هناك شخص معين متخصص في عملية "الشلخ"، إذ يمكن أن يقوم بهذه العملية الطبيب البلدي المعروف شعبيًا بالبصير، أو المزين، أو الحجام، أو القابلة.
وتختلف "الشلوخ" من قبيلة إلى أخرى، فقبيلة المحس في منطقة كرمة شمالي البلاد تشتهر بالشلوخ الطويلة والرفيعة، ويقل استخدام الشلوخ لدى المحس. أما البديرية والدناقلة فتتميز شلوخهم بالعمق والعرض والطول، بحيث تغطي هذه الفصدات سائر الخد، وتعرف باسم الشلوخ الدنقلاوية. واشتهر الجعليون بالشلوخ الثلاثة العمودية بجانب شلخ الواسوق، ويماثل هذا الشلخ شكل الحرف (T) في اللغة الإنجليزية، فيما تشترك قبيلة الفادنية مع الجعليين في شلوخ الواسوق. ويحمل كل من قبائل الرباطاب والميرفاب "الشلوخ" الثلاثة القصيرة بشكل متعدد الصور، فيما تشتهر قبيلة الشايقية بـ"الشلوخ" الأفقية، والتي تكون في شكل ثلاث أو أربع فصدات بحسب حجم الوجه.
الشلوخ والطرق الصوفية
تجاوزت عادة "الشلوخ" في السودان الانتماء للقبيلة إلى ما وجده الأشخاص في ذلك الوقت بأنه أرحب وأوسع، حيث ارتبطت هذه العادة بشيوخ الطرق الصوفية، ووجد هؤلاء الشيوخ احترامًا وتأييدًا كبيرًا من الرجال والنساء على حد سواء. وقياسًا بالانتماء للقبيلة، فقد تجاوز الانتماء لشيوخ هذه الطرق الصوفية الإطار القبلي المعتاد في تلك الحقبة.
وأصبحت "الشلوخ" التي تميز الشيخ أو أسرته رمزًا جديدًا يمكن أن يشكل انتماء للطريقة الصوفية المعنية، بحيث لا يحمل هذا الانتماء إطارًا قبليًا، ويمكن لأي شخص من أي قبيلة أن ينتمي لهذه الطريقة الصوفية ويحمل شلخها. وتعتبر كل من الطريقة القادرية الجيلانية والطريقة السمانية من أولى الطرق الصوفية التي اتخذت هذا النهج.
وترجح أبحاث أن أول شيوخ الصوفية في السودان الذي اقترن اسمه مع "الشلوخ" ذات الطابع الديني هو الشيخ إدريس ود الأرباب، والذي ساق الطريقة القادرية إلى منطقة العيلفون الواقعة على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، جنوب العاصمة الخرطوم. ترجع أصول السكان في هذه المناطق إلى قبيلة المحس، التي تعتبر من إحدى القبائل النوبية، بحيث اختلطت مع القبائل العربية، وبنحدر الشيخ الأرباب من هذه المنطقة ومن هذا النسيج.
وبالرغم من أن المجموعات الجعلية تعتبر أكثر القبائل المعروفة باستخدام شلخ "المطارق"، إلا أن هنالك قبائل أخرى كانت تستخدم هذا النمط من "الشلوخ"، بحيث تختلف في تفاصيلها من قبيلة إلى أخرى من حيث العمق والعرض وما إلى ذلك. وتقول روايات إن الشيخ أرباب كان يحمل شلخ المطارق على وجهه. واهتم الشيخ بإيقاد نار القرآن وتعليم المريدين سلك الطريقة القادرية، وبعد أن ذاع سيطته والتفت حلوله الجموع، أصبحت "الشلوخ" على وجهه تسمى بـ"مطارق الشيخ الأرباب".
زينة النساء السودانيات
استخدمت النساء السودانيات "الشلوخ" بغرض الزينة، وذلك بمختلف الأشكال والأنماط التي تحمل أسماءً مختلفة، ومن أبرزها "شلخ" العارض والمطارق. استخدام "الشلوخ" من أجل التمييز القبلي بدأ ينحسر شيئًا فشيئًا عقب التمازج والتصاهر الذي حدث بين هذه القبائل، الأمر الذي يظهر جليًا من خلال وجود العديد من النساء المشلخات اللواتي يعايشن الحاضر الآن، وذلك مقارنة بالرجال المشلخين على ندرتهم، مما يشير إلى أن هذه العادة بدأت تندثر لدى الرجال أولًا، ومن ثم استمرت لدى النساء للأغراض الجمالية.
وفي بادئ الأمر، كانت "الشلوخ" عند النساء لا تختلف كثيرًا عن "شلوخ" الرجال، إلا في بعض التفاصيل المتمثلة في طولها وعمقها، بحيث كان الاعتقاد السائد أن "الشلوخ" العميقة على الخدود الممتلئة تضفي على وجه السيدة أبعادًا جمالية. فحافظت نساء قبيلتي الشايقية والمناصير على الثلاثة أو الأربعة شلوخ الأفقية على الخد، فيما كانت النساء من المجموعات الجعلية يحافظن على الثلاث فصدات العريضة والعميقة.
مع مرور الوقت، أصبحت النساء يفضلن "الشلخ" الذي يميز المجموعات الجعلية، فيما اتجهت النساء الجعليات إلى تفضيل شلخ قبيلة العبدلاب الذي يعرف باسم "العارض"
ومع مرور الوقت، أصبحت النساء يفضلن "الشلخ" الذي يميز المجموعات الجعلية، فيما اتجهت النساء الجعليات إلى تفضيل شلخ قبيلة العبدلاب الذي يعرف باسم العارض، وهو عبارة عن ثلاثة شلوخ رأسية تستند على شلخ أفقي. وفيما بعد، أدخلت إضافات أخرى صنفت على أنها إضافات جمالية على "الشلوخ"، ففي "شلخ" المطارق أدخلت فصدة أفقية تربط بين مطرقين، وأطلق على هذا الشلخ اسم "وجع القليب"، فيما استحدث أيضًا شلخ "النقرابي"، والذي يكون عبارة عن فصدين رأسيين يتوسطهما شكل حرف (T).
وتعتبر "الشلوخ" من أبرز العادات السودانية التي لا تزال آثارها باقية حتى الآن، على الرغم من اندثارها، بحيث ارتبطت في أذهان الأجيال الحديثة بالجدات. وهي أحد الموروثات التي لم تجد نصيبًا كافيًا من الأبحاث والدراسة، بالرغم من مدلولاتها الدينية والجمالية والاجتماعية في المجتمعات السودانية حتى وقت قريب.