بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب السودانية، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور للمعارك في العاصمة الخرطوم، بدت وكأنها انعكاس لـ "تكنيك وتكتيك" إعلامي مضاد يأخذ مسارًا موازيًا وعنيفًا للحرب المأساوية المشتعلة. ركزت تلك الصور على المحتوى الساخر في محاولة لإثبات أن قوات الدعم السريع فقدت قدرتها القتالية وصارت إلى وضعية أشبه بالانعزال وتقطع السبل. "لقد انتهوا يا رجل انظر إليهم ماذا باتوا يقودون". والإشارة هنا ترمز إلى غياب المركبات التي تستخدمها الدعم السريع؛ وهي القوة الضاربة الأساسية لهذه القوات، أعني سيارات الدفع الرباعي "لاند كروزر" يابانية الصنع! لكن، أي مركبات بديلة نقلتها تلك الصور ذات القالب الساخر التي انتشرت بكثافة لتأكيد "انتهاء الدعم السريع"، وفق استراتيجية إعلام حربي تبدو مبرمجة جيدًا؟
جنون إعلامي
قبل أن أنقل هنا صورة مقربة لمحتوى تلك "الصور الساخرة"، أود أن أشير إلى الاختلالات الكبيرة التي أحدثتها هذه الحرب في مفهوم "الإعلام الحربي" ودور "المراسل الحربي"، وكيف أن هذين المفهومين والدورين تجددا وتبدلا بشكل يكاد يناقض ما كان يمارس في آخر الحروب الكبيرة التي شهدها السودان، وأعني حرب الجنوب الطويلة المأساوية. فخلال هذه الحرب لا سيما في سنوات "الإنقاذ" الأولى، شهدنا تفوقًا إعلاميًا مدهشًا للآلة الإعلامية "الكيزانية" وتنويعًا مبدعًا في دور المراسل الحربي، الذي ينقل الحدث من داخل ميدان المعركة، برسم دقيق وذكي لسيناريو متكامل التشكيل يهدف إلى التحفيز العاطفي لـ"الجمهور المخاطب" باعتماد مثيرات عاطفية دقيقة وحساسة مثل "الدين، الوطن، العرق... إلخ". هذه القدرة الإعلامية الاحتيالية الهائلة التي مورست في حرب الجنوب لم تجد -ولن تجد- لها صدى في الحرب الدائرة الآن، رغمًا عن محاولات استعادتها الحثيثة، لاسيما بعد الإعلان المتحدي لمشاركة كتائب المجاهدين "البراء" في معارك العاصمة الخرطوم.
لن نجد أي نشاط إعلامي – حربي منفرد لقوات الدعم السريع خلال السنوات الماضية رغم مشاركتها في عشرات أو قل مئات المعارك في إقليم دارفور
في الجانب الآخر، لن نجد أي نشاط إعلامي – حربي منفرد لقوات الدعم السريع خلال السنوات الماضية رغم مشاركتها في عشرات أو قل مئات المعارك في إقليم دارفور وانتصارها في أكثرها وأهمها وكسرها شوكة أكبر الحركات هناك، وهذا يناقض ما أسفرت عنه الحرب الأخيرة في بروز إعلامي لهذه القوات يكاد يصل مستوى الجنون!
حرب الجنوب
لنعد إلى قصة المركبات الساخرة. فكما ذكرت انتشرت فجأة وبكثافة، بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب؛ صور لمقاتلي الدعم السريع وهم يستقلون مركبات صغيرة -سيارات مواطني الخرطوم- مقصوصة الأسقف تبرز في مقدماتها المدافع الرشاشة، وفي صور أخرى تراهم وهم يقودون "ركشة" و"توكتوك" شاهرين أسلحتهم في وضعية أشبه بالفرار! بيد أن الصورة التي استوقفتني كثيرًا كما أنها وجدت حظًا مضاعفًا من التداول والسخرية تلك التي تظهر مقاتلًا من الدعم السريع على متن دراجة بخارية من ذوات الأربعة إطارات، من ذلك النوع الذي يستخدم في الرحلات الترفيهية الخلوية، أو في نقل البضائع الخفيفة داخل المولات الكبيرة. في الوقت الذي كان يرى فيه الناس أن هذه الصورة تمثل دليلًا تامًا على أنهم "انتهوا خلاص!"، كنت أرى شيئًا مخالفًا تمامًا. ما الذي يدفع مثل هذا الجندي لركوب هذا المركب الصعب وقد "انتهوا" وبإمكانه الانسحاب والهروب مثلما يحدث في أي معركة حربية يصبح خسرانك لها مؤكدًا وهزيمتك بينة؟ لماذا لم يهرب هذا المحارب المهزوم أو يتخفى ويذوب بين الناس بما أن الحرب انتهت وحسمت لصالح الطرف الآخر؟ من يصر على القتال على ظهر مثل هذه المركبة أو على ظهر "ركشة" وعربة صالون مقصوصة السقف، مثل هذا بلا شكل محارب مهووس بالقتال ومديون للموت بألف طلقة!
تساءلت أيضًا، لمن كانت الغلبة في هذه المعركة الإعلامية الصغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ معركة الصورة والسخرية ونفخ الأكاذيب لتكون بحجم الأرض؟ الإجابة عندي كانت ببساطة لمن ملأت صوره وفيديوهاته الأسافير وهو في سمت يقترب به من نموذج الفدائي أو الانتحاري.
ساحات الفداء
في حرب الجنوب ابتكر الإنقاذيون أسلوبًا إعلاميًا متفردًا يمكن موقعته ضمن فرع الإعلام الحربي أو ما يعرف بـ "التوجيه المعنوي". استفاد الكيزان في تلك الفترة من الطفرة الإعلامية التي يشهدها العالم فيما يتعلق بالبث التلفزيوني وبداية انتشار القنوات الفضائية وما صاحب ذلك من تطور تقني في التصوير والمونتاج وكل أساليب الإنتاج البرامجي والفيلمي الحديث. قدموا ذلك البرنامج التلفزيوني المدهش "في ساحات الفداء" وسخروا له كل إمكانياتهم المادية والتقنية والبشرية. أفضل الكاميرات، أفضل المخرجين، أفضل السيناريست والمعلقين والمقدمين مع حشد هائل لأدب الجهاد الديني مقرونًا بمسحة وطنية رقيقة تلامس بسهولة أفئدة البسطاء من الناس. نجحوا تمامًا في تصوير تلك الحرب وكأنها حرب أخرى مكررة -مستوحاة- من حروب الرسول ضد مشركي مكة، أو حروب المسلمين ضد الكفار في رقاع الدنيا المختلفة! نعم رويدًا رويدًا اكتشف الناس الأكاذيب والاختلاقات التي كانت تضاف إلى هذا البرنامج سواء في القصص الأسطوري لسير المعارك ومساندة الغزلان والملائكة للمجاهدين أو العودة الكاريكاتورية لبعض الشهداء بعد أن زفهم الرفاق إلى حور الجنان! لكن برغم كل ذلك تظل تلك التجربة شكلًا متقدمًا وكاسحًا في الإعلام الحربي، وفي تطوير دور المراسل الحربي ليكون ليس شاهدًا فقط على ما يجري بل مشاركًا في الحدث وجزءًا فاعلًا من المعركة والفداء والموت - الاستشهاد الديني كما يقدمه البرنامج.
كيف تطور شكل هذا المراسل الحربي الفدائي - المجاهد في الحرب الأخيرة، ولصالح من كان ذلك؟ وإلى أي دغل فرت الغزلان المباركة ووراء غيوم أية سماء غابت الملائكة؟
إعلاميون بالفطرة
أكاد أجزم أن واحدًا من أسباب ارتفاع منسوب الصدمة لدى مواطني الخرطوم والسودانيين عامة تلك المقاطع التي دأب مقاتلو الدعم السريع على نشرها بكثافة خلال أشهر الحرب الأولى، في محاولة منهم لتوثيق انتصاراتهم وتقديم خطاب يبرر لحربهم. الجميع كان يتحدث، الجميع كان يلتقط الصور ويسجل مقاطع الفيديو، الجميع في لحظة حربية فاصلة يتحول إلى مراسل حربي مساند من قلب المعركة، يشارك في صنع الحدث أو يختلقه من عدم.. ليس مهمًا.
ما الذي ميز مقاتلي الدعم السريع -الأغلبية- في هذه المعركة الإعلامية إلى الدرجة التي أعجزت إعلام الجيش -الدعم المعنوي- من مجاراتهم، بل حتى الإعلام الرسمي للدولة، والإعلام الموازي للمجاهدين لم ينجح في ذلك بعد دخوله المتأخر إلى أرض المعركة، ومحاولاته استعادة أساليبه القديمة المجربة -ساحة الفداء- ومزجها مع تكنيكات جديدة أوجدتها لحظة مواقع التواصل الاجتماعي، وهي الساحة التي تسيدها إعلام الدعم السريع.
الكثيرون أرجعوا الكثافة الإعلامية "صورة وصوت" لقوات الدعم السريع، إلى الإمكانيات التقنية المتوفرة لهؤلاء المقاتلين بعكس جنود الجيش، وهي صورة تقارب حالة الفقر التي يعاني منها جنود الجيش مقارنة مع حالة الثراء التي يتمتع بها مقاتلو الدعم السريع وتتيح لهم بالتالي امتلاك الهواتف الحديثة المزودة بأحدث تقنيات التصوير والمونتاج وغيره، وتحول أي فرد منهم إلى وحدة بث إعلامي متحركة. هذا افتراض يقترب من الحقيقة لكنه يتغافل عن حقائق أخرى منها ما يتعلق بطبيعة هؤلاء المقاتلين، وميلهم الفطري إلى التفاخر واستعراض شجاعتهم وقدراتهم القتالية، تباهيًا بالقول المجرد أو الشعر المغنى، أو خمشًا للغنائم وقتلًا للخصوم. فالخطابة والمبارزة بالكلام، وتحدي الآخرين "شاهرًا وجهك كالسيف" وجه من أوجه الثقافة البدوية المتأصلة؛ لا تخضع هنا لأساليب الإعلام الحديثة ولا لتعليمات الوحدات العسكرية التي تخرج -مثلًا- عسكري الجيش الفرد تمامًا من الساحة الإعلامية، فهذا دور له وحدة متكاملة اسمها التوجيه المعنوي، لكنها كانت غائبة هنا، أو سرعة ما يجري وجرى تجاوزتها تمامًا!
عفوية صادمة
حين وجه موقع فيسبوك ضربته القاضية لصفحات الدعم السريع وغيبها عن المشهد، بدا وكأن الأمر لم يعد مؤثرًا، فهذه الصفحات تجاوزت الزمن ورسخت صورتها الحربية المقلقة والمرعبة في الأشهر الأولى للحرب، وتحولت في غيابها الآن إلى ما يشبه الأطياف المحلقة في الفضاء الأزرق تصرخ بأصوات مقاتلي الدعم السريع وهم يتبارون في الخطابة والاستعراض من أمام المواقع العسكرية التي يدعون استيلاءهم عليها، أو وهم يسقطون الطائرات ويغنمون الغنائم الحربية، صدقًا أو اختلاقًا. هذا الغياب الشبحي لمراسل الدعم السريع الحربي، ترافق مع الدخول المتدرج لإعلام الكتائب الجهادية، لكن هذه القوات حين ولجت أرض المعركة الإعلامية لم تجد أمامها سوى الأدخنة الكثيفة التي تكاد تحجب كل حقيقة وتكبح نمو كل أكذوبة وإن تقافزت في شكل غزال بري بريء.
الحضور الفطري المكثف للمراسل الحربي لقوات الدعم السريع، ذلك الذي لا يتردد في قول ما يخطر على باله ولا يتقيد بخطة إعلامية مسبقة، ولا تعنيه اللغة التي يتحدث بها؛ بل يقدم كل شيء على طبيعته، وفقًا للهجته وثقافته المتأرجحة بين الخريج الجامعي - قارئ "جدلية المركز والهامش"، أو خريج الخلوة الذي يباهي بقدراته البلاغية والخطابية التقليدية. كل هذا لا يعني مطلقًا غياب تلك الآلة الإعلامية المتشعبة التي يعلم الجميع أن الدعم السريع استخدمتها في هذه الحرب وقبلها؛ مستفيدة من قدراتها المالية الهائلة في تسخير كافة الأدوات الإعلامية الحديثة، كما أنها لجأت إلى الاستعانة بما يمكن أن نصفه بفرق إعلامية متخصصة لإدارة ملفاتها الإعلامية، داخل السودان وخارجه، كما استعانت ببعض الوجوه الإعلامية المعروفة في الإسناد ولعب دور المراسل الحربي، وما يشبه مهام التوجيه المعنوي للجيش، أي أنها استخدمت إعلاميين محترفين للعب هذه الأدوار سواء من داخل الميدان أو مخارجه – لكني أرى أن هذا "الإعلام الرسمي" انهزم بالكامل أمام "الإعلام الفطري"، بل حاول رواده مجاراة الفطريين بتقليد لهجتهم البدوية وأسلوبهم السهل المندفع في الكلام والخطابة، ويلاحظ ذلك في محاولات "بقّال" وآخرين، فقد فشل هذا الإعلام في الوصول إلى تلك الدرجة الرفيعة من "العفوية الصادمة" للفطريين، في مقابل التصنع الكذوب الذي يمكن ملاحظته في "لايفات" الربيع مثلًا، فلدى الربيع وبقال طغت المدرسة القديمة "ساحات الفداء" ولم ترتق قط إلى المستوى الفطري غير المخطط له وليد اللحظة التكنولوجية العمومية المفارقة!
ربما الفظاعة والدمار اللذين شهدتهما الحرب الأخيرة فوق احتمال أي مراسل سوي الطوية وإن انتزعنا شخصيته من بطون الكتب والروايات
أخيرًا، ينطرح سؤال أين غاب المراسل الحربي التقليدي في خضم كل ما يجري الآن. ذلك المراسل ذو الخلفية الصحفية، الذي إلى حد ما يمتلك قدرًا من الأدوات والآليات التي تعينه في تقديم عمل إعلامي محترف؟
ربما الفظاعة والدمار اللذين شهدتهما الحرب الأخيرة فوق احتمال أي مراسل سوي الطوية وإن انتزعنا شخصيته من بطون الكتب والروايات، وربما لم يعد مهمًا وجود هذه الشخصية بتكوينها المهني المجرد القديم.. فلقد تجاوزها الزمن!