فرّ الرئيس السريلانكي "غوتابايا راجاباكسا" من مقر إقامته في العاصمة كولومبو السبت الماضي، عبر البحر، قبل وقت قصير من اقتحام محتجين غاضبين من أزمة اقتصادية "غير مسبوقة" بالبلاد للمجمع الرئاسي ومكاتب الرئيس المجاورة.
كما اقتحم متظاهرون غاضبون أيضًا منزل رئيس الوزراء رانيل ويكريميسينغه وأضرموا النار فيه، بينما أعلن الأخير عن نيته التنحي من منصبه لضمان استمرار الحكومة وسلامة جميع المواطنين. فيما نقلت وكالة "رويترز" عن المتظاهرين عزمهم على عدم مغادرة ساحة القصر قبل سقوط كامل السلطة.
حاتم إلياس: هذه الثورات ليست ضد أنظمة سياسية فقط بل تعكس عمق أزمة النظام الرأسمالي في الأطراف ودول الجنوب
وبحسب ما نشرت "رويترز" الأحد الماضي، فإن الأوضاع بدأت بالعودة إلى الهدوء في سريلانكا بعد موافقة الرئيس الهارب ورئيس الوزراء على الاستقالة.
وفي مشهد أعاد إلى الأذهان ذكريات الثورة السودانية ومشاهد مليونية السادس من نيسان/أبريل 2019 التي انتهت باعتصام المتظاهرين في محيط القيادة العامة للجيش بالخرطوم، أظهرت مقاطع مصورة من داخل القصر الرئاسي بالعاصمة "كولومبو" مئات المحتجين -وقد لف بعضهم الأعلام حول جسده- وهم يحتشدون في غرف القصر الرئاسي وممراته ويرددون شعارات مناهضة للرئيس، تشبه الشعارات التي كان يرددها المعتصمون السودانيون ضد الرئيس المعزول عمر البشير.
وتبلغ مساحة سريلانكا (65) ألف كيلومتر مربع، فيما يبلغ عدد سكانها (21.9) مليون نسمة - وفقًا لتقارير البنك الدولي في العام 2020.
ويرى عدد من السودانيين في ثورة شعب جزيرة سريلانكا في جنوب آسيا ذات التاريخ المضطرب مع حرب أهلية طويلة الأمد لم تنتهِ إلا في العام 2009 – يرون فيها امتدادًا لثورات الشعوب التي أشعل فتيلها جيل الشباب في السودان الأفريقي في أواخر عام 2018.
باهتمام بالغ، تابع السودانيون مجريات الأحداث في سريلانكا، اهتمامٌ يرده البعض إلى الحالة الثورية التي تشهدها البلاد في انتظار أن تنتهي مآلاتها بانتصار مشروع التغيير الذي ينشده المتظاهرون.
ويفسر محمد خالد وهو ناشط في لجان المقاومة في مدينة كوستي جنوبي السودان، اهتمامه بما يحدث في سريلانكا بأنه جاء بدافع الثورة نفسها وبحلمه في رؤية الشعوب وهي تنتصر.
ويقرّ خالد بأنه لم يكن يعرف هذه الدولة قبل رؤية شعبها في وسائل الإعلام وهو يقتحم القصر الرئاسي، إذ أعاد إليه المشهد ذكريات اقتحام ثوار السودان لقصر الحكم أكثر من مرة عقب انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. ويختم خالد إفادته لـ"الترا سودان" بقوله إن "الثورة والثوار يشبهون بعضهم في كل مكان".
ومنذ انقلاب قائد الجيش على الوثيقة الدستورية في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يخوض المتظاهرون الذين أشعلوا فتيل الثورة ضد الرئيس المعزول عمر البشير معركةً متواصلةً من أجل إسقاط الحكم العسكري وإنهاء عهد الانقلابات العسكرية، بحسب ما يرددون في بياناتهم.
نظام الحكم في سريلانكا جمهوري ويتكون من رئيس للدولة وبرلمان من (225) عضوًا. والرئيس الذي غادر بلاده فارًا من غضبة شعبه اُنتخب في وقت سابق لفترة رئاسية تستمر لخمس سنوات قابلة للتجديد.
وبحسب الدستور السريلانكي، يتمتع الرئيس بأحقية التمسك بأية حقيبة وزارية في مجلس الوزراء، كما يحق له تعيين أو إقصاء رئيس الوزراء أو أيّ وزير آخر. ويمكن للرئيس حل البرلمان وإعادة تشكيله، وإجراء استفتاء عام على أية قضية مهمة وإن سبق رفضها من البرلمان. ويُطالب المحتجون السريلانكيون الآن بإسقاط الرئيس غوتابايا راجاباكسا وشقيقه رئيس الوزراء ماهيندا راجاباكسا.
وتتّهم جهات تُعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان الرجلين بارتكاب "جرائم حرب"، وتشير إلى مقتل (40) ألف مدني من عرقية "التاميل" في الأشهر الأخيرة للنزاع، وهو ما تنفيه على الدوام السلطات الرسمية.
ونحى الخبير الاقتصادي السوداني معتصم أقرع منحىً مثيرًا للاهتمام فيما يتعلق بالمقارنة بين سريلانكا والسودان، مستخدمًا تعبير "سوديلانكا" لتعزيز فكرة الارتباط وتشابه الأوضاع في البلدين.
بالنسبة إلى أقرع، فإن الأزمة في سريلانكا "اقتصادية في المقام الأول" وناتجة عن تبني اقتصاد السوق الحر، ما أدى إلى تآكل العملة الصعبة التي ذهبت إلى تمويل سلع "غير أساسية" ما فاقم من ندرة العملات الصعبة وأثر في استيراد الأساسيات مثل مدخلات الإنتاج والوقود والدواء – بحسب أقرع.
ويمضي أقرع في التحليل بالقول بأن الاعتماد المفرط على الواردات نجم عنه "تنامي حجم الدين العام وشح متزايد في النقد الأجنبي" إلى أن عجزت الدولة عن استيراد السلع الأساسية مثل الوقود وأعلنت عن إفلاسها وعدم قدرتها علي دفع مستحقات الديون الخارجية التي بلغت (51) مليار دولار بل انتهى الأمر بالحكومة في سريلانكا إلى تأجيل الامتحانات لعدم توفر أوراق الطباعة.
ويضيف أقرع: "مع سوء الإدارة وتراجع قدرة الدولة على الاستدانة تزايد اعتمادها على طبع الروبية فتفاقمت معدلات التضخم".
ويقول أقرع إن كل مؤشرات الاقتصاد الكلي الأساسية في السودان "أسوأ مما هي عليه في سريلانكا" بما في ذلك حجم الدين العام ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي ومعدل التضخم وعجز الموازنة والعجز الخارجي ومعدل البطالة وغير ذلك، وهو أمر يترتب عليه -بحسب أقرع- احتمالان، إما أن الاقتصاد السوداني انهار وأفلس والشعب لا يعلم أو أنه من شدة الانهيار تعود الناس عليه وتعايشوا معه من دون أن يروه.
ويشير معتصم أقرع إلى نقطة محورية تتعلق بأن الرأي العام يشكله من وصفهم بـ"الصفوة القائدة" في السياسة وصناعة الرأي العام في "السوشيال ميديا" والإعلام التقليدي؛ وتعيش هذه الصفوة أوضاعًا أفضل نسبيًا -وفق أقرع- ولذلك تختلف أولوياتها وتبالغ في التركيز على "الأحضان الخارجية" ولا ترى أسبقية الأوضاع الاقتصادية والمعيشية رغم أهميتها الحاسمة للسواد الأعظم كما تشير إلى ذلك استطلاعات الرأي المهنية – على حد قوله.
وبينما يزعم الخبير الاقتصادي توافر معظم عوامل تكرار التجربة السريلانكية في الواقع السوداني، يرى أمين الطيب، الداعم لرؤى النظام البائد في السودان، في سقوط النظام السريلانكي سقوطًا للسياسات "النيوليبرالية" التي تبنتها حكومة رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك بدعم من حاضنته السياسية (قوى الحرية والتغيير)، لافتًا إلى أن الاعتماد عليها من أجل إسقاط النظام الحالي "رهان خاسر".
وفي إفادته لـ"الترا سودان" يقول الكاتب الصحفي والمهتم بالشأن السياسي حاتم إلياس، إن المقاربة المختلَقة بين ما يحدث في سريلانكا والسودان من مطالب بالإطاحة بقيادات النظام السياسي "لن تقود إلى نتيجة". ويردف حاتم: "لو أسقطنا المجلس العسكري الآن فإن ذلك لن يحل المشكلة ما لم نجد معالجات جذرية للأزمة الاقتصادية في البلاد".
ويشير حاتم إلى أن هذه الثورات "ليست ضد أنظمة سياسية فقط" بل تعكس -بحسب حاتم- "عمق أزمة النظام الرأسمالي" في الأطراف ودول الجنوب، مؤكدًا أنّ وعود السوق الحر والخصخصة واتباع قوالب تنموية من منظري الاقتصادات الرأسمالية لمعالجة إشكالات "الخلل البنيوي العميق" في اقتصادات دول الجنوب "لن تقدم سوى مزيدٍ من التدهور والفقر لهذه الدول"، لافتًا إلى أن هذه الدول ستجد نفسها تدور في "حلقة مفرغة من التبعية واستيراد النظم الاقتصادية الفاشلة" – على حد تعبيره.
يرى طيف واسع من السودانيين في اقتحام القصر الرئاسي في سريلانكا صورةً من مشاهد ثورتهم المستمرة وتأكيدًا على أن إرادة الشعوب هي الغالبة
ورغم كل ما تقدم من دفوعات تجرّم اقتصاد السوق الحر وتحمّله مسؤولية ما يجري الآن في سريلانكا، إلا أن طيفًا واسعًا من السودانيين والمتفاعلين على مواقع التواصل، يرى في اقتحام القصر الرئاسي من قبل الشعب السريلانكي صورةً من مشاهد ثورتهم المستمرة وتأكيدًا على أن إرادة الشعوب هي الغالبة.
ومضي آخرون أبعد من ذلك، فطفقوا يقدمون الوصايا للشعب السريلانكي بعدم تكرار الأخطاء التي ساهمت في تراجع الثورة السودانية وعدم الركون إلى الخيارات المفروضة عليهم؛ يقولون ذلك بيقينٍ تام بأن مشهد اقتحام الشعب للقصر الرئاسي في "كولومبو" سيتكرر في الخرطوم.