حوار نقدي مفاهيمي لسرديات الحرب وخطابها وبنيتها، لاستشراف مآلاتها والنفاذ إلى عمق طبيعتها، مع القيادي المعارض الثائر وداعية السلام والعدالة وإبرام التسوية التاريخية المهندس محمد فاروق سلمان:
"لا يوجد دافع نبيل مستقل لأي حرب حتى في حروب التحرر الوطني".
"الحرب الآن نتيجة لإغفال تحقيق العدالة والسعي لتأسيسها".
"المنظومة الأمنية الصاعدة إلى صدارة المشهد ظلت تنال من الجماهير إذا اتفقت وتنال من كل الوطن إذا اختلفت".
"منهج الاتفاق السياسي عبر اقتسام السلطة –وليس ممارسة حكم القانون– فاقم أزمتنا الوطنية وضاعف تناقضات الدولة".
"يجب التخلي عن إعطاء القوات المسلحة سلطة سيادية في سياق الانتقال.. ونقل الحكم إلى القضاء يقدم سلطة القانون على سلطة القوة".
"حتى يأتي أوان تلك الحرب الطاحنة.. نقول لا للحرب".
"التناقض الذي يجب أن ننظر إليه ضامر في منطق الدولة مع منطق الحرابة".
"فشل الأطراف المدنية ليس في التسبب بالحرب، لكن في العجز عن الوقاية منها".
"الطلقة الأولى لا تشعل حربًا.. والاتفاق الإطاري كان محاولة ساذجة لتحاشي الحرب" .
"لا أكمل قراءة مقال يتهم "الفلول" أو "قحت" بإشعال الحرب.. والطرفان أهون من ذلك بكثير".
"نموذج الإنقاذ أكبر دليل على كيف يجر تدخلك في شؤون غيرك إلى التدخل في شؤونك".
"هناك ما هو أسوأ دائمًا.. وليس أسوأ من عدم قدرتنا على الخروج من الفصول السيئة للتاريخ والإساءة إلى أنفسنا حربًا وسلمًا".
"الحرب هي البيئة الدائمة للعنف البنيوي الذي تمارسه الدولة.. ولا أفهم استدارة الدكتور عشاري في موقفه من عنف الدولة".
"اتفاق حمدوك – البرهان كان فرصة حقيقية لتحاشي الحرب، ولكن.."
"الدعم السريع جعلت من الحرب عليها خيارًا وحيدًا عند كثيرين".
"تحول المليشيا كامن في قدرتها على التنازل لا التربص، والمساومة ولا المناورة" .
"الفرصة لإصلاح الجيش وإيقاف ما شكلته الدعم السريع من تهديد على نفسها وغيرها، هي من خلال السلام".
محمد فاروق سلمان في حواره مع "الترا سودان": "الطلقة الأولى لا تشعل حربًا.. والاتفاق الإطاري كان محاولة ساذجة لتحاشي الحرب"
المهندس محمد فاروق سلمان قيادي معروف ومهندس مدني تخرج في جامعة الخرطوم، وقاد عبرها في رابطة الطلاب المستقلين وعلى امتداد سوح النضال العمومي ضد نظام "الإنقاذ" أعمالًا نضالية مشهودة فصل بسببها وتعرض للاعتقال والتنكيل. التحق بالتحالف الوطني وأصبح نائبًا لرئيسه، وعمل في التجمع الوطني الديمقراطي، ونشط في حركات "التغيير الآن" و"أبينا" التي اضطلعت بدور مهم في "هبة سبتمبر" 2013، أصبح عضوًا بتنسيقية الحرية والتغيير حتى اعتقاله في شباط/فبراير 2019. نشط خلال تكوين المجلس المركزي للحرية والتغيير عبر نداء السودان وفي تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى، وأعلن تخليه عن عضوية مجلس مركزي للحرية والتغيير في تشرين الأول/أكتوبر 2019 داعيًا إلى إعادة بنائه على نحو مؤسسي وشامل. لدى المهندس محمد فاروق سلمان رأي واضح وناقد في مسار الانتقال المضطرب، ولا يتوانَ عن الدعوة إلى تسوية تاريخية لا تستثني أحدًا مع أخذ قضية العدالة بوصفها التزامًا لا يقبل المساومات.. إذ اتهم في إطار نقده لما جرى بعد ثورة ديسمبر ما عده تهديدًا لأهداف الثورة كانت تقوم به لجنة "تفكيك التمكين"، وما أسماه دائمًا انصراف الحركة المدنية السياسية واستغراقها في صراعات السلطة وإغفال واجبات التأسيس.. تواصلنا معه بغرض إجراء الحوار المهم، فرحّب بروح وثابة رغم تعافيه من علة ألزمته الفراش، آملين أن تتعافى بكلماته سوح السياسة في سودان ما بعد الحرب.. فإلى الحوار المهم والعميق.
1- ها وقد اشتعلت الحرب بوصفها أقصى احتمال كنا نحاذره؟ كيف نقرأها وننفذ إلى طبيعتها وأسئلتها وقضاياها؟ أهي حدث عارض في طور الانتقال الماثل أم نتاج ضروري لتناقضات المرحلة؟
الحرب هي تدبير الحماقة وليس الضرورة، هي قدرك عندما تكتب الحماقة هذا القدر، التعبير المفجع عن فشل الإنسانية الأكبر في إدارة صراعها من أجل تحقيق أي مصالح ممكنة في اجتماعها مع بعضها البعض. لا يوجد دافع نبيل مستقل لأي حرب، حتى في حروب التحرر الوطني والاستقلال الوطني، هذه الحروب كانت ردود أفعال طبيعية للبشر في مواجهة الاحتلال ومواجهة نمو عقيدة الاستعمار في حقبة من التاريخ، وفي صراع مباشر على الموارد والهيمنة، وأي صراع على الموارد أو السلطة لا يمكن أن يتحول إلى حروب إلا في حال رغبة طرف ما في تحقيق مصلحة غير مشروعة أو المطالبة باستحقاق لا يسنده الحق المشروع في التملك أو السلطة (حق مشروع بمعنى أنه حق طبيعي أو مكتسب وفق قانون عادل لا يحكمه الفضول). لم تخض الشعوب حروبها أبدًا بوصفها هدفًا لذاتها، لذا لا يمكن أن نصفها بالحدث العارض أو حتى التعبير الضروري عن تناقضات هذه المرحلة من تاريخنا، هي تعبير فقط عن ضمور الخيال، وهذا التعريف الذي ما زال عالقًا في ذاكرتي عن تعريف الحماقة بوصفها توظيفًا سيئًا للخيال كان مكتوبًا في إحدى قاعات الجامعة بالطباشير على سبورة لم تُمسح بعد من محاضرة سابقة، منذ أيام ما كنت طالبًا رمتني الصدفة إلى هذه القاعة. إن كنا نتحدث عن ثورة سلمية في مواجهة تناقضات المرحلة والبوابة التي دلفت عبرها الحركة الجماهيرية لتحقيق الانتقال، فالحرب تقع في الجانب الآخر من هذا الانتقال، جانب مقاومة الانتقال والتغيير وتهديد سلاحه الأمضى في السلمية، إلى جانب التأكيد على التناقضات لا إيجاد مخرج منها.
2- كيف نفهم اشتعال الصراع بين المؤسسة العسكرية وما خرج من رحمها قوةً ساندة لها؟ لماذا لم تقم الحرب مع النقيض العسكري والأيديولوجي في تكوينات سلام جوبا؟ أو حتى في أقصى تفاصيل النقيض منه كحركة الحلو التي انضمت مؤخرًا إلى الصراع؟ لماذا هي حرب بين الجيش ويده الباطشة؟ ولماذا هي داخل المكوّن العسكري الصاعد إلى قمة السلطة ما بعد ديسمبر؟
دافع الحرب هذه ببساطة عندما عرف بالمكون العسكري في الوثيقة الدستورية ووفق أدبيات الانتقال: هو صعود كلٍّ من قادتي الجيش والدعم السريع إلى السلطة، إلى قمة هذه السلطة –كما تقول أنت– في سودان ما بعد ديسمبر. هذا التناقض الأكبر في إدارة الانتقال وطبيعة الثورة السلمية، وتحول مهددات في طبيعة نظام البشير وفق التناقضات داخله، مع قدرة نظام البشير على إدارة التوازن بين هذه التناقضات، فلولا الثورة لكان بالطبع كلٌّ من قادتي الجيش والدعم السريع لا تملكان خلاف التذمر، وربما لاقى "حميدتي" مصير موسى هلال نفسه وصعد غيره مثل ما فُعِل به هو نفسه، ولكان برهان على أعتاب المعاش!
بعد الثورة عبرت هذه التناقضات تعبيرًا أكثر فجاجة عن نفسها، سواء في مواجهة حركة الجماهير منذ قبل انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، عند أحداث فض الاعتصام في حزيران/يونيو 2019. وفي مواجهة بعضها البعض والتي بدأت مؤشراتها واضحة قبل حرب نيسان/أبريل هذه. ولعل التعبير عن سخط الجيش من تمدد قوات الدعم السريع كان واضحًا في "انقلاب بكراوي" الذي عكس الحالة العامة عند الجيش بالمناسبة، لتتحول المهددات التي قدر نظام البشير على حفظ توازناتها إلى مخاطر لا قبل للحركة المدنية بقادتها الحاليين على استيعابها ناهيك بالقدرة على حفظ التوازن بينها.
الحرب هي نتاج المطالبة باستحقاقات السلطة من أطراف لم تملك هذا الحق قانونًا ولا حتى بمنطق الثورة، لذا ظلوا ينالون من الجماهير إذا اتفقوا، وينالون من كل الوطن إذا اختلفوا، كما في هذه الحرب ضد الكل.
ما يحدث في السودان الآن أتى متأخرًا عن المآل الطبيعي في نماذج عدة لما يمكن أن ينتهي إليه الاعتماد على مليشيات موازية للجيوش النظامية. وعكس حركات الكفاح المسلح ودعاواها امتلكت المليشيا الصديقة قدرةً على الانتهاكات أكبر من تلك التي عند النقيض الأيديولوجي للنظام، سواء في أقصى تفاصيله –كما تفضلت– الحركة الشعبية بقيادة الحلو، فقد امتلكت القوات الصديقة –أو يد الجيش الباطشة، كما تفضلت– عدة مزايا تفضيلية عن الحركات الثورية، فمن ناحية –ومن خلال غض الدولة عن انتهاكاتها– أصبحت نموذجًا فريدًا للتمرس على ثقافة الإفلات من العقاب، وقد لاحظنا انه حتى بالنسبة إلى حركة حملت السلاح في مواجهة عنف الدولة قد ارتبطت عقيدتها العسكرية بخطاب سياسي ينشد العدالة والتحرر دائمًا وعقيدة قتالية عرفت بحرب "الغوريلا"، وهي باختصار تعني الابتعاد عن حرب المدن وفق تقدير كلفتها الأعلى على أي حركة ثورية اقتصاديًا وليس عسكريًا فقط، وهذه النقطة الثانية في امتلاك القوات الصديقة لمزايا تفضيلية وفق سيناريو الحرب الحالية، أنها لم تهتم بكلفة غزو المدن، ولم تلقِ بالًا لخسارتها للجماهير أو أن تخلي المواطنين من بيوتهم ومن مناطق سيطرتها دون أي أفق لحكمهم، بينما حركات النضال المسلح تفعل العكس وتحاول أن تصور المناطق تحت سيطرتها نموذجًا للسودان الجديد الذي تدعو إليه. والميزة التفضيلية الأهم للقوات الصديقة أنها لا تحتاج إلى إسقاط المدن، فهي موجودة هناك بوصفها قوات رسمية وبأعداد مهولة وفق ما كان من نصيب الدعم السريع. وفي مواجهتها للنظام القائم هي تقوم بما هو أشبه بالانقلاب العسكري، مع تأكيد سيطرتها على المناطق العسكرية التي تتبع لها حتى إذا فشل الانقلاب، مما يعني تحول الانقلاب العسكري إلى تمرد شامل على نحو ما نراه الآن!
3- أنتجت ديسمبر شعارًا ثالوثيًا تمحور حول: الحرية والسلام والعدالة، وتراوح طور انتقالها ضمن تأطير عجول ومقاربة خجولة لذات الشعار، بينما برزت ثلاث قوى رئيسة اعتلت مشهد الانتقال (الحرية والتغيير والدعم السريع والمؤسسة العسكرية).. كيف نفهم بنية الأزمة وأزمة البنية "الديسمبرية" بين خطابها وفاعليها؟
الثورة التي سبق فعلها عقلها حسب ما يقولون، لكن في الحقيقة هي الثورة التي تقدم جمهورها قادتها، تقدم عقل الجمهور عقل القادة في كل القوى الثلاث التي اعتلت المشهد والتي أتاحت لها الجماهير فرصة للاتفاق منذ اعتصامها في القيادة العامة، وليس أي مكان آخر. بنية الأزمة أو أزمة البنية الديسمبرية –كما تفضلت– في تحول خطابها إلى "خطب" في محاولة لدغدغة مشاعر الناس لا مخاطبة عقولهم، لذا غلب الحديث العاطفي الذي يمكن أن يكون مهمًا في منصة التحريض، لكن ليس عند منصة الثورة، ولن يبني دولة بالتأكيد. لقد تحول الفاعلون في ديسمبر إلى منفعلين في النهاية، وعلى مستوى الحشود أصبح الناس أكثر قدرة على تهديد السلطة يأسًا وبأسًا، لا تأسيسها أملًا وعملًا، وعلى مستوى "القادة" أصبح همهم طلبها بالتحايل لا إقامتها بالجدارة، فأصبح الجميع أكثر تهديدًا للدولة، وفق مقاربة مضادة وليست خجولة للحرية والسلام والعدالة.
4- أنتجت الحرب الدائرة بين الجيش والدعم السريع سرديات عديدة لمن أشعلها ابتداءً، وكأن من أطلق رصاصتها الأولى هو من قصد بها فتنة مكونات ما بعد ديسمبر وإبطال مفعول الاتفاق الإطاري.. مرةً أخرى كيف نفهم ما جرى؟ وما هي رهانات أطرافها ورهانات حلفائهم في الداخل والخارج؟
الطلقة الأولى لا تشعل حربًا، كما لا تنهي الحروب طلقة أخرى أخيرة بالمناسبة. الحرب وكما أسلفت تبدأ عندما يطالب طرف باستحقاق غير مشروع، حتى لو أخذ إطارًا قانونيًا بالمناسبة، فنظام الرق في العالم كان نظامًا قانونيًا، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أيضًا كان نظامًا قانونيًا. القوانين ليست دائمًا تعبيرًا عن ميزان العدالة، لكنها تعبير عن توازن القوة (legality is matter of power, not justice). في الحقيقة أنت ذكرت الاتفاق الإطاري أو إبطال مفعوله، كثيرون نظروا إلى الاتفاق الإطاري بريبة، لكنه في الحقيقة كان محاولة ساذجة لتحاشي الحرب، باتخاذ إطار قانوني يقوم على توازن القوة. بنهاية الأمر الحركة المدنية السياسية كانت تريد تحاشي الحرب من خلال الحفاظ للطرفين الذين يمكن أن يتحاربا على امتيازاتهما دون حرب، ولتفعل هذا أرادت أن تقفل الطريق أمام الحركة المدنية من خلال العملية السياسية النهائية، أرادت أن تحاسب المدنيين على دعم الانقلاب والعساكر ومكافأة العساكر الذين قاموا بالانقلاب! كيف لهذه أن تكون وصفة لإيقاف الحرب. اتفاق حمدوك – البرهان كان فرصة حقيقية إذا أردنا –نحن المدنيين– تحاشي الحرب، وكان أولى بقوى الاتفاق الإطاري دعمه بدلًا عن معارضته. وإلى الآن تبحث القوى نفسها عن اتفاق يقوم على توازن بين هذه القوى المتحاربة، وكما تسميه هي نفسها توازن الضعف، بالمقابل يعلو عند من يدعم حرب الجيش على الدعم السريع البحث عن توازن القوة! في الحقيقة يغيب عن الاثنين أي رغبة في فرض سلطة القانون (Law Enforcement) وفق ما أسماه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في مشروعية حربه على التيغراي. هنا لا يمكن الرهان على أن إنفاذ القانون يعطي الحرب مشروعيتها، ولا حتى في نموذج إثيوبيا أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما يتضح الآن، ومسألة القوة وفق حكم القانون وشرعية القوة نفسها مرتبطة بالأمن القومي وليس باقتسام السلطة.
سأدلف إلى حديث مباشر ما دمنا بصدد تناول حلفاء الأطراف المتحاربة الإقليميين، قطعًا وفق سيناريو الحرب سيكون لهم دور مهم في سياق الرهان على هيمنة أي من الطرفين عبر الحرب، وفق حالة لا يمكن استدامتها حتى في تعريف تحالفات الأطراف المتصارعة، لكن وفق أي سيناريو لإنفاذ القانون عبر السلام سينتفي دور الحلفاء الإقليميين وسيحل محله الحديث عن الشرعية الدولية. من المهم هنا الإشارة إلى الفراغات الثلاثة في هذه الحرب الوطنية، وهي: الفلول وقحت والمحاور الإقليمية. القوى المدنية ومهما كانت دوافعها فهي بالنهاية لن تستفيد من الحرب، وحتى وإن لم تعي ذلك الآن، ما يهم وحتى يتشكل وعي وطني حقيقي بالحرب، أن يتحول الخلاف المدني إزاء الحرب إلى خلاف مدني عادي، هذا مهم في تبني سردية صلبة للسلام حتى في مواجهة الأطراف المتحاربة، بدلًا عن تعزيز الاشتباك المدني وتعزيز وقود الحرب من خلال رعاية خطاب الكراهية والإقصاء، وهذا يجب أن يشمل "الفلول" و"قحت". ومن ناحية أخرى، فإن رهانات الحلفاء الخارجيين الذين يُصورون على أنهم كفلاء للحرب، على تهديد الإرادة الوطنية هو كسب وطني بامتياز، فلا يمكن أن نتخيل أن تضطلع أي دولة خارجية الآن بدور في الداخل الوطني لدولة أخرى من دون مساعدة أطراف وطنية، لذا فإن معالجة هذا الأمر تتم في الداخل. من المهم أن نعي أن ابتذال الإرادة الوطنية لا يكون من خلال السماح بتدخل خارجي، لكن تدخلك السافر أيضًا في شؤون غيرك يهدد الإرادة الوطنية لديك. ونموذج "الإنقاذ" يقف كأكبر دليل على ما يمكن أن يشكله تدخل أي دولة في شؤون غيرها من تهديد لشؤونها هي نفسها.
5- كيف تفسّر ما أطلقته قوى الصراع بضرورة إيقاف الحرب وهي منخرطة في منطق صراع صفري؟ وكيف نفهم "لا للحرب" بوصفه شعارًا يلامس الأفق المبدئي ويستخدم في الإطار نفسه ضمن التكتيك والمناورة السياسية التي اشتهرت بها النخب السياسية؟
عادةً أنا لا أكمل قراءة أي مقال يبدأ في حديثه عن الحرب باتهام "الفلول" والدولة العميقة بإطلاق الطلقة الأولى وإشعال الحرب أو اتهام "قحت" وقوى الاتفاق الإطاري بإشعال الحرب. في الحقيقة ومهما وجدت من دوافع عند أي من هذين الطرفين لإشعال الحرب إلا أنهما أهون من ذلك بكثير، كان أولى بالفلول المحاربة عن نظامهم إن كانوا فعلًا لديهم هذه القدرة على هذه الحرب، بدلًا عن هذا التربص الدائم بالانتقال ولعب دور الطرف الثالث، كان يمكنهم البقاء طرفًا أولًا ورئيسًا! في الحقيقة ما لم تعِه قوى الثورة أن بقاء سدنة النظام السابق في موقع الثورة المضادة هو أمر طبيعي، الوقاية منه لم تكن لتتم من خلال لعب دورها عندما حكمت هذه القوى، وإعادة فصول القهر وامتهان القانون والعدالة وهي قيم جوهرية للتغيير والثورة بقدر ما هي من حق أي مواطن. وفي المقابل أيضًا تمضي دعوات "لا للحرب" عند قوى الحرية والتغيير باستدعاء حرب ضرورة ضد الفلول، جاعلة من موقفهم من الحرب وضدها تهمة لـ "لا للحرب" نفسها، مقدمين أنفسهم بوعي أو دون وعي غطاءً سياسيًا لمشروعية حرب الدعم السريع.
سيحكم هذا الصراع الحالي أفق الحل الذي تدعو إليه الأطراف الوطنية، فمهما صور الفلول هذه الحرب على أنها حرب الكرامة، ومهما أرادت الحرية والتغيير هذه الحرب ضد الفلول لوحدهم واجتهدت في تصويرها كذلك، لكن سيكون أفق أي سلام مقبل هو اجترار اتفاقيات اقتسام السلطة والعفو غير المشروط. كان من المهم أن يدير هذان الطرفان تحديدًا خلافهما بشأن الحرب بوصفه خلافًا مدنيًا، فهذه الحرب لن تكون فرصة للتغطية على أخطاء الجميع، كما لا يمكن التهديد بها وقد وقعت.
فشل الأطراف المدنية الحقيقي ليس في التسبب بالحرب، لكن في العجز عن الوقاية منها.
6- ناديتم في أعقاب فض الاعتصام وسلسلة الانتهاكات اللاحقة –ضمن حراك وازن ومشهود رفقة الصادق سمل– إلى إعادة الاعتبار للعدالة بوصفها مبدأً ضروريًا يعاد إنتاجه في مقابل عنفوان السلطة وشططها وبطشها؟ كيف تنظر إلى العدالة في واقع الانتهاكات المريرة التي ولدتها الحرب؟
سمل الذي عرض دم ابنه ثمنًا للمستقبل، وفي مطالباته بالقصاص من عنف الدولة لا الأفراد حتى قبل فض الاعتصام، كان يبحث عن حق ضحايا قادمين في الحياة، لذا تبنى نموذجًا أصيلًا للعدالة. الحرب الآن هي نتيجة مباشرة لإغفال تحقيق العدالة والسعي لتأسيسها، نحن نتحدث عن الجيش الآن ودوره في استعادة الدولة، متجاهلين إرثه الطويل في الانتهاكات والقهر الذي شكل التهديد الأكبر لهذه الدولة وللجيش نفسه. عندما يستدعي بعض السودانيين دور الدعم السريع في دعم الثورة واستعادة المدنية يتغافل عن دوره التاريخي في انتهاكات هذه الدولة وتهديده المستمر للنضال المدني السلمي منذ أيلول/سبتمبر 2013، والخروقات الواسعة في دارفور منذ نشأته. السلطة ليست عصا سحرية يمكن عبرها أن تعيد تموقعك في معركة الحفاظ على الدولة والدفاع عن مدنيتها. العدالة كانت هي الطريق الوحيد للجيش والدعم السريع للاضطلاع بدور في المستقبل. والآن يتناسل نحرهم في كيدهم، وهو ما كان يمكن لدعوة الصادق سمل أن توقينا إياه.
لتكون هذه الحرب هي الحرب الوطنية الأخيرة يجب ألا نغفل العدالة مجددًا، وأن نؤسس لها عبر نموذج للعدالة الانتقالية خاص بنا وبطبيعة الانتهاكات في دولتنا، ونستعيد أجهزة الدولة من خلال قدر من الأصالة لا يجعل ملامح الحداثة في هذه الدولة وتمظهره الوحيد من خلال القهر.
بكل المقاييس، هذه الحرب الآن هي الأشمل من حيث عدد القوات المتمردة والانتهاكات التي تصاحبها وتهديد الحق في الحياة والتملك وفي كل شيء، هي نتيجة مباشرة لعدم الالتزام بتحقيق العدالة والاكتفاء ببنيات دولة القهر والعنف والاستثمار فيها كفرصة أخيرة لمواصلة لعبة تبادل الأدوار بين نخبنا الوطنية العاجزة في رحلة إدمانها على الفشل. الآن يمكن عبر العدالة أن تفارق هذه النخب الفشل وأن تؤتَ الحكمة والشجاعة بدلًا عن أن يحكم سلامها الضعف والفتر! فمهما تخيلنا أن هذا أسوأ ما يمكن أن نكونه، فهناك ما هو أسوأ، وليس أسوأ من عدم قدرتنا على الخروج من الفصول السيئة للتاريخ والإساءة إلى أنفسنا بالإساءة لكلا الحرب والسلام.
7- يرى عشاري محمود المثقف المعروف الذي سطّر نقدًا لاذعًا لما عده جنوحًا للعنف البنيوي كانت تمارسه الدولة السودانية عبر جيشها – يرى أن الجيش قد استدار في حرب أبريل لإزالة أكبر تشوّه اعترى مسيرة الدولة، بينما يرى بعض المثقفين أن الدعم السريع قامت باستدارة مماثلة في سبيل إقرار الحقوق وجلب الديمقراطية.. هل ثمة استدارة في هذه الحرب المدمرة أم هي استقامة على خط عنفوان الدولة؟
لا أعرف إلامَ استند د. عشاري في دعواه هذه واستدارته هو شخصيًا قبل الجيش! هذه الاستدارة في موقفه من عنف الدولة وإعطاء مشروعية للحرب! الحرب هي البيئة الدائمة للعنف البنيوي الذي ظلت تمارسه الدولة السودانية، ولن تكون الحرب غير فرصة للاستثمار في العنف والتمادي في ابتداع أدواته. ستنتج هذه الحرب في حلقاتها القادمة مليشيات صديقة عند الطرفين إذا ما استمرت، وبينما يمكن أن يزداد تماسك الجيش حتى من خلال ابتداع مليشيات جديدة، يمكن أن تزداد فلتات مليشيا الدعم السريع، وتغليب تناقضات الممارسات غير القانونية في هذه الحرب من الجميع. بالنهاية من المهم الوعي أيضًا بطبيعة الجيش المؤسسية، لدى المؤسسة دائمًا وبطريقة موضوعية القدرة على إصلاح نفسها (Can always fix itself)، والمؤسسة أيضًا لا يمكن أن تراهن على بقائها في حال كانت كلفة البقاء أعلى من كلفة عدم استمرارها. المليشيا على عكس ذلك، لا توجد معايير محددة وموضوعية لإصلاحها حتى نتحدث عن استدارتها في سبيل إقرار الحقوق وجلب الديمقراطية، ناهيك بكل ما تقوم به الآن قواتها من النهب حتى يمكننا وصف ما يحدث في الخرطوم بأنها أكبر عملية سطو مسلح تشهدها عاصمة بلاد (حقيقة لم أفهم محاولة كثيرين ربط هذا بجذور الأزمة عندنا). والمليشيا بالمناسبة، يمكن أن تغالط في نهايتها حتى لو كانت كلفة استمرارها أعلى من أي قيمة لبقائها! بداية تحول المليشيا هي في قدرتها على التنازل لا التربص، المساومة لا المناورة، كل الجيوش في العالم بدأت مليشيات ومرتزقة وجهت سيوفها إلى مواطنيها في نظم القنانة وحقوق الملوك الإلهية، لكنها تطورت إلى قوة تحمي القانون وحقوق المواطنة من خلال حروب القرون الوسطى والعصور المظلمة التي سبقت قيام الدولة نفسها. لا أعتقد أنه علينا خوض معارك تلك القرون في عالمنا المعاصر، ووفق شروطه الآن لإعادة اكتشاف العجلة، لكن الفرصة في هذه الاستدارة للجيش لن تكون في حرب أهلية مهما أردنا تصويرها كاستهداف خارجي، كما لن تكون هناك فرصة للدعم السريع مهما علت مكاسبها العسكرية على حساب خسائرها الأخلاقية حسب ما وصفتها الصحفية شمائل النور في سرد لأحداث المعارك بعد نصف عام. في الحقيقة الفرصة وفق ما أرى لإصلاح الجيش وإيقاف التهديد الذي شكلته الدعم السريع على غيرها وعلى نفسها من خلال السلام.
8- كيف ترى انخراط الفاعلين الثوريين في القتال إلى جانب القوات المسلحة التي كانت –حتى وقت قريب– تنازع قادتها سلطة مدنية كاملة، وتدعوها إلى الرجوع إلى وظيفتها الرئيسة المتعلقة بحماية الثغور والامتثال إلى موجبات الدولة الحديثة مع دمج شتات الأسلحة والحركات في "جيش قومي" موحد مهني محترف وحديث؟
أولًا: لا يوجد تناقض هنا بين القتال إلى جانب الجيش والدعوة إلى عودته إلى الثكنات، والمناداة بالمدنية. هذه فرصة فعلًا لفهم المدنية خارج سياق الثنائية العقيمة مدنية/عسكرية، كأنما الدولة المدنية لا تملك جيشًا أو كأن هذا الجيش لا يمكن أن يمتلك سلطات مهنية وحيوية في الدولة! في الحقيقة التناقض هو بين سلمية الثورة وقبول الحرب، وبدرجة كبيرة لا يمكن أن تلوم أحدًا على هذا التناقض، فالدعم السريع ومن خلال خسائرها الأخلاقية قد جعلت من الحرب عليها لدى كثيرين خيارًا وحيدًا، وهو اتجاه لتطور الحرب قد يتجاوز في تهيؤات البعض قادة الجيش والدعم السريع إلى تأسيس جيش جديد، من خلال الحرب نفسها، فكثير ممن يدعمون خيار الحرب يعلنون سخطهم على قادة الجيش، ويؤمنون أنهم يتقاعسون في مواجهة مائة ألف جندي في الخرطوم أو عندما سمحوا أساسًا بوجودهم، لكن من المهم الآن ومن خلال الحرب أن الوعي بالمهددات الأمنية أصبح عاليًا. وبعيدًا عن تقديرات المدنيين وتبرمهم من الجيش إلا أن ما يرونه كلفة الحرب الحقيقية، وليس بالضرورة في أقصى مآلاتها حتى الآن. لذلك لن يكون المدخل السليم لتناول موقع هؤلاء الآن عبر البحث عن تناقضهم وفق منطق الحرب أو حتى تمييزهم بناءً على مواقفهم من كتيبة البراء مثلًا، لكن من خلال الموقف من الحرب وموقع حتى هؤلاء الشباب في صفوف الدعم السريع فيها، تهديد لحياتهم وحياة غيرهم، التناقض الوحيد الذي يجب أن ننظر إليه هو التناقض في منطق الدولة مع منطق الحرابة.
9- ذكرت أن الدعم السريع تمردت بعد أن وصلت إلى السلطة عكس طبيعة الأشياء من أن التمرد يسبق الوصول إلى السلطة.. كيف نفهم إعادة تموقعها في المقابلة بين الهامش والمركز؟ بين وصفها بأنها ابنة التهميش وكونها حارسة الامتيازات التاريخية للمركز؟
نعم وهو ما يؤكده استعدادها لهذه الحرب والتهيؤ لها في توظيف غريب لوجودها في السلطة، من أجل التمرد عليها. هي –الدعم السريع– من أرادت الحرب بأكثر من الجيش، هنا يجب أن نفصل بين الدعم السريع وبين قائدها "حميدتي"، ففي الحقيقة لن يختلف وضع هذه القوات كثيرًا سواء كان "حميدتي" هو الرجل الأول والأوحد في الدولة أم كان الرجل الثاني والأكثر نفوذًا من الأول حتى، ولكنه ليس الأوحد. وفي الحالتين على هذه القوات أن تنضبط وتتوقف عن سلوك (الغنم والسلب)، وهو تهديد مباشر أيضًا لسلطته في الحالتين، ويلقي بسؤال حقيقي عن مستقبل هؤلاء الأفراد في أي قوات نظامية مستقبلًا كتحدٍ إذا لم نكتفِ بالنظر إليه كتهديد فقط. هذا الخطأ في تناول ظاهرة الدعم السريع أضر بأي أفق للحل عند التعامل مع هذه الظاهرة بوصفها معضلة. "حميدتي" له ارتباطات إقليمية ودولية ومصالح اقتصادية خاصة وليست قواته، وله طموح في السلطة وبطبيعة هذا الطموح لا مكان حتى لعبدالرحيم دقلو في هذا الطموح بأكثر من ساعد، هنا "حميدتي" ومن خلال نموذج السلطة الذي يسعى إليه ورفض المساومة وقبول المغامرة بأكثر مما لديه، يهدد مصالح قواته وقادته من أجل تحقيق طموح مهلك وغير مشروع، ويهدد سلطةً هو أحد أركانها.
من ناحية أخرى، وجود قوات "حميدتي" لحماية المركز لا يمكن أن يضعها في موقف من الهامش خلاف موقف المركز نفسه، ناهيك بهذا النزوع إلى إعادة صناعة المركز حتى من خلال صراع الهامش والهامش، وهو ما يجب أن يدفعنا إلى النظر في مآلات الكفاح المسلح نظرًا أكثر عمقًا من هذا الركون إلى شرعية قضاياه! وفي الحقيقة الآن، هي –الدعم السريع– تقاتل لتأكيد امتيازات المركز، مركز جديد أكثر نفوذًا وتسلطًا. هنا قوات الدعم السريع هي التعبير الأكثر تطورًا لتناقضات الدولة المركزية القديمة والاستثمار فيها، وليست نقيضها أبدًا. وقد تكون غاية تناقضات هذه الدولة، دولة الهيمنة والاختلال، من خلال تهديدها الأخير من داخلها وليست من خارجها بأية حال. وفي اتجاه دولة عمومية (Inclusive State) نحو الديمقراطية والتنمية.
10- أطلقت نداءً مكتوبًا عبر منصات التواصل الاجتماعي بشأن ضرورة إيقاف الحرب ووصفتها بأنها أسوأ خيار لتحقيق المطالب والنفاذ إلى القضايا والغايات.. على ماذا أقمت مناشدتك تلك؟ وكيف ترى فعل المثقفين ومواقف القوى المدنية عمومًا حيال ما يجري من تدمير لحق الناس في الحياة؟
لا أعتقد أن هناك في أي نموذج بشري خلافًا إزاء المشروعية في الصراع الإنساني للسلام وليس الحرب، وأن المرجعية إلى القانون يجب أن تكون إلى العدل وليس القوة، هذا مدخل بسيط ومباشر لدعوتي إلى إيقاف الحرب: إعلان المبادئ الوطنية: نحو الوقف الفوري للحرب والشروع في إنفاذ سلطة القانون والالتزام بحماية الحق في الحياة والكرامة.
ودعني اكتفي بمقدمة هذا الإعلان تقديمًا لإطار العمل الذي أراه:
تعي كل الأطراف الوطنية الآن بأن الحرب الحالية هي المهدد الأكبر لحق السودانيين في الحياة وبقاء كيان دولتهم والحفاظ على كرامتهم، كما تهدد السلام والأمن في المنطقة والإقليم. ومهما تكن من مبررات لتحقيق أي أهداف يُعتقد أنها وطنية عبرها إلا أن الحرب أجهضت سلمية الثورة السودانية، وأوقفت أي مسار سياسي لتحقيق أهداف التغيير المشروعة في الحرية والسلام والعدالة، وبطريقة كارثية تتجاوز تعثر هذه المسارات السياسية وقصورها، لتزيد من مهددات بقاء أمتنا وشروط بناء دولتنا وخروجها من أسباب الفشل.
تعلن كل الأطراف الوطنية بأن الأهداف الوطنية لا يمكن تحقيقها بالحرب، ولا يجب أن تخضع شرعية القانون لميزان القوة، ولا يمكن تحقيق المصالح السياسية بالمساومة في الحق في الحياة.
تلتزم كل الأطراف الوطنية وفي مقدمتها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بإيقاف الاقتتال الحالي فورًا وإنفاذ القانون وإنهاء أي تهديد للحق في الحياة والكرامة، عبر إجراءات متكاملة لوقف الاقتتال أولًا، وإنهاء الحرب وإقرار السلم ثانيًا، وأخيرًا ابتكار مسار سياسي سلمي، والدخول في عملية سياسية جديدة من خلال حوار وطني شامل يتجاوز إخفاقات الماضي ومخاطر الحاضر ومهددات المستقبل.
لا أعتقد أن كثيرًا من قوانا المدنية وعلى مستوى نخبنا السياسية تحديدًا قد انتبه الآن إلى ضرورة تغيير منهج الاتفاق السياسي من خلال نموذج المشاركة في السلطة في مواجهة أزمات دولتنا الوطنية، ومن ثم الإسهام في زيادة تناقضات هذه الدولة، بدلًا عن مواجهة تناقضات هذه الدولة من خلال توافق سياسي على إنفاذ حكم القانون. شروط القانون تبحث العدالة وهو ما نحتاجه، وليس شروط السياسة المعنية بالسلطة. وإذا كانت الثورة فرصة لإعادة تعريف السلطة وهياكلها، فالحروب في التاريخ ظلت فرصةً لإعادة تعريف القوانين والتعريف بها بوصفها شرطًا لإنهاء الحروب من خلال إنفاذ سلطة القوانين لا اقتسام النفوذ الذي يجعل من إنهاء الهرب كهدنة إن طالت أو قصرت، فالحرب قد تعود بأسوأ مما كانت عليه. أعتقد أن هناك تغييرًا كبيرًا في عقلنا السياسي حتى وإن لم تنتبه إليه بعد النخب المدنية والعسكرية، واحتفاء واضح في وعينا بالعقل التأسيسي مقابل انحسار العقل السلطوي وفشله حقيقة. هذا قد يقودنا حتى وإن حكم انتهاء هذه الحرب هدنة للاستعداد لها، قد يكون استعداد حركة الجماهير للسلام هو الأسبق من خلال هذه الهدنة، والأقدر على إيقاف الإساءة للسلام.
11- أنتجت الحرب واقعًا شديد التعقيد فيما يتعلق بإرهاصات تفتت الدولة وتفكك أبنيتها ونشوء أكثر من سلطة في جغرافيا الصراع في مقابل بروز انقسامات حادة في الاجتماع السوداني وظهور النعرات الإثنية والمنطق المناطقي وخطاب الهامش والمركز.. كيف ترى ذلك؟
هذا صراع موجود وقديم فعلًا، وهذه الحروب التي قال الصادق سمل عنها "نعم للحرب"، ودعني هنا أستعير كلماته: "نعم للحرب.. الحرب الأكثر نُبلًا.. الحرب التي نأبى ونخشي أن نخوض غِمارها.. الحرب الأكثر ضراوة على تشوهات ذواتنا وعبثنا بالحياة بوصفها حقًا أصيلًا للناس.. الحرب التي تجعلنا ندرك من نحن وما الذي نريد.. الحرب التي نتقبل فيها بعضنا بعضًا.. الحرب التي كانت أمامنا علي الدوام، ولكننا لم نكن شجعانًا بالقدر الكافي لنتسامح وننتصر على كراهيتنا لبعضنا البعض، وإلى أن يأتي أوان هذه الحرب الطاحنة: لا للحرب".
وخلاف ذلك من مظاهر فشل الدولة واجتماعنا السياسي، لقد ظل مجتمعنا على الدوام متقدمًا على الدولة عندنا، وحتى هذه الحرب الآن تقع في جانب تهديد الدولة لهذا المجتمع، لكن لا يمكن أن نغفل هشاشة مجتمعنا أيضًا في بعض النواحي، وهي النواحي التي كان للدولة التقدم فيها عن المجتمع بدلًا عن هذا الاستثمار في التعدد والتباين السوداني – السوداني من خلال تعزيز الانقسام لا تأكيد اتحادنا وفق قاعدة المستعمر الدائمة "فرق تسد". كثير من الساسة ظلوا يعيدون ترديد هذه الدعوى في استسهال انقسامهم المدني من خلف مقولة منسوبة إلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير: When you decide you divide، متناسين أنه يمكننا أن نقرر أن نتحد! We can decide to unite
12- ما هي شروط التسوية وأفق المعالجة الممكنة في خضم سيل المبادرات الإقليمية ومنبر التفاوض القائم في جدة؟
المجتمع الدولي يتحرك في فراغ وطني عريض من المبادرة الوطنية، وأعتقد أن الحركة السياسية لم تغادر محطة تخندقها حول نفسها منذ قبل الحرب، وهي تمضي في الاتجاه نفسه لاحتكار تمثيل الصوت السياسي المدني من دون تتعلم أي شيء. ينطبق هذا على قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي وأيضًا على الكتلة الديمقراطية، وتخاطب هذه المكونات مصالحها المباشرة في السلطة غير عابئة بأهوال الحرب ومعاناة الناس، وذلك من خلال التحالف المعلن أو المستتر مع طرفي الحرب من دون أن تخفي دعوات رفض الحرب عند الطرفين، وأعتقد أيضًا أن النظام القديم قد تمترس خلف الحرب أيضًا، وأصبح محرجًا لطرفيها، فلا يمكننا إغفال كوادر الإسلاميين السابقة بين قوات الدعم السريع أيضًا.
في هذا التواري خلف طرفي الحرب تتخلى الحركة المدنية السياسية عن دورها الأساسي، في حين تقف الإرادة الدولية عاجزةً أمام غياب الإرادة الوطنية لإيقاف الحرب. وقد كشفت لقاءات جدة عن أشياء محددة يجب الانتباه إليها: فشل أي هدنة على الأرض لأغراض إنسانية في ظل غياب رؤية واضحة لإنهاء الحرب. وقد شهدت فترات الهدنة المعلنة تصعيدًا للقتال بين الطرفين غير مسبوق. أي محاولة لإعادة تعريف النزاع الحالي خارج سياق تمرد قوات نظامية وانقسامها سيدخل السودان في انقسام سياسي ومجتمعي أكبر مما هو عليه الآن، وهذا ما يعززه مع الأسف أداء الأطراف المدنية الحالي.
عدم وجود التزام واضح بقضية العدالة مع حجم الانتهاكات الكبيرة الآن سيغلق الطريق أمام أي حل جدي للنزاع، ويجب ألا تستخدم اللجان الدولية التي تشكلت الآن للتحقيق في حرب نيسان/أبريل كأداة للضغط على الأطراف المتحاربة لتجلس للتفاوض فقط، بل يجب أن تأتي تعبيرًا عن التزام المجتمع الدولي بالعدالة.
مع فشل الحركة السياسية المدنية في إدارة الانتقال الآن لا بد من أن يشمل تعريف الأطراف المدنية أصحاب المصالح المباشرين في أي عملية سياسية مستقبلًا، وإضافة إلى ضحايا النزاع لا بد من الانتباه إلى المخدمين في الدولة – وأقصد هنا جهاز الدولة البيروقراطي خلاف القوى الأمنية، أي المدني، وقطاع الأعمال من أصحاب العمل، ولا بد من الوعي بدور هذه الأطراف واستعادة أدائها القانوني والكفء في إعادة الإعمار بعد الحرب.
أخيرًا يجب أن نتخلى عن فكرة إعطاء القوات المسلحة بوصفها القوة الأولى في الدولة سلطة سياسية سيادية في حالات الانتقال والفراغ الدستوري كما هو حادث الآن، وغياب سلطة مفوضة شرعية، ونقل هذه السلطة إلى الجهاز القضائي كمدخل لجعل سلطة القانون هي الأولى في الدولة وليس سلطة القوة.