في فجر الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، وأنا جالس على كرسي خشبي في كامل حُلتي، ارتشف فنجانًا من القهوة الأفريقية ذات النكهة المميزة، وأتابع بشغف بزوغ الشمس من نافذة يملؤها دخان سيجارة سودانية الصنع – اختلط الدخان الصاعد بحبيبات المطر، وشكلا لوحة غلب عليها اللون الرمادي. قطعت زوجتي اللحظة "الخرطوم انضربت". انقطع حبل التفكير، لم تبارح تلك العبارة ذاكرتي حتى الآن، شرد ذهني وعاد إلى العام 2003م، استرجعت صور وصول الأفراد والأسر الحفاة العراة من المناطق المتاخمة لمدينة الفاشر. في بادئ الأمر كانت هناك أعداد قليلة منهم، وبعضهم يغطي الجزء السفلي من جسده بقطعة بالية من القماش. وبحلول نيسان/أبريل من ذلك العام، جلب النزوح الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن، افترشوا أوراق الأشجار والثياب الرثة وبعض سجادات السعف.
بعد عقدين من عبث الجنرالين بدارفور، يشهد السودان موجة جديدة من النزوح؛ آلاف الأسر غادرت منازلها في الخرطوم مكرهة نحو ولاية الجزيرة
"ليس من طريقة نعرف بها أخبار الناس؟" تقول زوجتي انقطعت الاتصالات، أمي وأختي وإخواني!! تقول ذلك بانفعال وقلق سوداني خالص، حزن تلك اللحظات خيّم على سماء كمبالا المدينة الماطرة.
في الأسبوع الثالث من نيسان/أبريل هذا العام، اشتدت الهجمات على المدنيين، عقب موجة تبادل اتهامات بين الجنرالين العابثين، يقول الأول: "كتيبة من الجيش حاصرت معسكراتنا بمنطقة سوبا غرب والمدينة الرياضية"، فيما يتندر الآخر بلغة تهديدية تصف قوات الأول بـ"المتمردة"؛ ويقول لقد هاجمت قواته وحاصرت منزلي بالقيادة العامة. إنهما بذلك يعلنان تعطشهما لدماء الفرائس، يا لهول الحرب العبثية!
بعد عقدين من عبث الجنرالين بدارفور، يشهد السودان موجة جديدة من النزوح؛ آلاف الأسر غادرت منازلها في الخرطوم مكرهة نحو ولاية الجزيرة، كعادتها وتقاليد كرم شعبها، اصطف الجميع على طول طريق الخرطوم – ود مدني، يقدمون المياه والمشروبات الرمضانية، ويفتحون بيوتهم لمشاركة المحنة مع الفرائس الفارة من جحيم الجنرالين.
تتزايد الأعداد في كل يوم، حدثت نفسي بضمير موظف عمل إنساني، انصب اهتمامي في كيفية توصيل المساعدات إلى الفارين، بينما تحمل الأخبار تصريح والي ولاية الجزيرة إسماعيل عوض الله: "يضغط الفارون على الخدمات بالولاية". لا ينكر أحد أثر النزوح على البنية التحتية الضعيفة، المدارس، الجامعات، مزارع الدواجن، حنتوب، النوادي، المساجد في العاصمة ود مدني، إذ بلغ عدد مراكز الإيواء (25) مركزًا في أنحاء مدني والحصاحيصا. قلت لنفسي إنها الجزيرة، الرئة التي يتنفس بها السودان طوال عمر الحروب العبثية، ابتداءً من جنوب السودان والنيل الأزرق ودارفور والآن الخرطوم. أجزم بأن السيد والي الجزيرة لم يسمع بشعار ثوار اعتصام القيادة العامة "عندك خُت ما عندك شيل"، هذا الشعار الذي يعكس قيم التضامن والتكافل والمشتركات بين جموع السودانيين. الحروب العبثية لا تغير في روح التضامن الإنساني بيننا، فهبت مدن أخرى وأطلقت المبادرات لاستقبال الفرائس الهاربة من جحيم الحرب.
بعد أسابيع، توقفت الحركة، تقطعت بالبعض السبل، دفع من بقي حياته هدرًا وعبثًا، ارتفعت وتيرة التهديدات في مناطق أخرى، قضى خطاب الكراهية على الأخضر واليابس، دفع الشيوخ والنساء والأطفال والجثث المتفحمة بغرب دارفور عواقب الكراهية؛ وكذلك يدفع العالقون في المعابر فاتورة عجز الدولة عن حمايتهم.
نفسيًا وإنسانيًا، لا أستطيع تخطي هذا الوضع، تؤلمني الذاكرة.. عاش النازحون بدارفور أكثر من (20) عامًا تحت مشمعات البلاستيك لا تحميهم من هجير الشمس ولا الأمطار أو انتهاك الخصوصية.. يا.. من كارثة النزوح المطول!
واقع الذين هربوا من الخرطوم لا يختلف كثيرًا، هناك قلة لديها مقدرة السفر إلى منطقة أو دولة أخرى، البعض يسعى إلى الاستمرار في الهجرة إلى ملاذ آمن، يعبرون الولايات، يعبرون الحدود، ويُطلق عليهم لاجئون.
ارتفعت أصوات دولية خجولة، تقول إن هناك حاجة ماسة إلى مضاعفة الجهود في مراكز الإيواء وتقديم الخدمات الإنسانية. وحذر منسق الأمم المتحدة للإغاثة الطارئة من أن "الوضع الإنساني في السودان على وشك الانهيار، بعد أسابيع من اندلاع الاشتباكات في الخرطوم ومناطق أخرى". وتصريح آخر من مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية يقول: "بعد اندلاع النزاع في 15 أبريل، أصبح أكثر من نصف السودانيين في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية والحماية". يتطلب هذا الوضع استجابة عاجلة، الإغاثة ليست حلًا مناسبًا لمؤشرات النزوح طويل المدى، وإنما إيقاف الحرب، رفع التهديدات عن العالقين في الخرطوم والمناطق الأخرى، هي ما تتيح تقليل آثار الكارثة الإنسانية. تقول زوجتي: "العقبات كثيرة ما هو الحل؟".. وفي محاولة يائسة قلت لها: "الضمير الإنساني الحي والصادق يدعو إلى تسوية الأزمة، لأنها متعددة الجوانب".
كانت تلك آخر محاولة لأطمئن نفسي وأسرتي بالعودة إلى منزلنا قريبًا.