27-مايو-2024
فركة القرمصيص من الحياة الاجتماعية في السودان

فركة القرمصيص تعكس التطورات والتغيرات التي شهدتها السودان عبر العصور

تتسم الحياة الاجتماعية في السودان بتنوع ثقافي يمتد ليصل للعادات والتقاليد الخاصة بالزواج والتي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية. هذه الطقوس والعادات التي تمثل المرآة التي تعكس أنماط تفكير المجتمعات. وفي السودان على وجه الخصوص تتباين هذه العادات وتتفاوت تبعًا لعادات القبائل والشعوب فيها، كما أن هذه العادات وإن لم تسقط كلها مع مرور الزمن إلّا أن منها ما بقي ومنها ما سقط بالتقادم ومنها ما تغير ليتناسب مع طبيعة الحياة اليوم ليظل شاهدًا على الإرث الاجتماعي والثقافي.

وتتفاوت عادات ومراسم الزواج في السودان تبعًا للمنطقة كما ذكرنا إلّا أن الشائع منها يبدأ بقولة الخير وهي الرد بالخير على أهل العريس بالقبول، يليها الخطوبة والعقد، ثم الجرتق وهو أحد المراسم والطقوس الهامة في حفلات الزواج في السودان ترتدي فيه العروس ثوبًا باللون الأحمر وفركة القرمصيص تزين رأسها، والرحط على خصرها والقيام بنثر الحلوى على المعازيم وما يرافق الجرتق من طقس حنة العريس التي تسبق الجرتق أو تليه وفقًا لما تتيحه الظروف، وصولَا إلى طقس رقيص العروس قبل الزفاف وفطور العريس بعده.
 

فركة القرمصيص.. من أزياء العروس السودانية في الجرتق

فركة القرمصيص التي ترتديها العروس وتغطي بها رأسها وجهها في طقس الجرتق هي قطعة من القماش باللون الأحمر تحديدًا وإن تداخلت فيها الخطوط بالألوان الزاهية المختلفة، وهو اللون الذي يكتسح هذا الطقس بانتصار فهو بدلالته الرمزية على البداية الجديدة والانتقال لمرحلة حياتية اجتماعية مختلفة.

عندما يبدأ طقس الجرتق ترتدي العروس الثوب التقليدي وتغطي رأسها ووجهها بفركة القرمصيص، ويرتدي العريس ثوبًا أبيضًا تتداخل فيه الخطوط الحمراء يدعى السُرتي. كما يطغى اللون الأحمر على المكان من زينة وأقمشة وأدوات. لتبدأ بعدها مراسم الجرتق من طقس رش اللبن أو بخ اللبن كما يعرف وفيه يحاول كل من الشريكين نفث اللبن بوجه بعضهما ومن يتمكن من ذلك يكن هو الفائز ويحظى بالتصفيق.
 

فركة القرمصيص اليوم.. ما تزال حاضرة 

مع دخول الكثير من العادات المحدثة من التوجه للقاعات وإقامة حفلات الزفاف فيها، إلّا أن الطقوس والموروث الثقافي  يبقى حاضرًا في حفلات الزفاف في السودان، فاليوم يقام الجرتق عادة في نهاية حفلات الزفاف في القاعات حيث يعمد القائمون على تجهيزات القاعة بتغيير الديكورات سريعًا ليطغى اللون الأحمر في كل مكان، وترتدي العروس ثوبها والقرمصيص على وجهها ويرتدي العريس السُرتي، وتزين خصرها بالرحط وهي حريرة تلف على خصر العروس، يضيف لها البعض الحلوى والبلح، ثم تبدأ طقوس الجرتقة وفيها يجرى جرتقة العريس بوضع حريرة حمراء فيها هلال ذهبي على راسه  كما توضع الضريرة على جبهته وهي مسحوق من العطور الجافة وتكون طقوس الجرتقة وسط زغاريد النساء وغناء البنات على أنغام الدلوكة.

يمه خليني يمه خليني

خير النور بناديني

كان فركة بكسيني

تحاك فركة القرمصيص اليوم وتصمم بإضافات وتصاميم مبتكرة
تحاك الفركة اليوم وتصمم بإضافات عديدة وتصاميم مبتكرة فيزينها البعض بالجنيهات الذهبية

تحاك الفركة اليوم وتصمم بإضافات عديدة وتصاميم مبتكرة فيزينها البعض بالجنيهات الذهبية على حوافها لتصبح مزركشة مزادانة أو بأي من أنواع أحجار الزينة، وأصبح يصمم ويُحاك من القرمصيص أثوابًا وعباءات لتردى في مثل هذه المناسبات المميزة. كما قد طرأ عليها العديد من التغييرات في الأزياء والزخارف؛ فقد شهدت نقوشها وزخارفها تغييرات مع الوقت حيث اعتمدت أنماط وتصاميم جديدة تتناسب مع التطورات في عالم الموضة.

تحاك فركة القرمصيص اليوم أثواب
يُحاك من القرمصيص أثوابًا وعباءات

تشكل العادات والطقوس في السودان مزيجًا فريدًا من الموروث الثقافي

الأصول التاريخية للجرتق وفركة القرمصيص

لا يرتبط طقس الجرتق في مراسم الزفاف فقط ولكنه يعود كذلك لطقوس ختان الذكور في التراث السواداني، ليشمل الجرتق طقوس الزواج والولادة والختان وإن كانت لا تطبق في المناسبتين الأخيرتين بشكلِ شائع كما هي في الزواج. وفي البحث في أصول هذه الطقوس والعادات يجد الباحثون أن لا جذور عربية لها، وقد يرجع بعضًا منها لجذورٍ فرعونية، إلا أنها وفق قاموس اللهجة العامية في السودان كلمة نوبية (وسط وشمال السودان النيلي) حيث تعني كلمة جرتك في النوبية الزينة التي تلبس في مناسبات الختان والزواج. وبالتالي هي طقوس سودانية تعود للمناطق الوسطى من نهر النيل التي تعد قلب الممالك السودانية النوبية القديمة، هذه الطقوس التي تعبر عن الحماية من الحسد ودفع الشر والرمز للخصوبة إذ يتجلى ذلك بوضوح في الأدوات التي توجد في طقس الجرتق وفي لون فركة القرمصيص الأحمر.

لذا تشكل العادات والطقوس في السودان مزيجًا فريدًا من الموروث الثقافي فإن كانت نوبية الأصل فقد خالطها بعض الإرث الفرعوني وامتزجت بالموروث الثقافي العربي الإسلامي وانسجمت معه، حتى أن العروسين في مراسم الجرتقة يجلسان مستقبلان للقبلة، ونجد تجليًا لذلك في تكرار بعض الطقوس بعدد 7 مرات وربطها بمدلول عقائدي عن أحد أنهار الجنة.

اللون الأحمر لفركة القرمصيص يعبر عن رمزية أساس الحياة وعن القدرة على وقف نزيف الدم.

 رمزيات اللون الأحمر في فركة القرمصيص وفي أدوات صينية الجرتق

فركة القرمصيص الحمراء والحريرة الحمراء التي يعصب بها رأسي العروسين، والعديد من الأدوات في صينية الجرتق تحمل مدلولات ورمزيات بموروثات ثقافية متصلة ومتداخلة وهذا تعبير موجز عن دلالة بعضها وفقًا لكتاب دراسات في الفلكلور السوداني لمؤلفه الدكتور نصر الدين سليمان:

  • اللون الأحمر لفركة القرمصيص ولحريرة الجبهة ولمعظم الأدوات في الجرتق يعبر عن رمزية أساس الحياة وعن القدرة على وقف نزيف الدم في الزواج أو الختان أو الولادة. كما للحريرة الحمراء دلالة عقائدية تهدف إلى الحماية الجماعية.
  • عظم السمك في صينية الجرتق؛ يرمز إلى الخصوبة والبقاء. وهو من الآثار الثقافية الرومانية كذلك حيث يدل على خصوبة المرأة.
  • سبحة اليسر؛ وهي سبحة فيها 99 حبة من المرجان الأسود ويعتقد أن لها خواص سحرية.
  • عقد السوميت؛ وهو عقد من الأحجار الكريمة يرتدى حول الرقبة.
  • الهلال؛ وهو يعلق على جبهة المختون أو المتزوج وهو حرز بابلي والهلال رمز للإله شاماس أحد الآلهة الرئيسية في سومر.
  • الضريرة؛ وهي مجموعة من العطور الجافة توضع على جبهة العريس في الجرتق وترمز لطرد الأرواح الشريرة.
  • الضفرة؛ وهي قشور تؤخذ من التمساح كدلالة حرزية ترمز للخصوبة.
  • الحُق، ويعرف بالقفل مصنوع من الخشب وهو مخصص لحفظ الروائح العطرية.
  • السيف والسوط، أحراز من العين ولها رمزية رجولية. ويعد السوط إرثًا من الثقافة السنارية.
  • جريد النخل؛ الأداة الوحيدة في الجرتق ذات الجذور العربية والتي تعبر عند العرب عن الخصوبة والنماء.
  • الأجعال؛ من الثقافة الفرعونية وترمز للآلهة راع، وتستعمل كحروز.

صينية الجرتق وأدواتها
الأدوات في صينية الجرتق تحمل مدلولات ورمزيات بموروثات ثقافية متصلة

 

تعكس أصول ارتداء فركة القرمصيص القيم الاجتماعية والثقافية الهامة في المجتمع السوداني القديم، وتعتبر هذه الطقوس والمراسم جزءًا من تكوين الفتاة وتحضيرها للزواج والدور الذي تلعبه كامرأة بالغة في المجتمع. كما تشير الأساطير والقصص التقليدية في الموروث الثقافي إلى أن ارتداء فركة القرمصيص كان يُعتبر مرحلة انتقالية هامة في حياة الفتاة وتعبيرًا مثاليًا عن عش الزواج المستقبلي. والتعرف لمدلولات هذا الإرث الثقافي ورمزياته وأصوله الضاربة في التاريخ لا يقل أهمية  عن ممارسته  والانسجام معه.