في بدايات هذه الحرب الدائرة الآن في السودان، انتشرت جملة موحية تلخص معنى الحياة في دلالة بليغة، من أحد حسابات قوات الدعم السريع التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. تقول الجملة البليغة "دنيا زايلي وزايل نعيمكي"، وقد راجت واستخدمت بكثافة وقتها في صور متعددة إلى الحد الذي اقتربت فيه من "الإفيه" الساخر، لا سيما حين يتم قرنها بواقع الحرب المحيل إلى موت وخراب، وهو السياق الذي أنتجت فيه، وأخرجها من نطاق تداولها البدوي المحدود لتتحول تدريجيًا بعد ذلك إلى جزء من الثقافة الشفاهية والحكمية على مستوى الذاكرة الجمعية، حضارية كانت أم بدوية.
من العلامات الطريفة واللافتة في صورة "قارئ ماركس"، أن هذا الجندي المقاتل بعكس أفراد الدعم السريع، لا يرتدي الزي الرسمي لهذه القوات، الذي اقترن بدوره بعنف هذه القوات وممارستها للكثير من الفظائع الإنسانية في حق المواطنين السودانيين
استحضرت هذه المقولة "الحكمة" وأنا أتابع الانتشار الكبير لصورة فرد من قوات الدعم السريع، يبدو جالسًا في استغراق وهو يقرأ كتاب "رأس المال" لكارل ماركس. وربما الرابط الذي دفعني إلى استحضار المقولة وربطها بالصورة، ما رأيته من "حس نقدي" مستبطن في داخل الصورتين، الكلامية والفوتوغرافية، فالعقل الذي أنتج المقولة الأولى بلا شك عقل نقدي متفكر، بغض النظر عن أساسه التعليمي أو دافعه الفلسفي من وراء التفكر في الوجود والحياة، أكان ذلك امتداد الصحراء اللانهائي أم بحسّ المسلم الذي لا يرى في الحياة نهاية سوى معبر مؤقت وزائل وإن تراكمت أنعمه وتحققت فيه السعادة والهناء. أما الصورة الأخرى "الفوتوغرافية" فرأيت فيها -بعكس كثيرين- توقًا معرفيًا كبيرًا دفع صاحبها إلى محاولة قراءة أحد أكثر الكتب تأثيرًا في العصر الحديث. كما يشير فعل القراءة نفسه إلى اتجاه نقدي متحدٍّ يدفع صاحبه إلى مقارعه كتاب يعد من الكتاب المعقدة في الفلسفة والاقتصاد والتاريخ.
النظر من أعلى
قد يرى البعض أن صورة "قارئ رأس المال" ليست سوى محاولة رخيصة من إعلام الدعم السريع لإشاعة صورة زائفة ومتناقضة عن قواتها وأفرادها المقاتلين، وكأنما تقول: نحن لسنا مثل ما يشاع مجرد أميين أوباش، بل على العكس بيننا المثقفون والمتعلمون، والمؤدلجون والقراء النوعيون. قد يكون ذلك صحيحًا، وقد تكون أيضًا الصورة عفوية لا تخرج عن دائرة الافتتنان المبالغ فيه لأفراد قوات الدعم بالتصوير والتوثيق لكل شيء، حتى وإن أدى ذلك إلى موت أو إدانة ملتقطها، أو من يظهر فيها. ما يعنيني هنا أن الصورة أثارت موجة كبيرة من السخرية والتنمر على صاحبها وثقافته البدوية المفترضة. سخرية قاسية أطلقت حكمًا قاسيًا باستحالة تمكن مثل هذا "المقاتل" من قراءة وفهم كتاب بحجم "رأس المال"، أو إظهار التناقض ما بين الفعلين الممارسين من قبل هذا القارئ – المقاتل، أي فعل القتال إلى جانب قوات الدعم السريع، وفعل الاستنارة المقترن بقابلية القراءة النقدية المتفحصة. هل كان بإمكان بعض هؤلاء الساخرين "العارفين المتمدنين"، النزول قليلًا من قمة جبل "الاستنارة" ومحاولة قراءة دلالة الصورة من زاوية أخرى، غير زاوية الإدانة والحكم بالجهل – العدم؟ هل يمكنني القول إن هذه الصورة تمثل في بعد من أبعادها صورة نقيضة للصورة النمطية عن مقاتلي الدعم السريع أو "حواضنهم الاجتماعية - البدو"، وتفتح نفاجًا صغيرًا للاقتراب والتحاور والفهم؟ فهي في شكل ما تعني الانتقال إلى "الملعب المديني المفترض"؛ دائرة الحوار والسؤال والتفكر.
الأبرول الأزرق
من العلامات الطريفة واللافتة في صورة "قارئ ماركس"، أن هذا الجندي المقاتل بعكس أفراد الدعم السريع، لا يرتدي الزي الرسمي لهذه القوات، الذي اقترن بدوره بعنف هذه القوات وممارستها للكثير من الفظائع الإنسانية في حق المواطنين السودانيين، سواء في غرب السودان أو في وسطه "الخرطوم والجزيرة". هل تعمد صاحب الصورة التخلص أولًا من هذا الزي بشع السمعة قبل أن يلتقط صورته برفقة وجه ماركس وكتابه "رأس المال"؟ وهل من المصادفة أيضًا أن يكون الزي الذي ظهر به في هذه الصورة زيًا أشبه بالأبرول العمالي المعروف بلونه الأزرق وإحالته الأيقونية المعروفة ذات الرباط الوثيق بالفكر الماركسي، والعمق المكنوز في هذا الكتاب تحديدًا؟ أم أن الأمر برمته لا يخرج عن مفارقة طريفة أخرجتها لحظة التصوير –العفوية أو المتعمدة– لجندي يعمل في الأسلحة التي تعرف بـ الأسلحة الميكانيكية؟ وإن كان الأمر كذلك فإنه يؤشر على نزوع إلى التمرد على المستوى الفكري، ومحاولة للخروج من دائرة الرمزية القتالية المقترنة بالانتماء إلى قوات الدعم السريع، وكسر بيضة الفكرة الجهنمية لإنشاء هذه القوات باعتبارها مفرخًا للمقاتلين الشرسين، ومغنطيسًا جاذبًا للحروب والموت والإفناء.
الصورة النمطية
كيف يمكننا التعميم على مجموعة كاملة من البشر والقول بقطعية إنها –مثلًا– دموية، لصوصية وجاهلة؟ هذه الإطلاقية في التوصيف والنعوت أليست في حد ذاتها حثًا على الكراهية ودفعًا للآخر بإنتاج "صورتنا الذهنية" الخاصة لديه، وتغذيتها بما يوازي من نعوت تحقيرية وعدائية؟ الحرب تقترب من إكمال العام الأول ولا يلوح أفق للحل في المستقبل القريب، ومستوى الاحتقان الشعبي وصل مداه، تغذيه دعوات الكراهية من هنا وهناك، مستندة على واقع الحرب الفظائعي. هل بإمكاننا استثمار مثل هذه "الصورة المعرفية" لمقاتل الدعم السريع في محاولة لإسكات صوت الرصاص وإبداله بصوت الموسيقى بغض النظر إن كانت في سلمها الرسمي "الخماسي"، أو سلمها البدوي "السباعي". هل بإمكاننا استنادًا على "صورة قارئ ماركس" استعادة التجربة الفريدة لمشروع "القراءة للجميع" الذي ابتدره "مشروع الفكر الديمقراطي"، أو استعادة تجربة "المكتبات العامة بالولايات" الذي شاركت في تأسيسه الكاتبة والروائية ستيلا غايتانو؟ نعم، الحرب لا تدع لنا مجالًا لفعل شيء، لكنها ستتوقف آجلًا أو عاجلًا، وبإمكاننا منذ الآن وقبل توقفها بذر بذرة المعرفة والاستنارة ودفع مقاتل ما إلى تحطيم بندقيته وشراء كتاب بثمنها.