ما بين تأكيد "مزاعم" نفاذ علي كرتي وزير خارجية حكومة البشير الأسبق وقدرته على تشكيل القرار داخل المؤسسة العسكرية، ومحاذرة توجيه اتهام مباشر لقيادات الجيش من وزارة الخزانة الأمريكية؛ تباينت الآراء حول دواعي وتداعيات قرار فرض عقوبات على القيادي الإسلامي المثير للجدل وهو يبلغ مقام أمانة الحركة الإسلامية في السودان في زمان مفصلي خلفًا للدكتور الزبير أحمد الحسن الذي قضى في سجون الفترة الانتقالية.
تباينت الآراء حول دواعي وتداعيات قرار فرض عقوبات على القيادي الإسلامي المثير للجدل علي كرتي وهو يبلغ مقام أمانة الحركة الإسلامية في السودان في زمان مفصلي
وأتى الإعلان مقرونًا بفرض عقوبات جديدة على شركتين تابعتين لقوات الدعم السريع هما "جي إس كيه" لتكنولوجيا المعلومات ومقرها الخرطوم، وشركة الإمدادات العسكرية "أفياتريد" ومقرها روسيا. وقال بريان نيلسون وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، إن "إجراء اليوم يحاسب أولئك الذين قوضوا الجهود المبذولة لإيجاد حل سلمي في السودان".
من جانبه استنكر الناطق الرسمي للحركة الإسلامية السودانية القرار الصادر بحق أمين عام الحركة، واصفًا إياه باسترضائه من أسماهم "أبواق الغرب" وهم يتهمون قيادة الحركة الإسلامية بإشعال الحرب و"هي منها براء"، مبينًا وقوف الحركة وأمينها منذ ما وصفه بـ"الانقلاب العسكري الذي جرى في 11 نيسان/أبريل 2019" - وقوفها منحازة لصف المحافظة على سلامة البلاد وأمنها واستقرارها، معتبرًا القرار الأمريكي "قلادة شرف على صدر الأمين العام للحركة الإسلامية وهو يبذل نفسه وجهده وماله في سبيل الله والوطن".
بينما رأى خالد عمر يوسف الناطق باسم الحرية والتغيير في حزمة القرارات التي طالت الحركة الإسلامية "اختلافًا نوعيًا" يؤكد قوة أدلة وضلوع عناصر النظام السابق في الكارثة التي تحل ببلادنا، مشيرًا إلى بيان وزير الخارجية الأمريكي حول الدور الهدام الذي قامت به عناصر النظام السابق لتقويض الانتقال. وكانت النقطة الأهم -بحسب خالد- ما ورد بخصوص وقوفهم في وجه محاولات توصل إلى اتفاق للتهدئة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.
تأرجح بين قراءتين
ورأى قطاع وازن من المحللين في القرارات المعلنة وفق الأمر التنفيذي (14098) القاضي باستهداف من يعيقون التحول الديمقراطي واستقرار السودان، تأرجحًا بين قراءتين: الأولى ترى في القرار رسالة تظهر التعامل بنحو حاسم مع خطوط التأثير الخفية والضغوط الممارسة على قيادة المؤسسة العسكرية من "التنظيم الخاص في الجيش" المُدار مدنيًا بعد تقدمه لشغل منصب أمانة الحركة الإسلامية على التتابع في آخر عهد الإنقاذ وبعدها، إذ يُعد الأمين العام السابق الزبير أحمد الحسن والأمين اللاحق علي كرتي أبرز وجوهه، في دلالة تعكس لدى مطلعين على بواطن الأمور أن حقبة الإنقاذ التي انتهت لم تلبث أن أعادت إنتاج نفسها عبر تأثيرات مكونات الإسلاميين في الجيش، والضغط الهائل الذي تمارسه من خلال رجالها داخل المؤسسة. كما ظلت تبعث أبنية الوعي المضاد من إشارات وإثارات بأن من أشعل الحرب و"أطلق الرصاصة الأولى" هم إسلاميو الجيش، وهو تحليل يتسق مع ما ذكره رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان\شمال - التيار الثوري الديمقراطي"، القيادي بالحرية والتغيير ياسر عرمان، بأن الحرب "أصابت الإسلاميين في قوتهم الصلبة"، ويتماهى مع تصريحات متطابقة لقوى الإطاري وآلة إعلام الدعم السريع تؤكد ذات المزاعم.
قراءة أخرى ترى في القرار أثرًا من عمل جماعات الضغط المرتبطة بقوى إقليمية ودولية متحالفة مع مشروع الدعم السريع، وهي تحاذر من إصدار عقوبات مباشرة على قيادات المؤسسة العسكرية كونها تمثل موضوع الضغط والإرغام. فمثلما انصرفت العقوبات عن قائد الدعم السريع إلى نائبه لتدفعه إلى إبرام اتفاق يوقف الحرب؛ أرادت الولايات المتحدة أن تمنح قيادة الجيش "مسوغات براغماتية" للذهاب في مشروع التسوية المراد إنفاذها عبر منبر جدة. بحسبان أن الإسلاميين وفئات مجتمعية مقدرة تغلب خيار الحسم العسكري مهما بلغت كلفته.
تنافس انتخابي أمريكي
وينظر دكتور عبدالرحمن عبدالله المحلل والباحث في قضايا الأمن القومي، أن قرار فرض عقوبات على كرتي مرتبط بمفاعيل التنافس الانتخابي بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة، وتأثيرات جماعات الضغط والصراع الحاد بينهم على خلفية ما أبرزته قضية السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، ودور المال السياسي في أقوى البيئات الديموقراطية التي تجتاز أزمات حقيقية.
وتساءل د. عبدالرحمن عبدالله في حديثه لـ"الترا سودان"، حول "الجدوى الفعلية" لقرار العقوبات، لجهة أن كرتي مهما بلغ نفوذه لن يستطيع أن يملي شيئًا على مؤسسة هي مناط تعريف الدولة بوظيفة الاحتكار الشرعي للقوة. علاوة على أن كرتي ليس قياديًا رفيعًا في القوات المسلحة وليس من دليل يمكن تقديمه على ضلوعه في تدبير قرارات هذه المؤسسة في أي وقت من مرحلة "ما بعد ديسمبر".
وفي انتقاد لمسلكه اعتبر د. محمد فقيري الفاعل السياسي والمختص بقضايا التجديد والفكر السياسي، أن نموذج كرتي في قيادة الحركة الإسلامية وسيرته التي سارها في التخفي وكمون التنظيم نفسه بعد عهد تمكينه بالسلطة، قد أرجع العمل الإسلامي إلى مراحل الاستثناء، لدرجة أن مؤتمر ترشيحه أمينًا عامًا أتى سريًا بذات الدواعي. ولم تقدم الحركة -بحسب فقيري- أي رؤية لواقع ما بعد زوال الإنقاذ، معللًا ذلك بسيطرة ما اصطلح عليه باسم "العقل الأمني" وتغليب وجوه العمل الأمني على السياسي الحواري والتفاعلي، والتحكم المطلق في المسار السياسي للتنظيم على خلاف نموذج الدكتور الترابي الذي حذر من خطورة العمل السري، وأذاع ما كان يقال في الغرف المغلقة ليكسر حدة النمط الأمني في تنظيم الإسلاميين، وأقام مؤتمرات حزبه في العلن.
ومن المفارقات التي يرصدها فقيري، أن الترابي الذي نافح عن فكرته علنًا لم تصدر في حقه أي عقوبات رغم العداوة التي كانت توجه إليه، إذ كان متهومًا بممالأة الإرهاب لأنه لم يستشر بشأن أفكاره ورؤيته، أما كرتي -والقول لم يزل لفقيري- فقد أتته العقوبات من الباب الذي ظن به تطويع كتلة الإسلاميين والواقع السياسي، كذلك بالاستسرار وممارسة التقية، ومن مكمنه يؤتى الحذر.
مشروع حكم ليبرالي
يقرأ ذلك مع فوارق أوجه المقارنة على صعيد السياقات وخصوصية الظرف والتباس العلاقة المدنية العسكرية في الحوزة التنظيمية، وتعقد أبعاد المشروع الخارجي والذي لم يكتفِ بزوال دولة الإسلاميين بل تعقب مواطن وجودهم ومظنونات تأثيرهم ولو أدى ذلك إلى هدم معبد الدولة على رؤوسهم.
ربما ذهب القرار أبعد مدى وهو يحاول وضع العقبات والعراقيل أمام عودة الإسلاميين مستقبلًا ويفسح المجال في الآن ذاته للقوى المدنية الصاعدة ضمن مشروع حكم ليبرالي في طور انتقال طويل على خلاف الخبرة السودانية
وربما ذهب القرار أبعد مدى وهو يحاول وضع العقبات والعراقيل أمام عودة الإسلاميين مستقبلًا ويفسح المجال في الآن ذاته للقوى المدنية الصاعدة ضمن مشروع حكم ليبرالي في طور انتقال طويل على خلاف الخبرة السودانية التي تمضي للانتخابات بعد عام ونصف إلى عامين في أحسن الأحوال أو أسوأها وفق مناظير متعارضة، بيد أن القرار من شأنه أن يرسم مسارًا مغايرًا ويستخدم في تجلياته أقصى إكراهات اللعبة الغربية ومضاغطاتها، تارة بالإغراء وأخرى بالإرغام.