في الغالب لا يُخفي السودانيون امتعاضهم من صورة زائفة رسمتها لهم الدراما العربية، لا تمت للواقع بصلة، وتقدمهم في مجمل المسلسلات والأفلام بملامح باهتة، مثل أن تلاحقهم على نحو أكثر بشاعة صفات الكسل والوصم بالإرهاب، ولون البشرة، والمِزاج العكر، دون أي فكاك، وباستثناءات قليلة من ذلك التنميط الجارح .
اعتادت الدراما العربية على تنميط السودانيين بصورة مسيئة لا تمت للواقع بصلة، تربطهم بالكسل وتوصمهم بالإرهاب وتسخر من لون بشرتهم
كالعادة لم تغب الشخصية السودانية في الدراما العربية هذا الموسم، وحازت على حضور مزعج بدرجة ما، دون أن يكون هنالك خطأ من الوهلة الأولى، حيث فجّر عمل درامي باسم "بلوك غشمرة"بثته القناة الكويتية الأولى، موجة غضب عارم في السودان، لعرضه حلقة مسيئة للسودانيين، تصورهم وكأنهم لا يستطيعون الكلام ويميلون للنوم والكسل، ويعيشون على نحوٍ محفز للاستهزاء والسخرية.
اقرأ/ي أيضًا: دراما الإرهاب تفاقم تعقيد علاقة السودان بمصر.. ماذا فعل أحمد عز؟
المسلسل رسم صورة غريبة للسودانيين، وهم يغطون في نوم عميق ويتكلمون أثناء نومهم، ويرددون بلا معنى كلمة "آي". بجانب تصويره مراسم الخطوبة كأنها عقد بيع بمقابل مالي، ما أثار حالة سخط وغضب عارمة وسط السودانيين. ونتيجة لردة الفعل الغاضبة والمستنكرة، أعلن الممثل الكويتي حسن البلام اعتزاله التقليد، مقدماً اعتذاره عن أي إساءات بدرت منه، وذلك بعد الجدل التي أثارته حلقة السودان من المسلسل الذي يقتسم بطولته مع رفيقه عبدالناصر درويش.
المثير في الأمر أن هذا المسلسل لم يزعج الجهات الرسمية، مثل مسلسل أبوعمر المصري، الذي أوحى بتصدير السودان للإرهاب، ووجود بؤر لتدريب الإرهابيين في مناطق سودانية، رغم أن الغضبة الشعبية على "بلوك غشمرة" كانت أكبر.
وعلى الضفة الأخرى من النيل، لحق بالمولد الممثل سمير غانم وابنته إيمي، عبر مسلسل "عزمي وأشجان" الذي يعرض على قناتي دبي الإماراتية والنهار المصرية. وتدور قصة عزمي وأشجان حول سارقيْن تطارهما الشرطة في كل حلقة. وفي الحلقة العاشرة كان الموضوع حول فتاة سودانية ووالدها، وتضمنت الحلقة عدة سقطات عنصرية بالنسبة إلى بعض السودانيين، تمثلت في ربط "الدجل والشعوذة" بالسودانيين، كما حوت المشاهد كلمات عنصرية مثل "عبدة" وسخرية من لون البشرة.
موجة السخرية من السودانيين والتنميط الجارح ظهرت من قبل ذلك، حتى في البرامج، كما هو الحال في برنامج "بني آدم شو" الذي يقدمه الممثل المصري أحمد آدم، علاوة على الطريقة التي ظل يعالج بها الكاتب والإعلامي إبراهيم الجارحي مواضيعه عن السودان، حيث انتقل من ممارسة السخرية إلى تجريب الحلاقة العنصرية على رؤوس السودانيين.
موجة التنميط المسيئة للشخصية السودانية بدأت من قبل هذا الموسم الدرامي، وحتى في بعض البرامج كبرنامج أحمد آدم وإبراهيم الجارحي
فكرة السيناريو استوحاها الجارحي من الاحتجاجات على السياسات الحكومية والدعوة لتظاهرات لإسقاط النظام إبان انطلاق ثورات الربيع العربي، وعنونها بالوصف "السودان ينتفض.. جارحي شو". وبمجرّد إذاعة الحلقة انهالت اللعنات على الرجل؛ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حتى لم يتركوا له موضعاً لإخفاء الشعور بالأسى.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. طعنات الإقصاء
الشخصية المحورية في الحلقة هي نموذج لسوداني بالجلباب والعمّة يتحدّث بلكنة أعجميّة، ووجه مطلي باللون الداكن، حتى بدا كمن يقلّد العتمة. مضمون الحوار يجنح نحو توزيع روشتات "الثورة" التي وقف ضدها فيما بعد إبراهيم الجارحي، وإساءة لرموزها في مصر وسوريا، واصفاً السودانيين بالكسل، وبأنّهم لن يخرجوا للشوارع بسبب حرارة الجو، في محاولة استدعاء نموذج الشعب الكسول الخامل، غير القادر على إنجاز ثورة تضاهي روعة وجمال ورقيّ الثورة المصريّة.
ونصح الجارحي السودانيين بكتابة تغريدات تطالب بإسقاط النظام، بدلاً عن معانقة الشوارع والميادين، ما جلب له غضب مواقع التواصل الاجتماعي التي حاولت تذكيره بأن السودان أنجز ثورتين شعبيتين من قبل ضد أنظمة عسكرية، واحدة في تشرين الأول/أكتوبر 1964 ضد نظام الرئيس الراحل إبراهيم عبود، بجانب انتفاضة عام 1985 ضد نظام الجنرال جعفر محمد نميري.
يبدو للبعض أن تنميط الشخصيات السودانية قد يكون فعلاً قصدياً من قبل جهات لها هدف محدد، وقد يكون فعلاً عفوياً، ولكنه متصل ومستمر بمكانيزم خاص به. وقد يبدو أن وضع هذا المشروع القصدي أو العفوي في سياق الدراما، يُفقد الطرف المستهدف إمكانية النفي والاحتجاج، كما إن الاحتجاج بحسب سفير السودان في الأردن، الصادق الفقيه، قد يعمق الصورة ويروج لها.
واقترح الفقيه في ندوة عقدت بالعاصمة القطرية الدوحة قبل أعوام "دراسة الظاهرة من كل الجوانب، لتمييز القصدي منها والتلقائي، ومدى إسهامنا السلوكي في دعم وترسيخ ما يُقال". وقبل ذلك - كإسعاف أولي- اقترح أن يتم التصدي لمجهودات الدراما العربية، في تسخيف الشخصية السودانية عبر أعمال إبداعية تتجاوز المحلية، تُعلِّي وترفع وتُعظِّم الرموز الناضرة في السودان وتروج للإمكانيات الوافرة.
"نعم هناك تنميط يرقى لدرجة الإساءة"، أو هكذا قال الكاتب والناقد الدرامي السر السيد. وأشار السيد في حديثه لـ"ألترا صوت"، إلى أنّ هذا التنميط بدأته الدراما المصرية ثم أخيراً الدراما الكويتية، مستدركًا: "حتى لا أقع في التنميط أقول بعض فناني الدراما في مصر وفي الكويت".
وقال السر السيد، إن "التنميط بما أنه رسم صورة غير موضوعية للآخر بقدر ما تنهض على التقليل من شأنه والإساءة اليه، إلا أنه في نفس الوقت يشي بعدم المعرفة الدقيقة بهذا الآخر"، ولأنها، أي هذه الصورة، غير موضوعية، فإنها في حالة السودان كما أوضح السيد "تتأسس على بعد عنصرى عليه تنسج بتنوعاتها الكسل و"السواد". ولأن التنميط بطبعه إقصائي، فتعني البشرة الملونة أنك أقل منا، وتعني صفة الكسل أنك فير جدير بما تمتلك من موارد؛ فلاوعي صانع الصورة النمطية لا يصنعها من أجل الإضحاك".
ويعتقد السيد أن ذلك التنميط لا يخلو من بعد سياسي يتمثل في إزاحة هذا الآخر، وذلك بحجب صورته الحقيقية، فالسوداني في الكويت في حقيقته ليس كسولاً، بل مساهماً من موقعه في بناء الكويت، لكنه "لا يستحق هذه الموارد الكبيرة في الثروة الزراعية او المعادن، فمن حقنا أن نستثمر هناك وبالشروط التى نريد. ومن جانب آخر التغطية على ما قام به السودانيون في مختلف المجالات بالمشاركة في تنمية دول الخليج ومن بينها الكويت، كخبراء وعمال وأكاديميين"، كما يقول السر السيد.
لا يخلو التنميط من بعد سياسي يتمثل في تهميش المُنمَّط ووصمه، وذلك بحجب صورته الحقيقية خلف ادعاءات التنميط الزائفة
ويضيف السيد: "أما السوداني في مصر في حقيقته ليس مجرد أسود، وإنما صاحب تاريخ مقاوم، وصاحب حضارة عريقة، وصاحب إرادة ترفض الخضوع، لذلك فالتنميط في بعض الأعمال الدرامية شمال الوادي لا ينفصل عن قضية حلايب، وتمرد السودان على الإرادة المصرية في قضية سد النهضة الأثيوبي، وبهذا الفهم يكون التنميط إساءة، ومرفوضاً من دعاة حقوق الإنسان في كل العالم".
اقرأ/ي أيضًا:
"وردة وكتاب".. حتى الدراما تغدر بالثورة!
عايد علقم: حين تكون فلسطين محور الدراما عربيًا تتم محاربة إنتاجها!