07-مارس-2020

رواد أغنية الحقيبة (أرشيف)

لأربع سنواتٍ، ظلّ محمد جمال الدين، الباحث والراصد لحركة المجتمع والفنون في السودان، مُقتفيًا أثر "أغنية الحقيبة" في البلاد. وهو الفن الغنائي والشعري؛ الذي يعودُ التأريخ له إلى العقد الثاني من القرن العشرين، وحتى الخامس منه. وبرز في هذا اللون الغنائي، العديد من الأسماء، ما يزال لها التأثير الكبير حتى اليوم على الأغنية السودانية، بل وجماهيريتها، وتصل محبة البعض لهذا اللون الغنائي إلى حد التقديس. ومِنْ هنا تُشابه عملية تقديم ملاحظات، أو قراءات وانتقاداتٍ للحقيبة، "رجُّ لمقدّسٍ"، أو سيرٌ في طريقٍ ملغومٍ.

الحقيبة في رأي جمال الدين، بدءًا مفروضة بامتيازٍ عبر الأصابع الكلولنياليّة، بتوسط بعض الشوام والمصريين، الذين وضعوا الزجل المملوكي، المنتشر تلك الفترة، في مصر وبلدان الشام وغيرها

الحقيبة في رأي جمال الدين، بدءًا مفروضة بامتيازٍ عبر الأصابع الكلولنياليّة، بتوسط بعض الشوام والمصريين، الذين وضعوا الزجل المملوكي، المنتشر تلك الفترة، في مصر وبلدان الشام وغيرها، وأن شعراء الحقيبة السودانيين لم يقوموا بأي شيء سوى مجاراة فن الزجل. وكان الغرض وراء ذلك، بحسب الرؤية الاستعماريّة، أنّ الأشكال الفنيّة، من مناحة ودوبيت وحومبي وحماسة وغيرها، وهي التي تتحرّك في دائرتي القبيلة والصوفية، تعمل على إيقاظ معاني "الرجولة، والشجاعة، والإقدام، ورفض الظلم" في نفوس السودانيين، وهو ما لا يتسقُ والرؤية الاستعماريّة.

اقرأ/ي أيضًا: نور الهدى و"دار عزة".. ثلاثة أولاد و579 كتابًا

يقول جمال الدين، في إفادةٍ له لـ "الترا سودان"، إنه عثر على تلك الأسئلة أثناء بحثه الأول عن سكّان السودان، وعن السبب وراء انتشار اللغة العربية في الوسط النيلي، وغيره، مع احتفاظ بقية أطراف السودان بلُغاتها وألسنتها. وهو ما قادهُ للتعرُّف لأول مرةٍ على فن الزجل. الخلاصة التي عدّها جمال الذين مدهشةً، أنّ قصائد كثيرة لشعراء الحقيبة أُخذتْ من الزجل. ليس فقط من ناحية المخيال الزجلي، وإنّما ذات ألفاظه، وهو ما كان صادمًا له في البداية. ومنها بدأ بحثه وتتبعه للحقيبة.

"حقيبة الفن"، بالنسبة لجمال الدين ليست منفصلةً عن تاريخ السودان الاجتماعي والسياسي، والكولونيالي. وكل هذه المداخل مجتمعةً تُساعد في التعريف بحقيبة الفن في السودان. ويرى جمال الدين أنّ تخطيطًا ما متعمَّدًا جرى، بغرض إحلال فن الحقيبة مكان فنونٍ أخرى. ليس هذا فحسب، وإنّما الحقيبة نفسها ليستْ صنيعة شعرائها الستة عشر، وإنّما هي تأثّرٌ واضح وبيّن بفنون الزجل. وهي ذات المفردة -مفردة الزجل- التي وردت كثيرًا في نظمهم لأغنياتهم. يوردُ محمد جمال الأمثلة التالية:

"زاد من نار الصدود وجلي/يا معاني الشعرِ والزجل". وكذلك: "يا بيت القصيد/يا ماحي الزجل/منظر شيء بديع/ما أحلى الغزل".، وثالثًا في: "يا بيت القصيد/يا روح الزجل".

اقرأ/ي أيضًا: الخمريَّاتُ الحماماتُ النائحات

محمد جمال الدين، يرجُّ القداسة عند الحقيبة أبعد من ذلك، فيوردُ أمثلةً عديدةً، يقول عبرها أنّ اتكاء شعراء الحقيبة على ما هو مكتوب من زجل، يصل تشابهًا بعيدًا، يُشكّك في كونه سرقةً أدبيةً، وهي ليست كذلك.

من تلك الأمثلة، قول بن زُمرك الأندلسي: "وقد شدت تسجعُ كالخطيب بمنبر الغصن الرشيق القوام/لما انثنى يهفو بقد رطيب". وهي ما يُقابل الأثر بالأثر، ما كتبه شاعر الحقيبة أبو صلاح، في: "الخطيبة وردفك منبرا/الشعور البسطل عنبرا". من قصيدته المغناة "بدور القلعة".

أو الزجل الذي كتبه صفي الدين الحلي: "حبّي عني حجبوه أهلو/وأسرفوا في جميع حفاظو/حتى الرقيب عني قيد ألفاظو". وهو ما يُماثل وقع الحافر على الحافر –في رأي محمد جمال الدين- قصيدة شاعر الحقيبة عبد الله الأمي: "جارو أهلك وجورهم أمر/في ديارهم حجبو القمر".

لكنها بالنسبة لمحمد جمال الدين لا تعدو كونها "إبداعًا زجليًا سودانيًا أصيلًا، اقتضته المرحلة التاريخية، وصنعته عقول سودانية شابة متحمسة ومبدعة". وهي أيضًا "تنتمي إلى نمطية زجل العهد المملوكي، كما أن نمطية الحقيبة نتجت عن خطة متعمدة ومرتبة سلفًا ولم تكن تلاقحًا طبيعيًا لفنٍ من الفنون".

وبزرت أسماء عديدة في شعر الحقيبة، أشهرهم: صالح عبد السيد "أبو صلاح"، سيد عبد العزيز، عبد الرحمن الريح، عبد الله الأمي، عمر البنا، وعبيد عبد الرحمن. كما برز فيهم مغنون كُثر، يأتي في قُدّامهم: خليل فرح، الحاج محمد أحمد سرور، عبد الكريم كرومة.

وعلى ذيوعها، ووصولها حد المقدّس عند الكثير من معجبيها، يُثبتْ محمد جمال الدين، بأنّ الحقيبة، لم تجد ذيوعًا وتقبّلًا لدى السودانيين، في عقودها الأولى، لأنّها برأيه، كانت نمطًا فنيًا غريبًا عنهم، وعلى المشتغلين بالمجال الفني من الطنابرة. برغم محاولات فرضها، والدعم الحكومي المباشر لها من قبل المستعمر، ثم فرضها عبر الوسائط الإعلامية المتاحة آنذاك.

وللاستدلال، يورد جمال الدين، حادثة إضراب الطنابرة 1921. وحادثة إلغاء أول حفلٍ عام 1930، بسبب اختلاف الجمهور، فيمن يُغني فيه، هل يُغني في الحفل الحاج محمد أحمد سرور، فنان الحقيبة وقتها، أم عبد الله الماحي فنان الطنابرة؟

لكن بعد (30) سنة من بداية الحقيبة، كان عدد كبير من أغاني الحقيبة، مسجّلًا على أسطوانات، فلقيتْ حظها من البثْ، يقول جمال الدين: "كانت الحقيبة هي المادة الغنائية الوحيدة المسجلة دون كل فنون السودان الأخرى.  ومع كثرة التكرار اعتاد الناس على النمط الجديد ومع تطاول الوقت احتفوا به احتفاءً شديدًا مع بداية الستينات وظلوا يرددون كلماته وألحانه كلما حانت المناسبات وهي كثيرة وحتى تاريخ اليوم".

اقرأ/ي أيضًا: سلّم خماسي في "بيت العود العربي" بالخرطوم

ويصل جمال الدين، بآرائه الناقدة فنيًا، وتاريخيًا، واجتماعيًا، لتجربة أغنية الحقيبة حد أنْ يصفها بكونها أغنية مصنوعة لأغراضٍ استعمارية محضة. فيقول: "نمط الحقيبة الغنائي صنع خصيصًا ليكون محايدًا تجاه السياسة والقبيلة والطرق الصوفية".

الباحث "محمد جمال الدين"

ويشرح: "وهو النمط الذي شجعته وتبنته الدولة كل الوقت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ورصدت له ميزانية منذ نشأته، دونًا عن فنون السودان الأخرى، التي يحمل كثيرها بذور التمرّد والثورة على الاستعمار، والنظم العسكرية والديكتاتورية".

ففي رأيه أنّ الحقيبة محاولة من المستعمر لحرف السودانيين من أضراب فنونهم مثل الدوبيت والمناحات والحماسة، الحاوية لمعاني الكرامة والشجاعة والإقدام ورفض الظلم، إلى نمط الحقيبة، الذي يعني بحسب جمال الدين: "نسخة رومانسية مجنحة موضوعها الأساس: المرأة والطبيعة والنسيب".

رويدًا رويدًا انتهت الحدة حيث بدأ بعض الممانعين من مغرمي الحقيبة، يُراجعون فكرة بحث "جمال الدين" من جديدٍ بموضوعيةٍ، ويتقبّلون مداولاتها ونقاشها

بالنسبة للكثيرين من جمهور أغنية الحقيبة، فهم لا يستقبلون آراء جمال الدين، إلا كونها تقليلًا وعدم تقدير لأغنية الحقيبة، بل إنّ جمال الدين يعترف بأنّ بحثه في الحقيبة، واجه "مصاعب كثيرة وعنيفة، من مُغرمي الحقيبة ومتعصبيها، وصلت حد الشتائم المقذّعة، والتهديد بالقتل. لكن رويدًا رويدًا انتهت هذه الحدة حيث بدأ بعض الممانعين من مغرمي الحقيبة، يُراجعون فكرة البحث من جديدٍ بموضوعيةٍ، ويتقبّلون مداولاتها ونقاشها".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"عائشة الفلاّتية".. صوت الوعي الوطني والتمرّد في أغنية السودانيين

ربما أكون مهووسًا بالتغيير